وزارة الفلاحة تدعو البحّارة إلى عدم المجازفة والإبحار الى غاية إستقرار الأحوال الجويّة    خطوط جديدة للشركة الجهوية للنقل بصفاقس    صادم/ كهل يحتجز فتاتين ويغتصب احداهما..وهذه التفاصيل..    قرقنة تكشف مخزونها التراثي: الحرف الأصيلة تحول إلى مشاريع تنموية    نصيحة المحامي منير بن صالحة لكلّ تونسية تفكّر في الطلاق    رئيس جامعة البنوك: تم تاجيل إضراب القطاع إلى ما بعد رأس السنة    السعودية.. الكشف عن اسم وصورة رجل الأمن الذي أنقذ معتمرا من الموت    كأس إفريقيا للأمم : تعادل أنغولا وزيمبابوي (1-1)    موضة ألوان 2026 مناسبة لكل الفصول..اعرفي أبرز 5 تريندات    وزارة التربية تنظّم يوما مفتوحا احتفاء بالخط العربي    أيام القنطاوي السينمائية: ندوة بعنوان "مالذي تستطيعه السينما العربية أمام العولمة؟"    توزر: تنشيط المدينة بكرنفالات احتفالية في افتتاح الدورة 46 من المهرجان الدولي للواحات    قائمة أضخم حفلات رأس السنة 2026    مدرب تنزانيا: منتخبنا واثق من تحقيق نتيجة إيجابية أمام أوغندا    4 أعراض ما تتجاهلهمش! الي تتطلب استشارة طبية فورية    الكاف : عودة الروح إلى مهرجان صليحة للموسيقى التونسية    القصرين: تدعيم المستشفى الجامعي بدر الدين العلوي والمستشفى الجهوي بسبيطلة بآلتي مفراس حديثتين    صادم : أم تركية ترمي رضيعتها من الطابق الرابع    ممثلون وصناع المحتوى نجوم مسلسل الاسيدون    جريمة مزلزلة: أم ترمي رضيعتها من الطابق الرابع..!    مقتل شخصين في عملية دهس وطعن شمالي إسرائيل    عاجل-مُنتصر الطالبي: ''نحبوا نكملو لولالين في المجموعة''    نجم المتلوي: لاعب الترجي الرياضي يعزز المجموعة .. والمعد البدني يتراجع عن قراره    تونس والاردن تبحثان على مزيد تطوير التعاون الثنائي بما يخدم الأمن الغذائي    خبير تونسي: هاو علاش لازمك تستعمل الذكاء الإصطناعي    بداية من شهر جانفي 2026.. اعتماد منظومة E-FOPPRODEX    سيدي بوزيد: "رفاهك في توازنك لحياة أفضل" مشروع تحسيسي لفائدة 25 شابا وشابة    عاجل/ انفجار داخل مسجد بهذه المنطقة..    مارك زوكربيرغ يوزّع سماعات عازلة للحس على الجيران و السبب صادم    محكمة الاستئناف : تأجيل النظر في قضية "انستالينغو" ليوم 09 جانفي القادم    جندوبة: انطلاق اشغال المسلك السياحي الموصل الى الحصن الجنوي بطبرقة    بُشرى للجميع: رمزية 2026 في علم الأرقام    إهمال تنظيف هذا الجزء من الغسالة الأوتوماتيك قد يكلفك الكثير    تونس: مواطنة أوروبية تختار الإسلام رسميًا!    أفضل دعاء يقال اخر يوم جمعة لسنة 2025    سليانة: ضبط برنامج عمل مشترك إستعدادا للاحتفال برأس السنة الإدارية    عاجل: المعهد الوطني للرصد الجوي يعلن إنذار برتقالي اليوم!    عاجل : شركة نقل بنابل تعلن عن انتداب 35 عونا ...الشروط و رابط التسجيل    عاجل : لاعب لريال مدريد يسافر إلى المغرب لدعم منتخب عربي في كأس الأمم الإفريقية    مصر ضد جنوب إفريقيا اليوم: وقتاش و القنوات الناقلة    عاجل/ مع اقتراب عاصفة جوية: الغاء مئات الرحلات بهذه المطارات..    رئيس غرفة تجار المصوغ: أسعار الذهب مرشّحة للارتفاع إلى 500 دينار للغرام في 2026    نابل: حجز وإتلاف 11طنا و133 كغ من المنتجات الغذائية    من الهريسة العائلية إلى رفوف العالم : الملحمة الاستثنائية لسام لميري    تونس : آخر أجل للعفو الجبائي على العقارات المبنية    الرصد الجوّي يُحذّر من أمطار غزيرة بداية من مساء اليوم    أمطار غزيرة متوقعة آخر النهار في هذه المناطق    البحث عن الذات والإيمان.. اللغة بوابة الحقيقة    استدرجها ثم اغتصبها وانهى حياتها/ جريمة مقتل طالبة برواد: القضاء يصدر حكمه..#خبر_عاجل    هام/ كأس أمم افريقيا: موعد مباراة تونس ونيجيريا..    كأس أمم إفريقيا "المغرب 2025": برنامج مقابلات اليوم من الجولة الثانية    عاجل/ قتلى وجرحى في اطلاق نار بهذه المنطقة..    أبرز ما جاء لقاء سعيد برئيسي البرلمان ومجلس الجهات..#خبر_عاجل    روسيا تبدأ أولى التجارب للقاح مضادّ للسّرطان    افتتاح الدورة 57 للمهرجان الدولي للصحراء بدوز... التفاصيل    ترامب يعلن شن ضربة عسكرية على "داعش" في نيجيريا    أولا وأخيرا .. رأس العام بلا مخ ؟    يتميّز بسرعة الانتشار والعدوى/ رياض دغفوس يحذر من المتحور "k" ويدعو..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مع قاعدة: المُسَلَّماتُ العَقْلِيَّةُ والحِسِّيَّةُ مُعْتَبَرَةٌ في الشَّرْعِ
نشر في الحوار نت يوم 28 - 01 - 2015


* أ– قواعد ذات علاقة:
1– الشرع لا يَرِدُ بخلاف العقل = قاعدة أخص
2– لم يَرد الشرع إلا بما أوجبه العقل أو جَوَّزه = قاعدة أخص
3– ما يُعرف ببَدائه العقول وضروراتها لا يجوز أن يَرِدَ الشرع بخلافه = قاعدة لازمة
4– موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول = قاعدة أخص
5– الشرع قد يرد بما لا يقتضيه العقل, إذا كان العقل لا يحيله = قاعدة أخص
6– الشرع مسموع فيما لا يمنع منه العقل = قاعدة لازمة
7– لا تكليف بما لا يطاق = قاعدة مطابقة
8– أدلة العقل تخصص العموم = قاعدة متفرعة
9– يجوز التخصيص بالحس = قاعدة متفرعة


* ب– شرح القاعدة
المراد بالمسَلَّمات: الحقائق والمدركات القطعية التي لا جدال فيها بين العقلاء, فهم جميعا يدركونها ويسلمون بها ويتعاملون على أساسها.
وهذه المسلمات قد يكون إدراكها بالعقل, وقد يكون بالحس, وقد يكون بهما معا. وهي تتشكل وتستقر من خلال بَدَهيات العقل البشري الجماعي, ومن خلال التجارب المتكررة والممارسات المستمرة والعادات السُّنَنِيَّة المُطَّردة.
والمراد بالحس : مجمل الحواس الإنسانية المستعملة في درك الأشياء والأوصاف والأحاسيس المادية, كالحواس الظاهرة المعروفة باسم الحواس الخمس (وهي: السمع والبصر واللمس والشم والذوق).
وأما العقل, فالمراد به: ملكة الفكر والنظر المعنوي, التي تمكِّن صاحبها من التمييز والإدراك واستنتاج الحقائق والمعارف التي لا تدرك بمجرد الحواس.
ومن المعلوم أن أكثر ما يستقر في قلوب الناس وما يصدر عنهم من أحكام وتقديرات, يجتمع في تشكيله العقل والحس في آنٍ واحد, بحيث لا ينفرد به أحدهما. وكثيرا ما يعبر بوصف العقليات, عن قضايا يكون للحس أيضا أثر بالغ في تقديرها وتقريرها, ولكنها تنسب إلى العقل باعتبار الوظيفة التركيبية الاستنتاجية التي يتولاها العقل النظري. وأوضح مثال لهذا هو إدراك وجود الباري سبحانه؛ فهو ثمرة مشتركة — في آن واحد — للإدراكات الحسية والاستنتاجات العقلية, ولكنه عادة ما يصنف باعتباره قضية عقلية.
على أن “المسلَّمات العقلية” المقصودة هنا, لا تدخل فيها الآراء والتقديرات والاختيارات الفكرية, التي تختلف أنظار الناس فيها, تبعاً لانتماءاتهم ومرجعياتهم وطرائق تفكيرهم, بما فيها تلك التي توصف بالعقلانية ويوصف أصحابها بالعقلانيين. كما لا تدخل فيها الأحكام الذاتية الناشئة عن المشاعر والأحاسيس, التي تتفاوت وتختلف بين الناس, بحسب أحوالهم وأذواقهم وطبائعهم.
وقد قدمنا في المبدأ الثالث من هذه المبادئ أنْ (لا حكم إلا لله), وهو يعني أن الأحكام الملزمة للعباد لزوما شرعا, لا تكون إلا من الله تعالى, أو بإذنه وبدليل منه. ويعني كذلك أن العقل لا يستقل بوضع الأحكام الشرعية من عنده. وهذا هو معنى قولهم: (لا حكم للعقل في الشرعيات). فقصارى صلاحية العقل في التشريع: الاجتهادُ في فهم أحكام الشرع, والاستنباطُ من أدلته وهديه, والتخريجُ على أصوله وقواعده. فلذلك تبقى الأحكام الشرعية الاجتهادية, مرهونة في حجيتها وصحتها وإلزاميتها, بمدى اعتمادها على أدلة الشرع ومطابقتها لها. ولهذا قال الإمام مالك بن أنس قولته الشهيرة: “كل واحد يؤخذ منه ويُرَدُّ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
ما نحن فيه الآن لا يتعلق إذاً بالرأي والاجتهاد, ولا يتعلق بالنظر والترجيح العقلي, الذي يخص صاحبه ومن وافقه, ولا يتعلق بالتقديرات الظنية والاختيارات الذاتية النسبية, وإنما يتعلق بما تتفق عليه وتسلم به عقول الناس ومداركهم, أو تشهد به حواسهم وتجاربهم, وهو ما يسميه بعض العلماء “بدائه العقول”.
وبناء عليه, قرر العلماء أن “ما يعرف ببدائه العقول وضروراتها — كالتوحيد وشكر المنعم وقبح الظلم — لا يجوز أن يَرِدَ الشرع بخلافه, وما يعرف بتوليد العقل استنباطاً واستدلالاً فلا يمتنع أن يرد بخلافه“[1]، أو كما جاء في الصيغة الأخرى للقاعدة ” ما يعرف ببدائِهِ العقول وضروراتها لا يجوز أن يَرِدَ الشرع بخلافه”
وأما حين نجد بعض التقديرات والآراء والاستنتجات والمقولات العقلية, تقتضي خلاف ما في الشرع, فمعناه أن فيها هي خطأ ما أو خللا ما, فلا عبرة — حينئذ — بها وبمخالفتها لما جاء به الشرع, {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة — 30] . فالشرع يمكن أن يرد بما لا تدركه العقول, وبما لا تقتضيه العقول, في اجتهاداتها واستدلالاتها, ولكنه لا يأتي أبدا بخلاف البدهيات والمسلمات الضرورية, لا العقلية منها ولا الحسية. بل يأتي بتأييدها والعمل بمقتضاها.
فهذا الذي نعنيه بقاعدة ” الأخذ بالمسلمات العقلية والحسية “, أي أن هذه المسلمات القطعية — بمصدريها العقلي والحسي — معتمَدة في الشرع؛ فيُعمَل بها, ويُبنىَ عليها, ويحتكَم إليها, ولا يقبل ما خالفها. فكل ما تضمنته وأثبتته هذه المسلمات القطعية البدهية, فهو مقبول ومعتمد شرعا. وكل ما شهدت باستحالته وامتناعه, فهو باطل مردود, ولا يجوز القول به أو نسبته إلى الشرع, ولو بدا من ذلك ما بدا.
وعملا بهذا الأصل, يذهب جمهور العلماء — وخاصة منهم الأصوليين — إلى أن العمومات الشرعية إذا تضمنت ظواهرها ما يتنافى مع الحقائق العقلية أو الحسية المقطوع بها, فإنها تخصَّص بما يقتضيه العقل والحس.
— فالتخصيص بالحس: ” كما في قوله تعالى في الريح المرسلة على عاد {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف — 25], أي تهلكه, فإنا ندرك بالحس — أي المشاهدة — ما لا تدمير فيه, كالسماء[2].
- والتخصيص بالعقل: ” كما في قوله تعالى {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد — 16 + الزمر — 62] , فإنا ندرك بالعقل ضرورة أنه — تعالى — ليس خالقا لنفسه.…

ج– أدلة القاعدة:
من المعلوم الذي لا يتطرق إليه شك ولا خلاف, أن الإيمان بالله تعالى, و برسله وكتبه , إنما يقوم على أساس البراهين العقلية والآيات الحسية, أي على قاعدة ” الأخذ بالمسلمات العقلية والحسية ”. فحجة الله سبحانه, وحجة رسله عليهم الصلاة والسلام , ثابتة على العباد بقوة هذه البَدَهيات القطعية التي يقضي بها العقل والحس. ولذلك لم يكن لأحد من الناس عذر في جحودها أو التنكر لها أو حتى الشك فيها.
وقد مرت بنا قبل قليل قاعدة “الشريعة مبنية على الفطرة”. ومن الفطرة التمسك والجزم بالحقائق التي تستيقنها عقول العقلاء وحواسهم. قال ابن عاشور : “واستنتاج المسبَّبات من أسبابها والنتائجِ من مقدماتها فطرة عقلية… والجزم بأن ما نشاهده من الأشياء هو حقائق ثابتة في نفس الأمر فطرة عقلية… [3]”
فعلى هذا لا يتصور أبدا أن الشريعة التي تأسست في أصلها على الفطرة, وعلى الحجج العقلية والحسية, يمكن أن تأتي بما يخالف ذلك أو ينقضه؛ لأن هذا لو وقع لكان نقضا لأصلها وأساسها, وهو ما لا يمكن ولا يجوز بحال. ولذلك ” أجمع العقلاء من أهل الشرائع أنه لا يجوز أن يرد الشرع بما لا يجيزه العقل“[4] لأن الشرع والعقل حجتان من الله تعالى, وحجج الله تتأيد ولا تتناقض“[5].
هذا هو الدليل الإجمالي لهذه القاعدة. وفيما يلي بعض تجلياته وأمثلته.
1– قوله تبارك وتعالى {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة النحل — 78, 79] .
فالله تعالى يُذَكِّر عباده — الذين يولدون وهم لا يعلمون شيئا — ويمتنُّ عليهم بأنه وهبهم وسائل العلم والفهم, وهي الحواس والعقل (السمع والأبصار والأفئدة),. ثم يوجههم ويوجه هذه الوسائل الممنوحة لهم, للنظر في آياته للوصول إلى الإيمان به, ولمزيد من الإيمان به, والشكر له.
2– وإذا كانت مراقي العلم والإيمان والهداية, تأتي من إعمال هذه الوسائل واتباعها, فإن مهاوي الجهل والكفر والضلالة, تأتي من تعطيلها وعدم اتباع مقتضياتها. وذلك دليل آخر على وجوب إعمالها وتحريم تعطيلها.
قال الله جل جلاله {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [سورة الأعراف — 179]
3– الإيمان بالله تعالى, وكذلك معجزات الأنبياء وصدق رسالاتهم, كل هذا إنما يثبت ويحقق مقاصده, بناء على ضرورات الحس والعقل. فالإيمان بالله يأتي من وجوه الإبداع والإعجاز المبثوثة في الكون وسننه. والإيمان بالرسل يأتي من خلال إعجاز عكسي, وهو خرق المعهود من السنن والقوانين الكونية على يد صاحب الدعوة والرسالة.
وفي الحالتين فإن الضرورة والبداهة الحسية والعقلية, هي المرجع في إدراك وجوه الإعجاز, سواء الإعجاز العادي المألوف, أو الإعجاز الاستثنائي الخارق للمألوف.
4– وإذا كانت المسلمات الحسية والعقلية هي المعتمد الأكبر والمستند الأقوى, لإثبات التوحيد وإبطال الشرك, ولإثبات النبوات الحقة وإبطال النبوات الزائفة, فإن اعتمادها في أبواب التشريعات العملية, يكون أولى وأليق.
فسنن الله تعالى في خلقه, بحسب ما تدركه منها عقول الناس وحواسهم, وما تطَّرِد به تجاربهم وعاداتهم, ينبني عليها ما لا يحصى من الأحكام الشرعية. بل إن الشريعة في عمومها مبنية على ذلك ومراعية له.
وهذا ما يعنيه الشاطبي بقوله: ” العوائد الجارية[6] ضرورية الاعتبار شرعا, كانت شرعية في أصلها أو غير شرعية, أي سواء كانت مقررة بالدليل شرعا — أمرا أو نهيا أو إذنا — أم لا. أما المقررة بالدليل فأمرها ظاهر, وأما غيرها فلا يستقيم إقامة التكليف إلا بذلك. فالعادة جرت بأن الزجر سبب الإنكفاف عن المخالفة, كقوله تعالى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة — 179] , فلو لم تُعتبر العادة شرعا لم ينحتم القصاص ولم يشرع, إذ كان يكون شرعا لغير فائدة, وذلك مردود بقوله {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة — 179] . وكذلك البذر سبب لنبات الزرع, والنكاحُ سبب للنسل, والتجارة سبب لنماء المال عادة, كقوله تعالى {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة — 187] {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة — 10] {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة — 198] وما أشبه ذلك, مما يدل على وقوع المسبَّبات عن أسبابها دائما. “[7]
د– تطبيقات القاعدة:
1– “لا يجوز أن يَرد (أي الشرع) بحظر موجبات العقل, كشكر المنعم والعدل والإنصاف وأداء الأمانة ونحوه, أو إباحةِ محظوراته (أي المحظورات العقلية), نحو الظلم والكذب وكفر النعمة والجناية. قال أبو الخطاب في التمهيد : وإلى هذا ذهب عامة أهل العلم من الفقهاء والمتكلمين وعامة الفلاسفة . قلت: وحكاه الآمدي عن أهل الكتاب [8]”.
وهذا يعني أن كل ما قد يفهم من الشرع أو ينسب إليه من الأحكام والمعاني المناقضة قطعا لهذه المسلمات العقلية المجمع عليها, فهو باطل وليس من الشرع في شيء. وكما يقول ابن القيم : ” فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور, وعن الرحمة إلى ضدها, وعن المصلحة إلى المفسدة, وعن الحكمة إلى العبث, فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل [9]”
2– في معنى ( الفطرة ) المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم { كل مولود يولد على الفطرة [10]}، اختلف العلماء على أقوال عدة, أشهرها أن الفطرة هي الإسلام. بمعنى أن الإنسان يولد أول ما يولد مسلما موحدا, ثم قد يأتي من يخرجه من الإسلام, بتهويده أو تنصيره أو تمجيسه. وقد عرض الحافظ ابن عبد البر هذا القول مع غيره من الأقوال في الموضوع, ثم رده ونفى صحته نفيا قاطعا, لكونه يتنافى مع البدهيات العقلية والحسية, حيث نرى الأطفال يولدون ويُمضون مدة من الزمن, وليس لهم شيء من صفات الإسلام التي يكون بها الإنسان مؤمنا ومسلما. ” قال أبو عمر : يستحيل أن تكون الفطرة المذكورة في قول النبي صلى الله عليه وسلم ” كل مولود يولد على الفطرة ” الإسلام؛ لأن الإسلام والإيمان: قول باللسان, واعتقاد بالقلب, وعمل بالجوارح. وهذا معدوم من الطفل, لا يجهل بذلك ذو عقل [11]. ”
وقد اختار رأي القائلين بأن معنى الفطرة: السلامة والاستقامة. ”قال أبو عمر : هذا القول أصح ما قيل في معنى الفطرة التي يولد الناس عليها والله أعلم, وذلك أن الفطرة السلامةُ والاستقامة [12]. ”
وأكد على لسان أصحاب هذا الرأي استحالة تصور الفهم الأول لمعنى الفطرة: ” قالوا: ويستحيل في المعقول أن يكون الطفل في حين ولادته يعقل كفرا أو إيمانا, لأن الله أخرجهم في حال لا يفقهون معها شيئا. قال الله عز وجل: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا} [النحل — 78], فمَنْ لا يعلم شيئا استحال منه كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار…“[13]
3– نص عدد من الفقهاء على أن ” من شروط قبول الدعوى: كون المدعَى مما يحتمل الثبوت, فدعوى ما يستحيل وجوده عقلا أو عادة باطلة, لتيقن الكذب في المستحيل العقلي, كقوله[14] لمعروفِ النسب أو لمن لا يولد مثلُه لمثله: هذا ابني, وظهورِه — أي الكذب — في المستحيل العادي, كدعوى معروفٍ بالفقر أموالا عظيمة على آخر, أنه أقرضه إياها دفعة واحدة, أو غصبها منه. فالظاهر عدم سماعها.” [15]
4– ادعاء المرأة الحمل من زوجها لأقل من ستة أشهر من زواجهما, أو بعد سنين من طلاقها منه, أو من وفاته, لا يُسمع منها, لاستحالته ومنافاته سننَ الله الجارية.
5– وتدخل في هذه القاعدة جميع القطعيات المعلومة المسلمة, ومنها الحقائق العلمية, القطعية النهائية, سواء كانت طبية أو فلكية أو غير ذلك. فلا بد من الأخذ بها والبناء عليها, وذلك بقبول ما تقضي به, وردِّ ما تقضي باستحالته.
6– لو أن شخصا “حصلت له مكاشفة, بأنَّ هذا الماء المعيَّن مغصوب أو نجس, أو أن هذا الشاهد كاذب, أو أن المال لزيد وقد تحصل بالحجة لعمرو, أو ما أشبه ذلك, فلا يصح له العمل على وفق ذلك ما لم يتعين سبب ظاهر. فلا يجوز له الانتقال إلى التيمم, ولا ترك قبول الشاهد, ولا الشهادةُ بالمال لزيد على حال. فإن الظواهر قد تعَيَّنَ فيها بحكم الشريعة أمرٌ آخر, فلا يتركها اعتمادا على مجرد المكاشفة أو الفراسة, كما لا يعتمد فيها على الرؤيا النومية. ولو جاز ذلك لجاز نقض الأحكام بها وإن ترتبت في الظاهر موجباتها, وهذا غير صحيح بحال.“[16]
ه — استثناءات من القاعدة:
يستثنى من هذه القاعدة خصوصيات الأنبياء وتصرفاتهم التي تكون بأمر الله عز وجل أو بوحي منه سبحانه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [سورة الجن،6]. فالرسل عليهم السلام, يُخرق لهم من السنن المعتادة, ويكشف لهم من أسرار الغيب, ما يُثبت صدق رسالتهم ومقامهم عند ربهم, كحادثة الإسراء والمعراج, التي جرت لخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم , وترتبت عنها وعن خبرها أحكام عديدة في العقيدة والشريعة. وكإحياء الموتى, وإبراء الأمراض المستعصية — بغير دواء — على يد نبي الله عيسى بن مريم عليهما السلام. وكحمل مريم وولادتها, من غير أن يقربها رجل. والأمثلة في هذا الباب كثيرة ومستفيضة…


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.