الصحة العالمية.. استهلاك الملح بكثرة يقتل 10 آلاف شخص يوميا في أوروبا    عُثِرَ عليه بالصدفة.. تطورات جديدة في قضية الرجل المفقود منذ حوالي 30 سنة بالجزائر    عاجل: لأول مرة: تونس تصل المرتبة الثانية ضمن التصنيف الدولي للبيزبول    السلطات الاسبانية ترفض رسوّ سفينة تحمل أسلحة إلى الكيان الصهيوني    الديبلوماسي عبد الله العبيدي يعلق على تحفظ تونس خلال القمة العربية    يوميات المقاومة .. هجمات مكثفة كبّدت الاحتلال خسائر فادحة ...عمليات بطولية للمقاومة    فتحت ضدّه 3 أبحاث تحقيقية .. إيداع المحامي المهدي زقروبة... السجن    المنستير .. المؤبّد لقاتلة صديقها السابق خنقا    في ملتقى روسي بصالون الفلاحة بصفاقس ...عرض للقدرات الروسية في مجال الصناعات والمعدات الفلاحية    رفض وجود جمعيات مرتهنة لقوى خارجية ...قيس سعيّد : سيادة تونس خط أحمر    دخول مجاني للمتاحف والمواقع الأثرية    ارتفاع عجز الميزان الطاقي    دغفوس: متحوّر "فليرت" لا يمثل خطورة    العدل الدولية تنظر في إجراءات إضافية ضد إسرائيل بطلب من جنوب أفريقيا    تعزيز نسيج الشركات الصغرى والمتوسطة في مجال الطاقات المتجددة يساهم في تسريع تحقيق أهداف الاستراتيجية الوطنية للانتقال الطاقي قبل موفى 2030    كاس تونس - تعيينات حكام مباريات الدور ثمن النهائي    الترفيع في عدد الجماهير المسموح لها بحضور مباراة الترجي والاهلي الى 34 الف مشجعا    جلسة بين وزير الرياضة ورئيس الهيئة التسييرية للنادي الإفريقي    فيفا يدرس السماح بإقامة مباريات البطولات المحلية في الخارج    إمضاء اتّفاقية تعبئة قرض مجمع بالعملة لدى 16 مؤسسة بنكية محلية    وكالة (وات) في عرض "المتوسط" مع الحرس .. الموج هادر .. المهاجرون بالمئات .. و"الوضع تحت السيطرة" (ريبورتاج)    طقس الليلة    سوسة: الحكم بسجن 50 مهاجرا غير نظامي من افريقيا جنوب الصحراء مدة 8 اشهر نافذة    القيروان: إنقاذ طفل إثر سقوطه في بئر عمقها حوالي 18 مترا    تأمين الامتحانات الوطنية محور جلسة عمل بين وزارتي الداخليّة والتربية    كلمة وزير الخارجية التونسي نبيل عمار أمام القمة العربية    باجة: باحثون في التراث يؤكدون ان التشريعات وحدها لا تكفي للمحافظة علي الموروث الاثري للجهة    توزر: تظاهرة احتفالية تستعرض إبداعات أطفال الكتاتيب في مختتم السنة التربوية للكتاتيب بالجهة    وزارة الثقافة تنعى المطربة سلمى سعادة    صفاقس تستعدّ للدورة 44 لمهرجانها الصيفي    صفاقس: هدوء يسود معتمدية العامرة البارحة بعد إشتباكات بين مهاجرين غير نظاميين من دول جنوب الصحراء    وزارة الفلاحة توجه نداء هام الفلاحين..    "فيفا" يقترح فرض عقوبات إلزامية ضد العنصرية تشمل خسارة مباريات    جندوبة: وزير الفلاحة يُدشن مشروع تعلية سد بوهرتمة    عاجل: "قمة البحرين" تُطالب بنشر قوات حفظ السلام في فلسطين..    هل سيقاطعون التونسيون أضحية العيد هذه السنة ؟    106 أيام توريد..مخزون تونس من العملة الصعبة    اليوم : انطلاق الاختبارات التطبيقية للدورة الرئيسية لتلاميذ الباكالوريا    سوسة: الإطاحة بوفاق إجرامي تعمّد التهجّم على مقهى بغاية السلب باستعمال أسلحة بيضاء    ناجي الجويني يكشف عن التركيبة الجديدة للإدارة الوطنية للتحكيم    المعهد الوطني للإحصاء: انخفاض نسبة البطالة إلى حدود 16,2 بالمائة    سيدي بوزيد: انطلاق الدورة 19 من مهرجان السياحة الثقافية والفنون التراثية ببئر الحفي    رئيس الجمهورية يبحث مع رئيس الحكومة سير العمل الحكومي    قيس سعيد يُؤكّد القبض على محام بتهمة المشاركة في وفاق إرهابي وتبييض أموال    عاجل: متحوّر كورونا جديد يهدّد العالم وهؤلاء المستهدفون    ظهورالمتحور الجديد لكورونا ''فيلرت '' ما القصة ؟    الأيام الرومانية بالجم . .ورشات وفنون تشكيلة وندوات فكرية    محمد بوحوش يكتب...أدب الاعتراف؟    الخُطوط التُونسية في ليبيا تتكبد خسائر وتوقف رحلاتها.    بطولة اسبانيا : أتليتيكو يهزم خيتافي ويحسم التأهل لرابطة الأبطال الاوروبية    إصدارات.. الإلحاد في الفكر العربي الإسلامي: نبش في تاريخية التكفير    زلزال بقوة 5.2 درجات يضرب هذه المنطقة..    استشهاد 3 فلسطينيين بنيران جيش الاحتلال في الضفة الغربية    أمراض القلب والجلطات الدماغية من ابرز أسباب الوفاة في تونس سنة 2021    مفتي الجمهورية... «الأضحية هي شعيرة يجب احترامها، لكنّها مرتبطة بشرط الاستطاعة»    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مع قاعدة: المُسَلَّماتُ العَقْلِيَّةُ والحِسِّيَّةُ مُعْتَبَرَةٌ في الشَّرْعِ
نشر في الحوار نت يوم 28 - 01 - 2015


* أ– قواعد ذات علاقة:
1– الشرع لا يَرِدُ بخلاف العقل = قاعدة أخص
2– لم يَرد الشرع إلا بما أوجبه العقل أو جَوَّزه = قاعدة أخص
3– ما يُعرف ببَدائه العقول وضروراتها لا يجوز أن يَرِدَ الشرع بخلافه = قاعدة لازمة
4– موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول = قاعدة أخص
5– الشرع قد يرد بما لا يقتضيه العقل, إذا كان العقل لا يحيله = قاعدة أخص
6– الشرع مسموع فيما لا يمنع منه العقل = قاعدة لازمة
7– لا تكليف بما لا يطاق = قاعدة مطابقة
8– أدلة العقل تخصص العموم = قاعدة متفرعة
9– يجوز التخصيص بالحس = قاعدة متفرعة


* ب– شرح القاعدة
المراد بالمسَلَّمات: الحقائق والمدركات القطعية التي لا جدال فيها بين العقلاء, فهم جميعا يدركونها ويسلمون بها ويتعاملون على أساسها.
وهذه المسلمات قد يكون إدراكها بالعقل, وقد يكون بالحس, وقد يكون بهما معا. وهي تتشكل وتستقر من خلال بَدَهيات العقل البشري الجماعي, ومن خلال التجارب المتكررة والممارسات المستمرة والعادات السُّنَنِيَّة المُطَّردة.
والمراد بالحس : مجمل الحواس الإنسانية المستعملة في درك الأشياء والأوصاف والأحاسيس المادية, كالحواس الظاهرة المعروفة باسم الحواس الخمس (وهي: السمع والبصر واللمس والشم والذوق).
وأما العقل, فالمراد به: ملكة الفكر والنظر المعنوي, التي تمكِّن صاحبها من التمييز والإدراك واستنتاج الحقائق والمعارف التي لا تدرك بمجرد الحواس.
ومن المعلوم أن أكثر ما يستقر في قلوب الناس وما يصدر عنهم من أحكام وتقديرات, يجتمع في تشكيله العقل والحس في آنٍ واحد, بحيث لا ينفرد به أحدهما. وكثيرا ما يعبر بوصف العقليات, عن قضايا يكون للحس أيضا أثر بالغ في تقديرها وتقريرها, ولكنها تنسب إلى العقل باعتبار الوظيفة التركيبية الاستنتاجية التي يتولاها العقل النظري. وأوضح مثال لهذا هو إدراك وجود الباري سبحانه؛ فهو ثمرة مشتركة — في آن واحد — للإدراكات الحسية والاستنتاجات العقلية, ولكنه عادة ما يصنف باعتباره قضية عقلية.
على أن “المسلَّمات العقلية” المقصودة هنا, لا تدخل فيها الآراء والتقديرات والاختيارات الفكرية, التي تختلف أنظار الناس فيها, تبعاً لانتماءاتهم ومرجعياتهم وطرائق تفكيرهم, بما فيها تلك التي توصف بالعقلانية ويوصف أصحابها بالعقلانيين. كما لا تدخل فيها الأحكام الذاتية الناشئة عن المشاعر والأحاسيس, التي تتفاوت وتختلف بين الناس, بحسب أحوالهم وأذواقهم وطبائعهم.
وقد قدمنا في المبدأ الثالث من هذه المبادئ أنْ (لا حكم إلا لله), وهو يعني أن الأحكام الملزمة للعباد لزوما شرعا, لا تكون إلا من الله تعالى, أو بإذنه وبدليل منه. ويعني كذلك أن العقل لا يستقل بوضع الأحكام الشرعية من عنده. وهذا هو معنى قولهم: (لا حكم للعقل في الشرعيات). فقصارى صلاحية العقل في التشريع: الاجتهادُ في فهم أحكام الشرع, والاستنباطُ من أدلته وهديه, والتخريجُ على أصوله وقواعده. فلذلك تبقى الأحكام الشرعية الاجتهادية, مرهونة في حجيتها وصحتها وإلزاميتها, بمدى اعتمادها على أدلة الشرع ومطابقتها لها. ولهذا قال الإمام مالك بن أنس قولته الشهيرة: “كل واحد يؤخذ منه ويُرَدُّ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
ما نحن فيه الآن لا يتعلق إذاً بالرأي والاجتهاد, ولا يتعلق بالنظر والترجيح العقلي, الذي يخص صاحبه ومن وافقه, ولا يتعلق بالتقديرات الظنية والاختيارات الذاتية النسبية, وإنما يتعلق بما تتفق عليه وتسلم به عقول الناس ومداركهم, أو تشهد به حواسهم وتجاربهم, وهو ما يسميه بعض العلماء “بدائه العقول”.
وبناء عليه, قرر العلماء أن “ما يعرف ببدائه العقول وضروراتها — كالتوحيد وشكر المنعم وقبح الظلم — لا يجوز أن يَرِدَ الشرع بخلافه, وما يعرف بتوليد العقل استنباطاً واستدلالاً فلا يمتنع أن يرد بخلافه“[1]، أو كما جاء في الصيغة الأخرى للقاعدة ” ما يعرف ببدائِهِ العقول وضروراتها لا يجوز أن يَرِدَ الشرع بخلافه”
وأما حين نجد بعض التقديرات والآراء والاستنتجات والمقولات العقلية, تقتضي خلاف ما في الشرع, فمعناه أن فيها هي خطأ ما أو خللا ما, فلا عبرة — حينئذ — بها وبمخالفتها لما جاء به الشرع, {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة — 30] . فالشرع يمكن أن يرد بما لا تدركه العقول, وبما لا تقتضيه العقول, في اجتهاداتها واستدلالاتها, ولكنه لا يأتي أبدا بخلاف البدهيات والمسلمات الضرورية, لا العقلية منها ولا الحسية. بل يأتي بتأييدها والعمل بمقتضاها.
فهذا الذي نعنيه بقاعدة ” الأخذ بالمسلمات العقلية والحسية “, أي أن هذه المسلمات القطعية — بمصدريها العقلي والحسي — معتمَدة في الشرع؛ فيُعمَل بها, ويُبنىَ عليها, ويحتكَم إليها, ولا يقبل ما خالفها. فكل ما تضمنته وأثبتته هذه المسلمات القطعية البدهية, فهو مقبول ومعتمد شرعا. وكل ما شهدت باستحالته وامتناعه, فهو باطل مردود, ولا يجوز القول به أو نسبته إلى الشرع, ولو بدا من ذلك ما بدا.
وعملا بهذا الأصل, يذهب جمهور العلماء — وخاصة منهم الأصوليين — إلى أن العمومات الشرعية إذا تضمنت ظواهرها ما يتنافى مع الحقائق العقلية أو الحسية المقطوع بها, فإنها تخصَّص بما يقتضيه العقل والحس.
— فالتخصيص بالحس: ” كما في قوله تعالى في الريح المرسلة على عاد {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف — 25], أي تهلكه, فإنا ندرك بالحس — أي المشاهدة — ما لا تدمير فيه, كالسماء[2].
- والتخصيص بالعقل: ” كما في قوله تعالى {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد — 16 + الزمر — 62] , فإنا ندرك بالعقل ضرورة أنه — تعالى — ليس خالقا لنفسه.…

ج– أدلة القاعدة:
من المعلوم الذي لا يتطرق إليه شك ولا خلاف, أن الإيمان بالله تعالى, و برسله وكتبه , إنما يقوم على أساس البراهين العقلية والآيات الحسية, أي على قاعدة ” الأخذ بالمسلمات العقلية والحسية ”. فحجة الله سبحانه, وحجة رسله عليهم الصلاة والسلام , ثابتة على العباد بقوة هذه البَدَهيات القطعية التي يقضي بها العقل والحس. ولذلك لم يكن لأحد من الناس عذر في جحودها أو التنكر لها أو حتى الشك فيها.
وقد مرت بنا قبل قليل قاعدة “الشريعة مبنية على الفطرة”. ومن الفطرة التمسك والجزم بالحقائق التي تستيقنها عقول العقلاء وحواسهم. قال ابن عاشور : “واستنتاج المسبَّبات من أسبابها والنتائجِ من مقدماتها فطرة عقلية… والجزم بأن ما نشاهده من الأشياء هو حقائق ثابتة في نفس الأمر فطرة عقلية… [3]”
فعلى هذا لا يتصور أبدا أن الشريعة التي تأسست في أصلها على الفطرة, وعلى الحجج العقلية والحسية, يمكن أن تأتي بما يخالف ذلك أو ينقضه؛ لأن هذا لو وقع لكان نقضا لأصلها وأساسها, وهو ما لا يمكن ولا يجوز بحال. ولذلك ” أجمع العقلاء من أهل الشرائع أنه لا يجوز أن يرد الشرع بما لا يجيزه العقل“[4] لأن الشرع والعقل حجتان من الله تعالى, وحجج الله تتأيد ولا تتناقض“[5].
هذا هو الدليل الإجمالي لهذه القاعدة. وفيما يلي بعض تجلياته وأمثلته.
1– قوله تبارك وتعالى {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة النحل — 78, 79] .
فالله تعالى يُذَكِّر عباده — الذين يولدون وهم لا يعلمون شيئا — ويمتنُّ عليهم بأنه وهبهم وسائل العلم والفهم, وهي الحواس والعقل (السمع والأبصار والأفئدة),. ثم يوجههم ويوجه هذه الوسائل الممنوحة لهم, للنظر في آياته للوصول إلى الإيمان به, ولمزيد من الإيمان به, والشكر له.
2– وإذا كانت مراقي العلم والإيمان والهداية, تأتي من إعمال هذه الوسائل واتباعها, فإن مهاوي الجهل والكفر والضلالة, تأتي من تعطيلها وعدم اتباع مقتضياتها. وذلك دليل آخر على وجوب إعمالها وتحريم تعطيلها.
قال الله جل جلاله {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [سورة الأعراف — 179]
3– الإيمان بالله تعالى, وكذلك معجزات الأنبياء وصدق رسالاتهم, كل هذا إنما يثبت ويحقق مقاصده, بناء على ضرورات الحس والعقل. فالإيمان بالله يأتي من وجوه الإبداع والإعجاز المبثوثة في الكون وسننه. والإيمان بالرسل يأتي من خلال إعجاز عكسي, وهو خرق المعهود من السنن والقوانين الكونية على يد صاحب الدعوة والرسالة.
وفي الحالتين فإن الضرورة والبداهة الحسية والعقلية, هي المرجع في إدراك وجوه الإعجاز, سواء الإعجاز العادي المألوف, أو الإعجاز الاستثنائي الخارق للمألوف.
4– وإذا كانت المسلمات الحسية والعقلية هي المعتمد الأكبر والمستند الأقوى, لإثبات التوحيد وإبطال الشرك, ولإثبات النبوات الحقة وإبطال النبوات الزائفة, فإن اعتمادها في أبواب التشريعات العملية, يكون أولى وأليق.
فسنن الله تعالى في خلقه, بحسب ما تدركه منها عقول الناس وحواسهم, وما تطَّرِد به تجاربهم وعاداتهم, ينبني عليها ما لا يحصى من الأحكام الشرعية. بل إن الشريعة في عمومها مبنية على ذلك ومراعية له.
وهذا ما يعنيه الشاطبي بقوله: ” العوائد الجارية[6] ضرورية الاعتبار شرعا, كانت شرعية في أصلها أو غير شرعية, أي سواء كانت مقررة بالدليل شرعا — أمرا أو نهيا أو إذنا — أم لا. أما المقررة بالدليل فأمرها ظاهر, وأما غيرها فلا يستقيم إقامة التكليف إلا بذلك. فالعادة جرت بأن الزجر سبب الإنكفاف عن المخالفة, كقوله تعالى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة — 179] , فلو لم تُعتبر العادة شرعا لم ينحتم القصاص ولم يشرع, إذ كان يكون شرعا لغير فائدة, وذلك مردود بقوله {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة — 179] . وكذلك البذر سبب لنبات الزرع, والنكاحُ سبب للنسل, والتجارة سبب لنماء المال عادة, كقوله تعالى {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة — 187] {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة — 10] {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة — 198] وما أشبه ذلك, مما يدل على وقوع المسبَّبات عن أسبابها دائما. “[7]
د– تطبيقات القاعدة:
1– “لا يجوز أن يَرد (أي الشرع) بحظر موجبات العقل, كشكر المنعم والعدل والإنصاف وأداء الأمانة ونحوه, أو إباحةِ محظوراته (أي المحظورات العقلية), نحو الظلم والكذب وكفر النعمة والجناية. قال أبو الخطاب في التمهيد : وإلى هذا ذهب عامة أهل العلم من الفقهاء والمتكلمين وعامة الفلاسفة . قلت: وحكاه الآمدي عن أهل الكتاب [8]”.
وهذا يعني أن كل ما قد يفهم من الشرع أو ينسب إليه من الأحكام والمعاني المناقضة قطعا لهذه المسلمات العقلية المجمع عليها, فهو باطل وليس من الشرع في شيء. وكما يقول ابن القيم : ” فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور, وعن الرحمة إلى ضدها, وعن المصلحة إلى المفسدة, وعن الحكمة إلى العبث, فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل [9]”
2– في معنى ( الفطرة ) المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم { كل مولود يولد على الفطرة [10]}، اختلف العلماء على أقوال عدة, أشهرها أن الفطرة هي الإسلام. بمعنى أن الإنسان يولد أول ما يولد مسلما موحدا, ثم قد يأتي من يخرجه من الإسلام, بتهويده أو تنصيره أو تمجيسه. وقد عرض الحافظ ابن عبد البر هذا القول مع غيره من الأقوال في الموضوع, ثم رده ونفى صحته نفيا قاطعا, لكونه يتنافى مع البدهيات العقلية والحسية, حيث نرى الأطفال يولدون ويُمضون مدة من الزمن, وليس لهم شيء من صفات الإسلام التي يكون بها الإنسان مؤمنا ومسلما. ” قال أبو عمر : يستحيل أن تكون الفطرة المذكورة في قول النبي صلى الله عليه وسلم ” كل مولود يولد على الفطرة ” الإسلام؛ لأن الإسلام والإيمان: قول باللسان, واعتقاد بالقلب, وعمل بالجوارح. وهذا معدوم من الطفل, لا يجهل بذلك ذو عقل [11]. ”
وقد اختار رأي القائلين بأن معنى الفطرة: السلامة والاستقامة. ”قال أبو عمر : هذا القول أصح ما قيل في معنى الفطرة التي يولد الناس عليها والله أعلم, وذلك أن الفطرة السلامةُ والاستقامة [12]. ”
وأكد على لسان أصحاب هذا الرأي استحالة تصور الفهم الأول لمعنى الفطرة: ” قالوا: ويستحيل في المعقول أن يكون الطفل في حين ولادته يعقل كفرا أو إيمانا, لأن الله أخرجهم في حال لا يفقهون معها شيئا. قال الله عز وجل: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا} [النحل — 78], فمَنْ لا يعلم شيئا استحال منه كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار…“[13]
3– نص عدد من الفقهاء على أن ” من شروط قبول الدعوى: كون المدعَى مما يحتمل الثبوت, فدعوى ما يستحيل وجوده عقلا أو عادة باطلة, لتيقن الكذب في المستحيل العقلي, كقوله[14] لمعروفِ النسب أو لمن لا يولد مثلُه لمثله: هذا ابني, وظهورِه — أي الكذب — في المستحيل العادي, كدعوى معروفٍ بالفقر أموالا عظيمة على آخر, أنه أقرضه إياها دفعة واحدة, أو غصبها منه. فالظاهر عدم سماعها.” [15]
4– ادعاء المرأة الحمل من زوجها لأقل من ستة أشهر من زواجهما, أو بعد سنين من طلاقها منه, أو من وفاته, لا يُسمع منها, لاستحالته ومنافاته سننَ الله الجارية.
5– وتدخل في هذه القاعدة جميع القطعيات المعلومة المسلمة, ومنها الحقائق العلمية, القطعية النهائية, سواء كانت طبية أو فلكية أو غير ذلك. فلا بد من الأخذ بها والبناء عليها, وذلك بقبول ما تقضي به, وردِّ ما تقضي باستحالته.
6– لو أن شخصا “حصلت له مكاشفة, بأنَّ هذا الماء المعيَّن مغصوب أو نجس, أو أن هذا الشاهد كاذب, أو أن المال لزيد وقد تحصل بالحجة لعمرو, أو ما أشبه ذلك, فلا يصح له العمل على وفق ذلك ما لم يتعين سبب ظاهر. فلا يجوز له الانتقال إلى التيمم, ولا ترك قبول الشاهد, ولا الشهادةُ بالمال لزيد على حال. فإن الظواهر قد تعَيَّنَ فيها بحكم الشريعة أمرٌ آخر, فلا يتركها اعتمادا على مجرد المكاشفة أو الفراسة, كما لا يعتمد فيها على الرؤيا النومية. ولو جاز ذلك لجاز نقض الأحكام بها وإن ترتبت في الظاهر موجباتها, وهذا غير صحيح بحال.“[16]
ه — استثناءات من القاعدة:
يستثنى من هذه القاعدة خصوصيات الأنبياء وتصرفاتهم التي تكون بأمر الله عز وجل أو بوحي منه سبحانه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [سورة الجن،6]. فالرسل عليهم السلام, يُخرق لهم من السنن المعتادة, ويكشف لهم من أسرار الغيب, ما يُثبت صدق رسالتهم ومقامهم عند ربهم, كحادثة الإسراء والمعراج, التي جرت لخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم , وترتبت عنها وعن خبرها أحكام عديدة في العقيدة والشريعة. وكإحياء الموتى, وإبراء الأمراض المستعصية — بغير دواء — على يد نبي الله عيسى بن مريم عليهما السلام. وكحمل مريم وولادتها, من غير أن يقربها رجل. والأمثلة في هذا الباب كثيرة ومستفيضة…


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.