كنت جالسة في المستشفى بانتظار دوري للدخول عند الطبيبة، وكان بجانبي أمّ وطفلة تبلغ من العمر ما يقارب الخمس أو السّت سنوات.. نهضت الأم وقالت للصغيرة: لا تقومي من مكانك، سأذهب وآتي بصور الأشعة وأعود إليك... ثم انصرفت... أحسّست أنّ الفتاة بدأت تتململ لتأخر أمّها عنها، فوجدت يدي قد تسلّلت وبخفة وعبثت بخصلات جديلتها، فالتفتت نحوي، وقالت : ماما رجعتِ؟؟.. استغربت من الموقف كيف تقول هذا، ألم تراني ؟!! سألتها عن اسمها وتجاهلت ما قالته، إلا أنّها سكتت لبرهة قبل أن تجيب، ومن ثمّ أردفت قائلة: أنا اسمي راما.. وبعد لحظات عادت وسألت: وأنت ما اسمك ؟؟ أخبرتها به .. كنت أحدّثها وأنا أعبث بهاتفي وأقرأ ما فيه من رسائل، إلا أنّها حين أرخت عن ظهرها حقيبتها، وبدأت تتحسّسها لتفتحها لفتت نظري من خلال حركة يديها، لم تحنِ رأسها للأسفل نحو الحقيبة، نظرت إلى عينيها السارحتين ، مررت يدي أمامهما مرات عديدة ، لم أرَ أيّ تفاعل أو أيّة استجابة منهما .. كان هذا الموقف بالنسبة لي أشبه بصدمة،، تغشاني الصمت.. فظنّت هي أنّي ذهبت أيضا فقالت: خالتي هل تركتني وذهبت أنت مثل ماما ، قلت لها: لا يا حبيبتي أنا ما زلت هنا. مدّت يدها بعيدا عني وقالت: خذي هذه الشوكولا، أخذتها منها .. قالت: هذه الشوكولا لذيذة جدا ، كليها !!! قلت لها : نعم ، إن شاء الله. لكنّي لم أستطع أن أفتحها.. أردت أن تبقى معي لتكون ذكرى من راما الطفلة التي ستكبر يوما دون بصر.. تتحسّس الأشياء ،لكن لن تراها!!.. تسمع خرير المياه،، ولا ترى النهر!!.. تشمّ عطر الورد،، ولا ترى جماله وبهائه... تعايش الناس،، ولا ترى معالم وجوههم.. كم هي جميلة هذه العيون الكحيلة،، سبحان الله.. كانت ستحوز الكمال لو حازت على نعمة البصر... لكن هي إرادة الله يا راما الحبيبة عساه أن يعوّضك بنعمة البصيرة.
** وأيّ امرأة هذه؟؟
قد تغضب المرأة.. نعم!!. قد تثور ويرتفع صوتها.. نعم!!. قد تقلّد الرجال في تصرفاتها.. ممكن!!! قد تضرب ابنها وفلذة كبدها وبقسوة.. أيضا ممكن!!. ولكن أن تعتدي المرأة على زوجها بالضرب.. فهذا أمر عجيب، غريب، فريد، ونادر.. خاصة في مجتمعاتنا الشرقية، وأن يكون الزوج مسنّا ومريضا لا يقوى على الحراك وفوق هذا يعاني من شلل نصفي، فهذا لم أعرف بعد ماذا أسميه ؟؟!!.. أن يُضرب مثل هذا الشيخ لأجل شيء طلبه من زوجته العجوز ك كوب من الماء أو طعام يأكله، أو لربما لأنّه يئن ويتأوّه من أوجاعه وأسقامه وما يعانيه من آلام .. أن يربط بالسرير ولأجل طلبات عادية ،، فهذا حدث رهيب وفظيع !!! أيأتيه الضرب المبرّح من أجل مطالبته ببديهيات الحياة!!! لا تذهلوا كما ذهلت،، ولا تتعجبوا، ولا تصرخوا كما صرخت يومها!! لا تقولوا هذا مستحيل، وأنّه غير معقول !! بل أصبح كل شيء معقول في مجتمع غير معقول. .. وأسفااه أقولها!!!.. وأسفاه على هذه الأنواع البشريّة التي ما فتأت تتكاثر في دنيانا.. تنتزع الرحمة والشفقة من قلوبها.. وتغرس مكانها أشواك الجور والغلظة والقسوة. كان من الغريب أن نعثر على امرأة بهذه الوحشية لكنّها اليوم أصبحت متاحة.. بل هناك الأشنع!!.. أن تربط امرأة عجوز زوجها المسنّ بالسرير لتنهال عليه ضربا مبرّحا، وأن يأتي ابنها الذي يضربها أحيانا فيعينها على ضرب والده، فهذه من العجائب والغرائب في مجتمع إسلامي!!.. ويا لهول ذلك المسكين الذي يصيح ويستنجد ولكن من ذا يجيب، ثم يخفت صوته ليصبح أشبه بعاصفة رعديّة هبّت وانحسرت.. من رآى هذه المرأة وجدها قويّة مستبدة إلى حدّ مفزع .. هي متسلطة ذات طبع شرس،، ولكن لم يخطر أبدا في بالي أن تكون بهذه الوحشية والإجرام !! ولا أعرف لما طرأ عليّ هذا التساؤل :أكان الزوج يعذبها في أيام عنفوانه ، عدت وقلت وإن كان هذا!!.. فإنّ تعديها عليه بالضرب ليس أبدا بالأمر المبرر وهو المريض المسنّ.. بل وهو الرجل ومن ثمّ الزوج.. لا أدري إن كان ما يحدث لهذا الشيخ المسنّ هو من قبيل كما تدين تدان، أو من الابتلاء.. أو لربما من أي قبيل آخر، لكن ما أعرفه هو أن تداعيات هذا المشهد مرهقة ومؤلمة وقاسية على من شاهد وسمع،، فكيف بمن وقع عليه الفعل؟؟ ...
** ليتني أذهب إلى المدرسة !!!
كان واقفا أمام المدخل الرئيسي لسوق الخضار ، متكئا على عربة خاصّة يستخدمونها لحمل الخضروات لمن أراد ذلك، يترقب المشترين الذين لا يحملون مشترياتهم بل يستأجرون أمثاله من الأطفال أو الشبان بعرباتهم .. عندما هممت بالدخول إلى السوق سألني هل أريد عربة، لم أعرف حينها كيف أتصرف.. ترددت بقول نعم أم لا.. فلم أستطع أن أقول له نعم خوفا من أن آمره بشيء،-أن افعل كذا والحقني ..- وووو الخ .. ولم أقدر أن أقول لا فعلى ما يبدو هو محتاج للمال وأنّه لولا الحاجة لما كان في هذا الموقع .. أعاد السؤال : بدّك عرباية ؟؟ هززت له برأسي فقط ، فتبعني .. تكلمت معه وسألته عن اسمه وما الذي جعله يعمل في السوق وخاصة أنّنا في موسم المدراس.. قال لي أنّ والده قد توفي منذ سنة تقريبا وتركه وأمه وأخته التي تبلغ السابعة عشرة من عمرها، فبعد موت الأب وتقسيم الأموال تخلى الأخوين الكبيرين المتزوجين عنهم ولم يسألوا أبدا عن مصير هذه الأم والأخ الصغير والأخت الوحيدة، هذا الأمر جعل من أمّه تدفع به إلى سوق الشغل حتى يعيلهم طالما أنّها وابنتها لا يقدران على ذلك، ولا يجدان معيلا غيره. سألته عن أمنيته، فقال بحرقة: ليتني أذهب كغيري إلى المدرسة !!!!! لم يسعفها إلا الصمت أمام كلماته.. ماذا تقول والعالم يعيش في اختلال عجيب.. واحد يتقلب في النعم ويتذمر من طلب العلم ويتهرّب من المدارس والفصول.. وآخر أمنيته أن يلج باب المدرسة وقسوة الحياة تدفعه بعيدا عنها!!!
**على من يقع اللوم ؟؟؟!!
زوّجوها .. أنجبت أربعة أطفال،، كان يأتي مخمورا في آخر الليل، ينهال عليها ضربا وهي نائمة، وبين الحين والآخر كانت تلجأ إلى بيت أهلها راجية من إخوتها أن تبقى عندهم، إلا أنهم كانوا يصرّون على عودتها إلى منزلها من أجل أولادها، فتعود.. يتكرر هذا السيناريو بشكل يومي تقريبا، وهي تتأرجح بين بيت أهلها وبيت زوجها، فعندهم الطلاق يعتبر أمرا عظيما وعارا لا يغتفر.. ولأنّ عاداتهم مقدسة ترتقي إلى مستوى الشرع وقد تتجاوزه فقد كتب عليها أن تغتسل بنهر من الصبر. وما بين هنا وهناك وفي غفلة من صبرها تترك لهم كل شيء.. وترحل .. تغيب فلا أحد يدري أين هي ،،، تترك وراءها أربعة من الأطفال، تختبئ عند أحد الأقارب!!.. وبعد فترة من اختفائها يطلّقها زوجها.. تتزوج بالخفاء برجل يكبرها بما يقارب العشرين عاما أو أكثر من جنسية أخرى.. ترحل معه وتنجب طفلين.. تقسو عليها الأيام مرة ثانية فيصاب الزوج بمرض عضال.. ثم ما يلبث أن يموت تاركا لها طفلين صغيرين تتخبط بهما في غربتها !!!... من المخطئ يا ترى؟؟ هي؟؟ أم الزوج الأول؟؟ أم الأسرة؟؟.. أم أنّها صروف الدهرأبت غير هذا!!!..
**من الظلم إلى الشقاء !!!
تركتها أمّها وانفصلت عن والدها وعمرها سبعة أشهر، بعد مدّة تزوج والدها من امرأة أخرى لسنن الحياة ولتعتني بهذه الطفلة يتيمة الأمّ، فأنجبت له الزوجة الجديدة ولدين وبنت.. عاملتها كالخادمة حيث كانت تطلب منها مهام تعجز الكبار عنها ناهيك عن الصغار. وتمرّ السنوات وتبلغ هذه الفتاة الرابعة عشر من عمرها، وتطلب للزواج من إحدى العائلات.. يزوّجوها فإذا الزوج ضريرا لا يرى.. يكبرها ب ست وعشرون عاما... تعيش معه وتنجب اثنا عشر ولدا وابنة.. لم تنته رحلتها مع التعب بل كانت تخرج من البيت تساعده من أجل سدّ رمقهم.. تختطف يد المنون الزوج، تحتار فيمن يطعم هذه الأفواه المتعددة... فيشير عليها البعض بأن تضع بعضا منهم في دار الأيتام، وأن تبقي القسم الآخر تحت جناحها، وتنطلق في سباق مع الزمن والصحة والمحيط القاسي من أجل توفير بعض المتطلبات !!!..