حكى لي صاحبي امتطيت سيارة الأجرة متوجها نحو قريتي قادما من مطار تونس- جربة بعد لأي شديد في وجود العدد الكافي من الركاب. وانطلقت بنا السيارة تطوي أرضية الطريق المزيّن ببعض الحفر جردتها رياح ربيعيّة أتت عليها، أما الأمطار فزيارتها لها مرهونة ببعض رأب صدوع بيينا وبين بعضنا وبيننا وبين ربنا. كان الركاب نزاعين من مناطق مختلفة ولكن تجمع بينهم سنحاتهم العربية وكثير من القيم المشتركة. وما أن اطمأن كل راكب في مقعده من السيارة حتى سأل رجل دالف عن وقت الوصول إلى مدينة قابس، وقبل أن يجيبه السائق ،المشغول بتغيير موجات المذياع للبحث عن إذاعة تتلاءم مع قدسية الشهر الكريم، عاجل شاب عشريني بأن الطريق وفوضاها لا تسمح بسلوك آمن وسرعة مطلوبة لنصل في الوقت المطلوب. لكن الشيخ الطاعن في السن لم تعجبه الإجابة وأردف مقطبا لجبينه: "قد قتلتنا السياسة فدعنا منها ولا أريد الإجابات الملتوية" فاعتارتني بسمة لم يلحظها غيري وقلت في نفسي يبدو أن الفرصة مناسبة لأطرح بعض الإستفسارات عن أحداث وقعت في تونس وأنا المغترب وليس من رأى كمن سمع ولكني فضلت الصمت عسى أن يكون الحديث تلقائيا وأكثر عفوية. وكأن السائق قد فهم ما أريد استبيانه والغوص فيه فتفاعل مع الرجل الدالف معلقا أن لا عليك يا عمّي ستفطر في بيتك بحول الله تعالى وأن ما ذكره الشاب هو حقيقة ومعاينة معاشة كل يوم في أغلب الطرقات التونسية، وكأي رجل كبير في السن قد انهكته الأيام مقاطعا :" ما بقي إلا الطرقات، كل شيء خرب في هذه البلاد والناس "عايشة" لا يهمها شيء والحياة تسير". تمطط أحد الركاب بعد غفوة قصيرة ولما لم يسمع إلا الجملة الأخيرة من الرجل الدالف، وكأنه أراد أن يسجل حضوره دون أن يعرف الموضوع قائلا أنهذه السيارة تسير ولكن الفرق بينها وبين حياتنا أن السيارة لها سائق وأما حياتنا التي نعيش غامضة دون أن نكتشف من الذي يقودها، وسعيت أن أشاركهم الحديث وأردت أن أبين مسؤولية الإنسان في البحث عن البوصلة واتجاهها ،غير أن امرأة كانت تجلس في الخلف سطمت علي باب الحديث، ورطنت بلغة أعجمية ركيكة :" faut-pas xagerer و sans philosofie نحن نعيش ونحن ميتون والهرج والمرج قد كثر واحد صايم والأخر فاطر ويقول أنا حر والحكومة (لاهية) في "الإرهاب" ،إلى أين ستتجه " وهنا التفت إليها الجميع وتكأكأوا عليها بالردّ في وقت واحد لا تكاد يستبين حديثهم ، ... الحكومة التي خلقت الإرهاب ... ومن قائل أن الحرية اسيء فهمها وأصبح كل شيء باسمها مباحا ... وكثر اللغط والحديث الثنائي ،...أرهاب... حتى أن السائق طلب منهم أن يستمعوا إلى الأخبار في إذاعة جهوية وكان يدور عن مدير أمن بالساحل قد "اعتدى" على نادلة في مقهى لمجاهرتها بالإفطار واتصلت المذيعة بسياسي مهتم بالشأن العام وطفق يشرح الأسباب التي دفعت هذا الضابط لضرب هذه النادلة من أنها قد استفزته وأسمعته كلاما نابيا أمام أعوان الأمن وبعض الحاضرين ما جعله يعاجلها بلطمة، وكانت ردّة فعل الناس بين مستنكر لذلك ومتفهم لضابط الأمن ... وقبل أن ينتهي الركاب من سماع بقية تعليق السياسي عاجل الشاب بالتعليق أنه قد سمع بهذه الحادثة وأن البعض قد سارع بالتضامن مع النادلة المفطرة حتى وصل الأمر بأحد السياسيين بأن يقوم بإضراب "إفطار ثلاثة أيام" تعبيرا عن مساندته للفتاة .. مردفا أن هذه هي تونس بلد العجائب والغرائب!! وتواصلت المساجلات بين جميع الركاب وطرحت سؤالا وصفته بالبريء هل نعيش في بلد مسلم أم أننا في بلد آخر لا يمت للإسلام بصلة؟ فماذا يحدث في بلدنا ؟ ، يا ولدي .. يا ولدي أنت لا تعيش في تونس، هكذا علقت المرأة، والفرد منا لم يعد يفهم شيئا، محملة المسؤولية لبعض القنوات التلفزية التي تصب الزيت على النار والتي تقوم باستبلاه المواطن وتسعى إلى تدجينه، وحاول الراكب الذي يجلس حذو السائق أن يقدّم فهمه للوضع بالبلاد واصفا إياه بال"شكشوكة" فالكل يُدين والكل مدان وحمّل المواطن المسؤولية الأولى الذي ترك الحبل على الغارب وسمح للسياسيين أن يلعبوا بصوته ، وحاول أن يضع لكلامه مقدمات ونتائج ليظهر من كلامه بعض المنطق غير أن الأحاديث الجانبية وعسر الفهم لدى بعضهم جعل أحدهم يصب غضبه على من أسماهم بالأشباح الذين يعملون من وراء الستار ويعملون على خلط الأوراق وذلك بلهجة عامية تخللها سب ولعن مما دفع السائق إلى محاولة إسكاته وثنيه عن كلام ما كان يليق أن يقوله. اتكأت على الشاب الذي أجلس بالقرب منه سائلا عن مهنته فأجاب متنهدا: "أنا متخرج منذ العهد البائد ورسبت في "الكاباس" مرات ومرات وكأنني لم أتخرج بعد ولما سألت عن سرّ رسوبي وإخفاقي قيل لي أنه عليّ أن أسبح بحمد الدكتاتور واتهمت بالإنتساب إلى جماعة متطرفة لأنّ ابن أخي كان مما أسميه سلفيا متشددا، هكذا أخبرني بعض المقربين من عيون السلطة أنذاك، وأنا على هذه الوضعية لحد الآن " وعرفت منه أنه أستاذ في العربية ، والتفت إلينا الذي يجلس قرب السائق محاولا إبداء الرأي في مثل هذه القضية وغيرها من التحديات التي تواجهها تونس ما بعد الثورة والدولة كما يفهمها واستأذنت من الشاب أن نعير الإهتمام لما يقول ،وواصل تحليله وموقفه واستشرافه للمستقبل لتونس، وختم حديثه من أن تونس بلد العجائب والغرائب في السياسة والإجتماع والإقتصاد والدين، فلم يقطع حديثه إلا دورية أمن في مدينة مارث التي أعادتني إلى ما قبل الثورة حيث يقوم الأعوان بتفتيش السيارات وابتزاز المواطنين والسواق مما اضطر كثيرا من سواق سيارات الأجرة إلى اقتسام جزء من أجرتهم من قبل أعوان الأمن الذي لا يرقبون في المواطن إلاّ ولا ذمّة ... وأنا أسرح في الماضي القريب فيه من الإحن والمحن الكثير حتى التفت إلي السائق راجيا مني الإستظهار ببطاقة تعريفي فبادرت بتقديمي جواز سفري ونظر العون نظرة متفحصا في الوجوه ثم طلب ممن يحمل حقيبة أن يفتحها، فبادرته بالسؤال هل من الضروري أن نفعل ذلك وقد مررنا بالجمارك وشرطة الحدود بالمطار ونريد أن نصل مبكرا إلى بيوتنا ومنا من سيستقل وسيلة نقل اخرى متوجها إلى مسقط رأسه ... إنها حالة الطوارئ يا سيّد وهذا إجراء لابد منه .. وكان كلهم وعددهم سبعة يحمل سلاحا أوتوماتيكيا مما يدفعك إلى الشعور بأنك متهم تنتظر الإيقاف . ونزلنا مكرهين نحمل متاعنا معنا، نظر كل عون من الأعوان في أمتعتنا ولم تدم إلا خمس دقائق حتى أمرنا بالعودة إلى مقاعدنا، وما إن انطلقت السّيّارة من جديد حتى عاود أغلب الركاب إلى التأفف والتبرم من مثل هذه التصرفات التي تعاودنا إلأى عهد المخلوع ، وكان من بينهم من يرى أن "الإرهابيين" هم السبب الرئيسي لإعادة مثل هذه المظاهر ،ومنهم من يرى أن الأمر طبيعي وعلى كل سلطة أن تحمي وطنها ومواطنيها ،،وهكذا اختلفت الأراء في تقييم قوات الأمن والمقارنة بينها وبين الجيش الوطني بين مادح وذامّ ... وعاودت المراقبة في مدخل مدينة قابس بنفس الشكل ونفس الطريقة ... مما حدا بالدالف في السن أن يعلق:" ألم أقل لكم أن تونس بلاد العجائب والغرائب" ؟؟!! وتواصلت مشقة السفر من قابس في اتجاه قريتي وكالعادة تستقبلنا دورية تقوم بالتفتيش والبحث والتحري ...هكذا ياصاحبي لا تنتهي العجائب والغرائب في تونس !!