رئيس الجمهورية: تونس تزخر بالوطنيين القادرين على خلق الثّروة والتّوزيع العادل لثمارها    وجبة غداء ب"ثعبان ميت".. إصابة 100 تلميذ بتسمم في الهند    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستُحدد لاحقًا وفق العرض والطلب    بالفيديو: رئيس الجمهورية يزور مطحنة أبة قصور بالدهماني ويتعهد بإصلاحها    قيس سعيد يزور مطحنة أبة قصور بالدهماني ويتعهد بإصلاحها (صور + فيديو)    "نحن نغرق".. سفينة مساعدات متجهة إلى غزة تتعرض لهجوم جوي (فيديو)    سقوط طائرة هليكوبتر في المياه ونجاة ركابها بأعجوبة    كيف سيكون طقس الجمعة 2 ماي؟    طقس الجمعة: خلايا رعدية مصحوبة أمطار بهذه المناطق    صفاقس ؛افتتاح متميز لمهرجان ربيع الاسرة بعد انطلاقة واعدة من معتمدية الصخيرة    الرابطة الأولى (الجولة 28): صافرتان أجنبيتان لمواجهتي باردو وقابس    توتنهام يضع قدما في نهائي الدوري الأوروبي بالفوز 3-1 على بودو/جليمت    بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    قضية منتحل صفة مسؤول حكومي.. الاحتفاظ بمسؤول بمندوبية الفلاحة بالقصرين    مخاطر الاستخدام الخاطئ لسماعات الرأس والأذن    انهزم امام نيجيريا 0 1 : بداية متعثّرة لمنتخب الأواسط في ال«كان»    عاجل/ "براكاج" لحافلة نقل مدرسي بهذه الولاية…ما القصة..؟    الاحتفاظ بمنتحل صفة مدير ديوان رئيس الحكومة في محاضر جديدة من أجل التحيل    في انتظار تقرير مصير بيتوني... الساحلي مديرا رياضيا ومستشارا فنيّا في الافريقي    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    الطبوبي في اليوم العالمي للشغالين : المفاوضات الاجتماعية حقّ ولا بدّ من الحوار    نبض الصحافة العربية والدولية... الطائفة الدرزية .. حصان طروادة الإسرائيلي لاحتلال سوريا    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    المسرحيون يودعون انور الشعافي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آفات التدين
نشر في الحوار نت يوم 26 - 03 - 2016


مقدمات عامة.

1 التدين فطرة جبل عليها الإنسان وهي فطرة ترتقي إلى كونها أعلى غريزة بشرية وهذا مثبت بنصوص الوحي فوق العقلية كما سيأتي ذكره بحوله سبحانه وكذا بالتجربة البشرية التي ما كانت يوما واحدا عفوا من أثر للتدين بمعناه الغيبي القدري أي شعور الإنسان بحاجة إلى قوة قاهرة تحميه وتنقذه وليس بمعناه الشرعي العملي الإختياري طبعا. من أدلة الوحي فوق العقلية التي تؤكد أن التدين بذلك المعنى آنف الذكر هو غريزة فطرية لجوء رمز الكفر والشر والضر والقهر فرعون إلى جبلته الأولى وهو يغرق إذ قال :“ حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ". ولو لم يكن التدين قهرا في الإنسان محفورا لما لجأ إليه مثل فرعون. يعبر علماء النفس عن مثل هذا بالمخزون في اللاوعي وهو ما يسميه الإعلام الفاجر اليوم : زلة لسان. ومن الأدلة على ذلك كذلك أن الإنسان عندما تشتد عليه ساعة الكرب ينفجر لاوعيه بمثل ذلك كما ورد في قوله سبحانه :“ حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم قد أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ". حتى المشركين من عبدة الأوثان وسجدة الأصنام كانوا متدينين بالمعنى آنف الذكر إذ لما جوبهوا بخطاب إسلامي توحيدي عقلاني أفحمهم دافعوا عن أنفسهم بقولهم :“ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ". تلك أدلة نقلية وعقلية كافية تؤكد أن التدين في الإنسان فطرة مغروزة وجبلة محفورة. السؤال الكبير والخطير هو : ماذا تخفي غريزة التدين الجبلية وراءها في النفس البشرية؟ جوابي هو أن الذي برأك وذرأك إنما حفر في جبلتك الأولى فطرة التدين لتنشد التحرر وتنبذ القهر. أدرك ذلك رمز الكفر والشر والضر والقهر فرعون عندما علم يقينا أن الهلاك يحيط بهمن كل جانب وهو يريد التحرر منه حفظا لأعلى مقصود ديني أي حفظ الحياة فإعتصم بالتدين. ليس هناك أبلغ دليل من ذلك يؤكد أن الدين رسالة تحريرية جامعة وأن التدين فطرة تستنجد بالتحرر سيما عندما تدلهم الخطوب. ذلك يؤكد أن التدين قارب حرية كثير منا يغفل عنه في ساعات اليسر والإنبساط فإذا حوصرنا بالعسر والضيق إنقبضنا وإستصرخنا الدين الفطري الجبلي الغريزي الأول.


2 التدين في أيامنا هذه هو حديث ركبان الأرض فعلا. مع صعود التدين في كل مكان تقريبا في الأرض بما عرف بالصحوة والنهضة والقومة واليقظة والعودة فإن الأرض تتنفس تدينا فعلا. كثير منا تستبد به إكتظاظات الإعلام وتغتاله إزدحامات السياسة بمعاركها الصاخبة حتى في سكونها فيظن أن الإرهاب هو من أعاد قضية التدين إلى الأرض من بعد ما كاد يعتقد أن الإنسان طرد الله منها بحسب تعبير الفيلسوف الفرنسي المرحوم روجي قارودي. الإرهاب نفسه ليس بحسبانه اليوم صناعة دينية في الأعم الأغلب فحسب بل كذلك بحسبانه لونا من ألوان التدين الإحتجاجي البهيمي هو تعبيرة دينية. لو كان ذلك غير كذلك لما كان هناك في الأرض اليوم دولة مستقلة معترف بها أمميا إسمها الفاتيكان لحماية المسيحية الكاتولوكية ذات الجغرافيا الأوسع في الأرض ولما كانت هناك دولة أخرى معترف بها أمميا إسمها ( إسرائيل المحتلة ) التي عدلت دستورها منذ سنوات طويلات ليكون أول دستور في الأرض ينص على الدين اليهودي وحتى في عالمنا العربي والإسلامي هناك دول تثبت في دساتيرها إنتماءها المذهبي أو الطائفي من مثل دولة عمان الأباضية أو دولة إيران الفارسية الإثنا عشرية. كل ذلك لم يكن من قبل ولكن جدّ في العقود المنصرمة لأسباب مختلفة منها صعود النزعة الدينية في الأرض. عصرنا هو عصر التدين بإمتياز شديد. والحديث عن الدين والتدين هو حديث ركبان الأرض بإمتياز شديد كذلك.


3 ومع الغزو الأثيري الذي تخضع له الأرض اليوم بأسرها من شرقها إلى غربها يعسر جدا أن يجد غير التدين له مربعا يؤويه. صحوة دينية إسلامية ويهودية ومسيحية وبوذية وصحوات دينية أخرى. وعندما يتزامن ذلك مع صحوة إعلامية أثيرية هادرة تكاد تطبق على الأرض كلها لتشيد منها بيتا صغيرا من زجاج فإن مستقبل البشرية لن يكون إلا مستقبل التدين لأنه الفطرة التي لا تتخلف ولأنه نداء الحرية الكامن في الإنسان يستصرخه في ساعات العسرة والإكتظاظ والإزدحام وعصرنا هو عصر الإكتظاظ والإزدحام بإمتياز شديد كذلك.


4 التدين سلاح ذو حدين. فإما أن يرشد التدين فكرا ومسلكا عمليا ليكون فعلا قارب تحرر وسفينة عمارة وإما أن يغوى في أي إتجاه غرورا وكبرا أو إنقباضا وذلة ليكون قنبلة نارية لا يخلف إنفجارها إلا الأشلاء والموت والخراب. لن تجد واحدا فحسب في الأرض يخوض معركته فلا يستصرخ الدين وهو يرقب الهزيمة وخاصة إذا كان خصمه يستصرخ الدين نفسه. ألم تر إلى السفاح بوش الإبن وهو يبرر غزوه العراق نهبا وسلبا بتبريرات دينية؟ فإذا كان التدين غريزة تحررية لا يملك الإنسان سوى تفعيلها وإذا كان التدين الغاوي في أي إتجاه مرجلا يغلي بالحياة ليحيلها موتا آزفا وإذا كان عصرنا يتقدم نحو التدين فإنه لزام علينا بحث آفات التدين. التدين ضربة لازب في الحياة فإما أن يرشد فيهب الحياة وإما أن يغوى فيفرض الموت الزؤام.


مقدمة مركزة حول أصول آفات التدين.

عالج القرآن الكريم آفات التدين دون ريب وركز ذلك في أول سورة فيه وهي السورة الخلاصة للكتاب كله وللدين كله أي فاتحة الكتاب. في آخر السورة أرشد إلى أصلين كبريين أعتبرهما أصلي آفة التدين وذلك في قوله :“ غير المغضوب عليهم ولا الضالين ". الأصل الأول الأكبر لآفات التدين هو : غلبة الشهوة على الإنسان ليجعل من التدين محكوما لا حاكما أو تابعا لا متبوعا. المغضوب عليهم : هم الشق اليهودي من الظاهرة الإسرائيلية. سلط الغضب عليهم وقدم ذكرهم لأنهم عرفوا الحق ولكن غلبت عليهم شقوتهم الشهوانية الدنيوية العاجلة فتنكبوا ذلك الحق وآل بهم الأمر إلى تزوير الحق نفسه ولم يكتفوا بعدم إتباعه. لذلك سلط عليهم أشنع شيء وهو الغضب الإلهي. الذي يهمنا هنا هو أن الشهوة الطاغية عندما تجعل التدين من بعد علم ومعرفة تابعا لا متبوعا ومحكوما لا حاكما تعدّ أول أصل من أصلي آفات التدين. ولم يذكرهم هنا بصفتهم الدينية أي الصفة الإسرائيلية لأن المساق مساق بيان للصرط ( جمع صراط )من ناحية وحتى لا يندّ من يعمل بعملهم أي تنكب الحق من بعد علم و معرفة بسبب طغيان الشهوة عن مصيرهم من ناحية أخرى. الأصل الثاني من أصول آفات التدين هو : الجهل أي حيازة بضاعة عقلية مزجاة. عبر عن ذلك بالضالين ويقصد بهم أصالة فحسب النصارى بسبب أنهم بادئ الأمر لم يتبينوا الحق من الباطل في مسألة ميلاد عيسى عليه السلام بطريقة خارقة للعادة الخلقية أي من أنثى لم يمسسها ذكر. لذلك ضلوا. أي تنكبوا الحق بسبب جهل وقصور عقلي في البداية وليس بسبب طغيان شهوة. لذلك أخر ذكرهم ولم يذكرهم بصفتهم الدينية للسبب نفسه آنف الذكر. هما إذن أصلان كبيران لآفات التدين وتحتهما يندرج ما نعالجه في الإبان بحوله سبحانه من آفات أخرى : أصل إسمه طغيان الشهوة سواء بسبب كبر أو منزع بهيمي أو غيره. وأصل إسمه طغيان الجهل بسبب قصور عقلي فادح. كما يمكن صياغة ذلك بصياغة أخرى معاصرة وعتيقة في الآن نفسه وهي أن أصل الآفات الدينية كلها إما : شهوة كما تقدم ذكره أو شبهة. الشهوة وقع فيها اليهود أما الشبهة فقد وقع فيها المسيحيون أول الأمر إذ لم يتبينوا أن الوليد الجديد القادم إليهم على غير الطريقة التقليدية أي من أنثى لم يمسسها ذكر إنما هو مخلوق لخالق ومصنوع لصانع شأنه شأن غيره فتوهموا أن بدعية خلقه تحمل في أحشائها رسالة إلهيته. وهي شبهة عقلية دون ريب.


ما هي أهم التدينات المعاصرة؟

هي كثيرة لا تحصى ولكن يمكن إدراج ما إشتهر منها : الإسلام بمختلف تياراته أو مذاهبه ( الوسطية المعتدلة السلفية الصوفية التقليدية ) المسيحية بمذاهبها الثلاثة الكبرى (الكاتولوكية والبروتستانت والأرتودوكس ) اليهودية البوذية التي يقال أن لها أصلا سماويا وهي اليوم مذاهب متفرقة الوثنيات والصنميات بأنواع لا تحصى ( وكما أنف ذكره فهي تستند إلى دين في الأصل سماوي ولكن بالتحريفات على مر العصور يبدو ذلك ضامرا بل منفصلا عنها وهو حال المشركين في عهده عليه السلام الذين ذكرهم القرآن الكريم في تغنيهم بنسبتهم إلى الإبراهيمية أصل كل دين سماوي معاصر. فاليوم من عبدة النار إلى عبدة الشيطان ومن عبدة البقر إلى الدهريين الماديين ). التيار الغربي نفسه المستند إلى المسيحية واليهودية معا إذ هو سليل الفلسفة اليونانية بالأساس الأول ثم إختلط بالدين الشرقي المسيحي الوافد إليه وهو الواقع تحت عنوان فكري كبير إسمه : تروّم المسيحية بدل تمسح رومية. ثم إستبدت المسيحية بالناس فكانت الثورة الأروبية وولدت العالمانية التي هي سليلة فلسفة دينية واليوم على أرض الواقع لم يكن أمامها من بدّ سوى إلتزام التدين المسيحي حتى في ممارستها السياسية ناهيك أن ملكة إنجلترا هي رئيسة المؤسسة الدينية الكنسية المسيحية هناك ولم تكن سوى فرنسا إستثناء من ذلك.

ربما تكون تلك هي أشهر التدينات المعاصرة على معنى أن الدين حاجة بشرية فطرية جبلية وليس شأنا دخيلا وافدا وعلى معنى أن لجوء الإنسان إلى التدين فطريا إنما هو بقصد التحرر مما هو فيه من ضيق أو ضنك أو غير ذلك.


ما هو المعيار المؤسس والحاكم على التدين ليصنف مأفونا أو غير مأفون؟

هذه الفقرة مهمة إذ تحيلنا إلى المعيار المقياسي العلمي الذي به نحكم على هذا التدين أنه مأفون أي به آفة أو على ذاك أنه غير مأفون فهو في عافية. لا بد لكل حكم من معيار يلتزمه وإلا لقال من شاء ما شاء. معياران في تقديري يحكمان في التدين : أولهما المعيار الإنساني وثانيهما المعيار الدنيوي. معنى ذلك هو أن أي تدين تنسب إليه الآفة عندما لا يكون أثره الفكري والعملي على الإنسان تحريرا وعتقا وتكريما وعلما أي قدسية وسيادة. ومن جهة أخرى لا تنسب الآفة إلى أي تدين بالمعيار الدنيوي عندما يكون دافعا إلى العمارة أي عمارة دنيا الإنسان بالخير والعدل والقسط والمعروف والإحسان والإنصاف والجمال والزينة. عندما يخلف التدين فكرا وعملا معا حياة إنسانية رأسمالها الحرية ويخلف أرضا معمورة بالعدل والجمال فإنه يكون تدينا صحيحا سالما لأنه لا عبرة بتدين لا يغنم منه صاحبه تحررا أو عمارة. وبذلك تكون المعادلة المعيارية قائمة على أساس أن الحرية والعدل هما الضامنان للتدين الصحيح السالم وأي تدين لا يثمر حرية ولا عدلا فهو تدين مأفون أي به آفة بل آفات. مبنى ذلك كله هو نفسه الذي مرّ بنا في المقدمة التي عرفنا بها أن التدين فطرة وليس وافدا دخيلا من جهة وأنها فطرة الحرية المدفونة في رحم الإنسان بدليل أن الإنسان نفسه عندما يحيط به الغرق يستصرخ الدين كما فعل فرعون رمز الكفر والقهر والشر والضر.


خمس آفات كبرى تنخر التدين.



الآفة الأولى فكرية عنوانها : إنبتات عن الأصل.

لكل شيء أصل. هذه قاعدة عقلية منطقية لا توضع فوق طاولة الحوار لفرط بدهيتها. أصل الإنسان هو الله الذي خلقه ولم يستشره في شيء من خلقه لا جملة ولا تفصيلا. ذلك الخالق هو الذي دبر الأمر وهندسه كما يشاء هو. من تلك التدبيرات أن الإنسان كما أنف ذكره خلق مزودا بفطرة دينية عليها جبل جبلة وأنها فطرة دينية عنوانها منزع إنساني هو الأقوى فيه نحو الحرية والتحرر ونبذ الإسترقاق والإستعباد. ذلك هو أصله الفطري الأول ثم جاء الدين يدعوه إلى إلتزام تلك الفطرة فلا ينبذ التدين أي لا ينبذ فطرته الأولى ولا ينبذ التحرر أي لا ينبذ نفسه وذاته وحياته وكرامته. فمن لم يذد عن حياض حياته وكرامته وحريته فقد ناشز الفطرة وهو يعمل في الإتجاه المعاكس والمضاد لنفسه وذاته. ومن لم يتدين فقد فعل الشيء نفسه لأن التدين هو أقوى وأمضى سلاح لتحصيل الحرية التي لا مساومة فيها ولا عليها. ذلك هو أصل الإنسان : كائن متدين تدينا يجعل من حريته رأسمال حياته حتى قالت العرب في الجاهلية :تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها. بل قالت في الجاهلية كذلك : القتل أنفى للقتل. أي أن الحياة الإنسانية أكبر شيء في الوجود ولا يجفف من منابع وأدها إلا القتل نفسه أي شريعة القصاص.فاءت اليوم كثير من شعوب الأرض المتقدمة بالمعيار المادي (أمريكا مثلا وغيرها ) إلى تلك الفطرة الأصيلة التي مازال عبيد الفكر الغربي عندنا في عالمنا العربي والإسلامي يعدونها عدوانا على حقوق الإنسان وهمجية وبربرية وظلامية. أولئك مثال حي من أمثلة الإنبتات عن الأصل. الأصل إذن هو الدين بالنسبة للإنسان. الدين يعني التدين بالحرية والعدل. ألا ترى أن مطلوب الله كله في القرآن الكريم لم يخرج عن دائرة العدل والقسط. ( إن الله يأمر بالعدل ) و ( قل أمر ربي بالقسط ). مقصد مقاصد الإسلام وأم رسالته العدل والقسط ونبذ البغي والعدوان. لعل أكثر صور التدين إنبتاتا عن الأصل الفطري الإنساني اليوم هي : المسيحية وذلك عندما لم يسعفها عقلها المأفون أن الصانع عندما ينوع من صنعته فهو يري الناس قهره وقوته وعظمته وليس يخرج شيء عن تدبيره ليكون هذا من أنثى لم يمسسها ذكر ويكون ذاك من ذكر لم يطأ أنثى. ثم ألفت المسيحية ذلك إلفا عجيبا ثم إختلطت بالمخرجات الغربية المعاصرة فترومت كما قيل بحق عجيب وتعبير أعجب. ثم اليهودية وذلك عندما آلت بها سطوة الشهوة وبطش المتعة إلى تدثير ذلك بالدثار العقدي الفلسفي من مثل أنهم شعب الله المختار.ثم الشركيات الوثنية والصنمية المبثوثة في الأرض طولا وعرضا وأصلها الأول هو التعبير الشركي الأول ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ). لم يكن الله يوما منكورا من البشرية ولن يكون. وذلك عندما أصرت تلك الوثنيات على تدين يقصر نظره على إله قاصر يحتاج إلى شريك أو شفيع أو واسطة فأتخذ الناس لهم ذلك. التيار الغربي المادي المعاصر محلولا مصنوعا من اليونانية والأروبية والمسيحية وذلك بمختلف تعبيراته من شيوعية وماركسية وعالمانية جزئية وجامعة إذ تلتقي كل تلك الفروع الغربية المادية المعاصرة في جذع إسمه : إذا صنع الله الدين فهولا يصنع التدين وإذا صنع التدين فهو يقصره على الضمير والمعبد ولا شأن له بالحياة جملة أو على الأقل بجانبها العام سياسيا وماليا وقانونيا. ألا ترى أنها في وئام شبه تام مع النظرية الشركية الوثنية الصنمية التقليدية القديمة؟ ألا ترى أنها تلبي قالة فلسفية يونانية قديمة : الله خلق الكون ثم إستراح. وربما أخيرا : البوذية ذات الأصول الشرقية وهي نسخة مزورة بوجه ما من المسيحية القائمة على بابوية الأسقف وسلطوية القس. لك أن تقول بإطمئنان كبير أن عنوان الإنبتات عن الأصل هو : إتخاذ معبود آخر جزئيا أو كليا. الإنبتات عن الأصل لا يعني بحال إستغناء الإنسان عن التدين الفطري. الدليل أنه يتخذ له تدينا آخر فيه معبود بوجه ما. لك أن تتتبع ذلك في ما أنف ذكره من التدينات المنبتة عن الأصل الفطري الديني في الإنسان وفي غيرها مما لم يذكر. لا بد من محطة وسيطة ولا عليك أن تكون صنما أو وثنا أو قسا أو راهبا أو مالا أو شهوة أو خيالا مغيبا. الإنبتات عن الأصل الفطري الديني لا ينشئ الفراغ الديني أبدا. بل ينشئ تدينا جديدا ولكنه تدين مزيف مزور لأنه منبت. ذلك هو معنى أن التدين فطرة. وذلك هو معنى أن الحرية الإنسانية سليلة فطرة دينية. لا يبعثها فيك سياسي ماهر ولا خطيب لامع ولا قائد ملهم.



الآفة الثانية فكرية كذلك عنوانها : الإنبتات عن العصر والواقع.

لكل شيء أصل. ولكل أصل فرع. أي لكل شيء منبت وله بالضرورة حياة متجددة إذ مبنى الكون الحركة وليس السكون. الأصل الفطري الديني نفسه يدعو الإنسان إلى المعاصرة وحسن التموقع في واقعه الجديد أن يكون منبتا عنه. خلا تراثنا الديني إلا قليلا من النزوعات الواقعية لأسباب معروفة أسها الأول : الإنقلاب الأموي ضد الأصل في الإجتماع السياسي أي التشاور والتوافق وليس الإغتصاب. فكان ذلك الإنقلاب مدمرا بحق ومحدثا لزلازل إرتدادية ظلت تحفر في العقل ثم في الحياة أخاديد غائرة وصنع بالمحصلة مناخ جديد إسمه : الأمر العام ملكي أنا السلطان. والإنسان عندما يخلق للفعل في الأمر العام ثم يحال دونه ودون فعله المطلوب فإنه يبدأ رحلة السقوط التي تبدأ مع كل لبنة أولى من لبنات الإستقلال والعزوف وقصر الإهتمام بخويصة النفس. إنما صنع الإنسان صنعا مركبا متعدد الأبعاد أصلا لأجل مسايرة تدينه بالواقع وما جاء دينه الإسلامي مركبا أي جامعا مزدوجا في كل مفاصله إلا لأجل تأهيل الإنسان نفسه على حسن معالجة الحياة المركبة بالدين المركب من لدن عقل إنساني مركب. تلك هي أكبر فضيلة الإسلام. أي فضيلة التركيب وليس الأحادية. لأن موضوعه أي الحياة التي جاء ليعالجها مركبة بدورها. ولأن الإنسان الذي سيعالج الدين به الحياة مركب كذلك. بناء على ذلك لك أن تقول بإطمئنان كبير أن الدين الإسلام يدعو إلى المعاصرة والواقعية أي معافسة الواقع والإهتمام به. فإذا جمعنا إلى هذا ما سبق أن تقرر أي أن الدين نفسه إنما جاء فطرة تحررية لإقامة العدل فإنه يسهل عليك أن تقرر بإطمئنان أن الواقع المعاصر المراد معالجته بالدين إنما يراد من خلال معالجته تحرير الإنسان ليتأهل لتحرير الواقع نفسه أن يرتد إلى البهيمية أو إلى الدين المنبت عن أصله. والحرية تضمن العدل وتفتح له المناخ المناسب لعمله. من أكبر الأدلة على واقعية الدين الإسلام أن ثلثي كتابه الناطق بإسمه أي القرآن الكريم بل أزيد من ذلك مخصصان لشيء واقعي إذ أن ثلثه قصة والقصة تحيل إلى أمر واقعي معاصر لأنها تسجيل لحركة الإنسان وفعله في الواقع بل إن القصة في القرآن الكريم إنما جاءت لتحمل إلى الإنسان في كل زمان وفي كل مكان العبرة منها أي لتصنع حاضره ومستقبله بما فيها من عظات فهي إذن مادة واقعية معاصرة وليست تهويمات كهنوتية دينية محنطة. وثلثه الثاني المخصص للكون يحمل العبرة ذاتها أي أنه مخصص لإحالة الإنسان على تضاريس الحياة ومباني الكون وما كان ذلك كذلك إلا لتعليم الإنسان فقه المعاصرة ومعنى الواقعية حتى ينظر في الكون المحيط به فينفذ إلى الملاحظة ثم تنداح منه الإكتشافات والإختراعات إذ أن الكون كله مسخر له هو وحده. وفيه لوحات أخرى تحيل إلى المعاصرة والواقعية وقيمة الزمان ومعنى الحضور والشهود ولكن ينقبض عنها مجالنا هنا لضيقه. ألم يمتلئ القرآن الكريم حديثا عن الزمان وأقسم بالزمان وأحال إليه نظرا وإعتبارا وجعله مناط عباداته الكبرى؟ فقه ذلك الجيل القرآني الفريد فحرثوا الدنيا بالعمارة وتبحروا في العلوم والمعارف وكانوا سادة عصرهم.أليست نكبة السلفية المزيفة اليوم أن أهلها المنسوبين إليها لا يعيرون لقيمة الوقت وزنا ولا يهتمون بالزمان والمكان والحال والعرف وسائر المتغيرات في تغيرها فيكيفون الحياة بحسب تلك المتغيرات أن تأسن الحياة وتأسن معها العقول ومن ذا ينشأ الإنخرام في الإهتمام ثم يولد الغلو يبدأ صغيرا ثم تتكافل معه عوامل أخرى فيكبر ويترعرع ثم يصبح عنفا وإرهابا؟ مرد ذلك هو إهدار قيمة الزمان أي قيمة العصر الذي أقسم به سبحانه. لذلك فإن آفة الإنبتات عن العصر اليوم ربما أصابت المسلمين أكثر من غيرهم وخاصة مسارات التدين التقليدي فيهم والسلفي المغشوش وكذا الصوفي الطروقي. وعندما يجمد المسلمون اليوم على الماضي غير آبهين بالعصر وفي كتابهم سورة إسمها العصر فإن الذنب يكون مضاعفا والناكية ناكية بحق. أليست إشارة سيئة أن يظل الناس من بعد قرون طويلة تغير فيها كل شيء تقريبا في الحياة عدا ما تعلق بالثوابت الدينية والنفسية جامدين على مذاهب فقهية غابرة حتى إنك تلفى المسلم الغربي في أقصى الأرض يعد نفسه مالكيا أو شافعيا ويخاصم لأجل ذلك؟ هي إشارة سيئة قطعا لأن المذاهب على جلالة قدر أهلها ما فعلوا سوى إجتهادا لعصرهم ومشكلاته وتحدياته وما كان يدور في خلد أحدهم أبدا أن يظل مذهبه هو هو لا يتغير بل يجمد عليه. وأمثلة أخرى كثيرة تدل على أن أسوأ ما فينا نحن اليوم إنبتاتنا عن العصر أي عن الواقع. والحقيقة التي لا مراء فيها أن المنبت عن عصره لا يكون وفيا لأصله. الأصل والعصر شقيقان صنوان فلا يتصنع متدين تمسكا بأحدهما وهو منبت عن الآخر. تلك أكذوبة. كل الأمر هو في معرفة المساحة القابلة للتعصير من الأصل والمساحة القابلة للتأصيل من العصر. أما تعميم الجمود على كل المساحات فهو نفسه تعميم الإنحلال عليها. ذلك يعني ما قرر آنفا أي الصبغة التركيبية للأصل نفسه وللعصر نفسه.



الآفة الثالثة وهي فكرية كذلك : خلل منهجي وأفن عقلي.

هذه الآفة تهم المسلمين دون غيرهم لأن غيرهم يعيشون إنبتاتا بالكلية عن الأصل ولذلك لا تعد فيهم الإنبتاتات الداخلية ذات شأن. الخلل المنهجي معناه تصريم الحبل الناظم لأسس الدين ليكون المقدم مؤخرا والمؤخر مقدما والكبير صغيرا والصغير كبيرا وغير ذلك. الإسلام في نظامه النسقي يشبه إلى حد بعيد الهندسة العضوية في الإنسان أي يخضع لنظام دقيق لازم يتقدم فيه هذا ويتأخر فيه ذاك. لنأخذ على ذلك أمثلة حية وبالمثال يتضح الحال كما قالت العرب. عندما واجه المسلمون في العهد العباسي وافدا يونانيا فكريا تمحض لمقاومته رجال سموا بأهل الكلام نضالا عن العقيدة فواجهوا العقيدة اليونانية وأطروحاتها بالسلاح المنطقي العقلي نفسه ودحروها دحرا. ثم طويت تلك المعركة الفكرية الفلسفية الكبرى في التاريخ الإسلامي وأسدل ستار الإنحطاط على الأمة وكثرت الأبواق الناعقة بسد باب الإجتهاد وظل ما حبّر الناس مدادا على أوراق بيضاء حتى ولدت الأمة صحوة دينية جديدة دبت إلى تلك المحبرات فتلقفوها عفوا من فقه الحياة وفقه الزمان كما مرّ بنا آنفا وفعلوها كما هي ووضعوا أنفسهم في المعركة الكلامية الفلسفية نفسها فجاؤوا بما يشبه الدين الجديد والتدين الأبعد عن العصر وخطابه وهمومه. وعندما وقع التركيز منهم كثيرا جدا على فروع العقيدة لا أصولها الستة الكبرى المعروفة وقعوا في متاهات لا أول لها ولا آخر وبذلك ضاع منهم الخيط الناظم للعقيدة نفسها فقسموا الأمة من جديد إلى فرق ومدارس وطوائف وفرقة ناجية وأخرى هالكة أي أنهم إتجهوا في الإتجاه المعاكس لفلسفة العقيدة التوحيدية الموحدة للأمة بالتمام والكمال. معنى ذلك أنهم صرموا الحبل الناظم فضلوا وأضلوا. ولم ينتبهوا إلى اليوم أنهم يحدثون الناس من مكان بعيد أي بلسان لا حظ له في همومهم ومشاكلهم التي تطحنهم. لم ينتبهوا إلى أن التحديات العقدية المعاصرة هي تحديات أخرى بالتمام والكمال ولا علاقة لها بالتحديات الغابرة. وبذلك صرموا الحبل فقدموا الجدل الفكري ترفا مأفونا على الإجتهاد لتوفير مقاربات وحلول للناس. ومن جانب آخر ظلوا يدرسون الإسلام من باب السنة أولا وليس من باب القرآن الكريم وبذلك ركزوا على ما ركزت عليه السنة أي ترغيبات وترهيبات لا تتعدى عادة التكريه أو التحبيب ولا علاقة لها بالواجبات والفرائض والعزائم والكبائر والمهلكات والموبقات فإنصرم الحبل من جديد ولو دخلوا الإسلام من بابه الرئيس أي القرآن الكريم الحاكم على السنة نفسها لألفوا الإستقبال الذي يوجههم أحسن توجيه ولعلموا الأصول قبل الفروع والكليات قبل الجزئيات والواجبات قبل المستحبات والمحرمات قبل المكروهات ولميزوا بين ما هو آجل لا يعجل وما هو عاجل لا يؤجل وبين ما هو عيني فردي شخصي لا يعمم ومحل تكافل وتضامن لا يفرد وبين ما هو مرتبط بشرط ما أو بسلطان ما أو بزمان ما أو مكان ما. ولكنهم عالجوا الحياة معالجة خاطئة فتصورا الحياة فتنة كلها لأنهم دخلوا الإسلام من السنة التي تتحدث عن الفتنة بصفة عامة ولا تعين لها زمانا ولا مكانا ولا حالا ولا عرفا. لذلك تجد الإنسان الذي عده الإسلام كائنا مقدسا محرما مكرما إلى أبعد حد ممكن هينا عندهم بل هو بضاعة وأدنى من البضاعة. وتجد الحياة التي هي حلبة العبادة لا شأن لها وإنما يقع التركيز منهم على ما بعد القبر. وأمثلة أخرى كثيرة تدل على أن الحبل الناظم عندما ينصرم في العقول فإن سلم الأولويات في الحياة ينصرم بدوره ومن غفل عن واجب الوقت كما قال صاحب نظرية واجب الوقت نفسه إبن القيم فقد غفل عن شطر الدين وشطر الحياة. ومن وقف عند النصوص دون رد إلى مقاصدها سيما في المعاملات وما هو خارج التعبديات فقد وقف بدينه في مرحلة بئيسة ومن يصرخ بتطبيق الشريعة دون تبين ماهيتها وشروطها ومناخاتها كما فعل الفاروق عليه الرضوان فقد فقد البوصلة الهادية. كل ذلك بأثر من آفة خلل منهجي إذ المنهج يقدم أبدا على محلوله الذي به يمتلئ. ألم يقل سبحانه : „ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ". فمن إتبع الشرعة بلا منهاج ضل وأضل ومن ملأ المنهاج بشرعة من عنده هو مثله في الضلال والإضلال. ومن إتبع الكتاب بلا ميزان فقد شيد لنفسه حياة عوراء حولاء ومن إتبع ميزانا لا يهديه كتاب فهو مثله عورا وحولا. الإسلام قدم الحرية طرا مطلقا على كل شيء فلا عبادة إلا بشرط الحرية ولا عمارة إلا بها. ومن غيب الحرية أو هون منها فأي علاقة تربطه بالدين والتدين؟ أصل الفقهاء الأول المعروف : العقل مناط التكليف معناه الحرية مناط التكليف لأن العقل يثمر الحرية فهو تعبير عن الشيء المراد بموطنه. ألسنا محل إبتلاء بقوم يعبدون الله بجارحتهم قبل عقولهم؟ أي تهوين من شأن العقل الذي عدّ مناطا للعبادة؟



الآفة الرابعة مسلكية وعنوانها : غلبة الإلف والعادة والتقليد.

هذه أول آفة مسلكية لا فكرية. هي ذات أصل فكري قطعا إذ أن الذي يألف شيئا يقر في وعيه أن ذلك الشيء لا يتغير ولا هو محل مراجعة. ولكن دعنا نسميها آفة عملية لأن أثرها عملي حتى لو كانت ذات أصل فكري دون ريب. هذه هي الآفة التي تصيب أكثر أبناء الأمة اليوم كذلك وبناتها. هناك خلل منهجي كما مرّ بنا وهناك آفة تدين يغلب فيها الإلف على السؤال. ومن حرم السؤال فقد حرم لذة العبادة ومتعة الحياة. الحياة سؤال. فمن سأل وصل ومن صمت عن السؤال وحل. وعادة لا يصمت عن السؤال إلا صاحب كبر أو صاحب عقل مخطوف من قبل الإلف والعادة والتقليد فهو إمعية ككل ببغاء لا يحسن غير الفعل القرودي الإجتراري. هي آفة بسبب أن الدين في جزء كبير منه في عباداته الكبرى مثلا قام على الزمان والمكان أي على حركة الشمس والقمر وولوج الليل والنهار وغير ذلك. وما كان ذلك كذلك سوى لطرد الإلف والعادة والتقليد الذي يخدر المرء ويسحره فلا يكاد يسأل. هل أن المسلمين اليوم يجدون شيئا وهم يقرؤون في كتابهم أن موسى عليه السلام طرح السؤال الأعظم في الحياة إذ قال لربه :“ رب أرني أنظر إليك "؟ أو السؤال الإبراهيمي الخطير هو كذلك :“ رب أرني كيف تحيي الموتى"؟ سؤالان خطيران كبيران موثقان من لدن رسولين هما من أولي العزم الخمسة. أليس هما سؤالان موثقان هنا لطرد الإلف والعادة والتقليد؟ ألم يقل الفقهاء سيما ثائرهم إبن حزم أن إيمان المقلد لا يقبل؟ ألم يحل دون المشركين من قبل ودون الإيمان في الأعم الأغلب سوى الإلف والعادة والتقليد ولذلك جابهوا محمدا عليه السلام بقولهم :“ إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون"؟ ليس هناك داء بل آفة تصيب العقل أكثر من آفة الإلف والعادة والتقليد. الكون كله متحرك يجري من حولنا ونحن نرى بأم أعيننا في مطلع كل فجر وصبح وفي مغرب كل شمس وشفق تضاريس الكون تبزغ وتزول. ألا يعني ذلك لنا طرد الإلف والعادة والتقليد؟ حتى خلايا الجسم فينا تتجدد والأرض تحت الأقدام تتجدد وما فيها من أشجار وأطيار وأنهار. ألف الناس الدين طقوسا باهتة صامتة ساكنة تبعث الموت وليس الحياة فماتوا. وعندما يعجز تدين مثل هذا عن بعث الحياة والحرية والعدل والشعور بالكرامة وفريضة العمران فإنه لا يمكنك سوى تصديق القالة الماركسية الأولى : الدين أفيون الشعوب. قال هو ذلك عن المسيحية. ولكن كثيرا منا اليوم يحول الإسلام نفسه إلى أفيون مخدر. ألف الناس في الأعم الأغلب أن المرض قدر محتوم من عند الله سبحانه فلا يتحمسون لنشدان شفاء وألفوا مثل ذلك الجهل والتفرق وآفات أخرى في الحياة كثيرة وظنوا أنها أقدار لا تحارب بأقدار مضادة كما قال أساطين المعرفة من قبل من مثل الفاروق عمر وإبن القيم والجيلاني وإقبال وغيرهم. لو رددت مثل تلك القالات على أسماعنا اليوم لعددناها هرطقات وزندقات. تعال إلى الناس وقل لهم : الفرقة التي نحن عليها اليوم قدر رحماني نقاومه بقدر رحماني مثله إسمه مقاومة الفرقة لإحلال الوحدة. ومثل ذلك الجهل الذي يستبد بزهاء نصف المسلمين. ومثل ذلك الفقر ومثله المرض ومثله التخلف ومثله الإحتلال إلخ .. إنه داء الإلف وعاهة العادة وآفة التقليد.



الآفة الخامسة الأخيرة وهي كذلك مسلكية وعنوانها : غلبة الشهوات.

مرّ بنا في المقدمات أن أول سورة في القرآن الكريم تمحضت لتأسيس آفات التدين على قاعدة شريعتين كبريين أولهما : غلبة الشهوات من بعد العلم والمعرفة وهي في الأصل خصيصة اليهود المغضوب عليهم وثانيهما غلبة الجهل بأثر من الإلف والعادة كذلك وهي في الأصل خصيصة النصارى. ذانك أصلان محكمات أصليان كليان. ولكن تفرعت عنهما فروع مررنا بها الآن فرعا فرعا. آخر الفروع هي غلبة الشهوات ولكن عندما تكون هذه الآفة " إسلامية " أي في المسلمين فإن معناها يكون غلبة الشهوة الفرعية الصغرى حتى لو عظمت وليس معناها غلبة الشهوة اليهودية لتكون مادية جافة قاحطة كالحة تركل الدين بالجملة والتفصيل لتحيا هي.شهوات المسلمين غير ذلك مهما كثرت وعظمت. الشهوة في الإنسان أصيلة فهي غريزة وجبلة وفطرة كما قال سبحانه " زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ". ولكن المطلوب هو تحكيم الميزان المنزل مع القرآن جنبا إلى جنب لتكون هناك حياة وسطية معتدلة لا إنخرام فيها. أي فيها اللذة والمتعة والشهوة ولكن بحدود إنسانية لا بهيمية. أي تلبى لتكون ذات وظيفة إجتماعية. من خير ما قيل في الشهوات قوله عليه السلام :“ لو كان لإبن آدم واد من ذهب لأبتغى له ثانيا ولو كان له واديان لأبتغى له ثالثا ولا يملأ جوف إبن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب ".كثير من المسلمين اليوم لا ينقصهم إيمان صحيح ولكن تغلب عليهم الشهوات لترديهم عن تحصيل الفرائض المفروضة حتى العينية الخاصة منها بله التكافلية التضامنية العامة كما ترديهم تلك الشهوات نفسها للوقوع في الكبائر وخاصة فيما تعلق بجمع المال أو المتعة بالنساء. وعندما نكون في وضع المغلوبية إقتصاديا ونخنع لوضع إقتصادي ربوي متحكم ومهيمن في الأرض كلها تقريبا وتزدحم الحياة لتكون الكماليات ضروريات فإنك تلفى الناس كلهم تقريبا إلا قليلا جدا يتهافتون على مستنقعات الربا فلا يتبين لك معذور بسبب الفاقة من سائل لعابه لأجل الأثرة والتكاثر. غلبة الشهوات بلا حد وفي أوضاع المغلوبية آفة تحيق بالتدين حقا. وعندما يشارك في ذلك الإثم أهل الوعظ والإرشاد والتوجيه من أئمة وخطباء ووجاهة تكون فتنة عمياء ثم تظهر التمحلات الفقهية لتحليل ما حرم الله سبحانه في مقابل سلفية مغشوشة أكثر عملها تحريم ما أحل الله سبحانه وتضيع الوسطية المعتدلة المتوازنة في ركامات مركومة من الجهل والهوى معا.


تلك هي آفات التدين الخمس. أصلها آفتان كبريان : غلبة شهوة بأثر من كبر في العادة ليكون الدين مؤخرا و غلبة جهل بأثر من هيمنة إلف وعادة في العادة ليكون الدين مؤخرا كذلك.وعند التفصيل يتبين أن تلك الافتين في الأصل يمكن تفريعهما إلى خمس آفات هي : الإنبتات عن الأصل كما يفعل اليوم التيار العالماني والإنبتات عن العصر كما يفعل التيار السلفي أو الصوفي الطروقي في الأمة الإسلامية حيث يوأد الإجتهاد ويموت الإبداع ويحتضر التجديد. وآفة الخلل المنهجي لينصرم حبل الأولويات ويعيش المسلم في عصر غير عصره وأرض غير أرضه ويواجه تحديات غير تحدياته. وآفة الإلف والعادة التي تجعل من التدين أسطورة أو خرافة إلى الشرك أدنى. وآفة غلبة الشهوات المعربدة سيما في حالات المغلوبية ولكم صدق العلامة إبن خلدون في تحقيقه القائل ( المغلوب مولع بتقليد غالبة أبدا ).


أكثر آفات التدين هي آفات فكرية أي عقلية لها صلة بالعلم والمعرفة وتلك هي أم أزمتنا في تقديري فهي أزمة عقلية فكرية علمية معرفية ولا عبرة بمسلك إذ كل مسلك يتفرع عن فكرة ولذلك جاء التعليم الإسلامي بأول كلمة تلخص الأزمة وتؤكد الطريق (إقرأ). فمن قرأ قاوم المشكلة العقلية وإنصلح مسلكه ومن جهل سلك مسالك الجهلة.


موضوع آفات التدين مهم بسبب أن التدين سلاح ذو حدين فإما أن يرشد فترشد الحياة وإما أن يغوى فتغوى الحياة إذ لا محيص عن إستصراخ الدين عند كل قوم وفي كل ملة وطائفة مهما بدا لك أن حياتها نادة عن الدين والتدين.


إذا إنصلح التدين إنصلحت الحياة.


الهادي بريك مدنين تونس

[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.