نجلاء العبروقي: مجلس الهيئة سيعلن عن رزنامة الانتخابات الرئاسية اثر اجتماع يعقده قريبا    صفاقس: اضطراب وانقطاع في توزيع الماء بهذه المناطق    الليلة: أمطار غزيرة ورعدية بهذه المناطق    قفصة: تواصل فعاليات الاحتفال بشهر التراث بالسند    بنزرت: حجز أكثر من طنين من اللحوم    تحذير من برمجية ''خبيثة'' في الحسابات البنكية ...مالقصة ؟    الترجي الرياضي: نسق ماراطوني للمباريات في شهر ماي    عاجل : وزارة التربية تدعو إلى ضرورة التهدئة ونبذ الأنانية في التعامل    وزيرة النقل في زيارة لميناء حلق الوادي وتسدي هذه التعليمات..    سفيرتونس بطهران يشارك في أشغال ااجتماع لجنة المشتركة التونسية-الإيرانية    %23 من نفقات الأسر للكهرباء.. جهود مكثّفة للانتقال الطاقي    عاجل : عمل بطولي ''لطاقم التونيسار'' ينقذ حياة أحد الركاب    عاجل/ "أسترازينيكا" تعترف..وفيات وأمراض خطيرة بعد لقاح كورونا..وتعويضات قد تصل للملايين..!    مختص في الأمراض الجلدية: تونس تقدّمت جدّا في علاج مرض ''أطفال القمر''    مدينة العلوم بتونس تنظم سهرة فلكية يوم 18 ماي القادم حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشمس    يوم 18 ماي: مدينة العلوم تنظّم سهرة فلكية حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشّمس    خبراء من الصحة العالمية يزورون تونس لتقييم الفرص المتاحة لضمان إنتاج محلي مستدام للقاحات فيها    تأخير محاكمة فتحي دمق    اتصالات تونس تفوز بجائزة "Brands" للإشهار الرمضاني الأكثر التزاما..    عاجل/ تلميذ يعتدي على أستاذته بكرسي واصابتها بليغة..    طبرقة: اصابتان في انزلاق شاحنة توزيع أسماك    إحداث مخبر المترولوجيا لوزارة الدفاع الوطني    بطولة مدريد: أنس جابر تواجه اليوم المصفة 20 عالميا    فرنسا تشدد الإجراءات الأمنية قرب الكنائس بسبب "خطر إرهابي"..#خبر_عاجل    زيادة ب 14,9 بالمائة في قيمة الاستثمارات المصرح بها الثلاثي الأول من سنة 2024    حادث مرور قاتل بالطريق السريعة الجنوبية..وهذه التفاصيل..    الحماية المدنية: 18 حالة وفاة خلال ال24 ساعة الأخيرة    مدنين: ''سمسار'' يتحيّل على مواطن بعقود مدلّسة ويسلبه 3 مليارات    تونس: تفاصيل الزيادة في أسعار 300 دواء    تفاقم عدد الأفارقة في تونس ليصل أكثر من 100 ألف ..التفاصيل    هدنة غزة.. "عدة عوامل" تجعل إدارة بايدن متفائلة    بطولة إيطاليا: جنوى يفوز على كلياري ويضمن بقاءه في الدرجة الأولى    مفاوضات الهدنة بين اسرائيل وحماس..هذه آخر المستجدات..#خبر_عاجل    هام/ هذا موعد اعادة فتح معبر رأس جدير..    الخليدية .. أيام ثقافية بالمدارس الريفية    توزر...الملتقى الجهوي للمسرح بالمدارس الاعدادية والمعاهد    مسابقة تحدي القراءة العربي بجندوبة ...32 مدرسة تشارك في التصفيات الجهوية    صدر حديثا للأستاذ فخري الصميطي ...ليبيا التيارات السياسية والفكرية    «شروق» على الجهات رابطة الهواة 1 (الجولة العاشرة إيابا) ..مقرين ومنزل بورقيبة يتعادلان والقصرين تضرب بقوة    بدعم من البنك الألماني للتنمية...تجهيز كلية العلوم بقفصة بالطاقة الشمسية    التوقعات الجوية اليوم الثلاثاء..أمطار منتظرة..    في «الباك سبور» بمعهد أوتيك: أجواء احتفالية بحضور وجوه تربوية وإعلامية    بالمدرسة الابتدائية سيدي أحمد زروق: تنظيم الدور النهائي للانتاج الكتابي لسنوات الخامسة والسادسة ابتدائي    محاكمة ممثل فرنسي مشهور بتهمة الاعتداء الجنسي خلال تصوير فيلم    الاحتفاظ بالمهاجرة غير النظامية كلارا فووي    النادي الافريقي: 25 ألف مشجّع في الكلاسيكو ضد النادي الصفاقسي    خالد بن ساسي مدربا جديدا للنجم الساحلي؟    درة زروق تهيمن بأناقتها على فندق ''ديزني لاند باريس''    بطولة الرابطة المحترفة الاولة (مرحلة تفادي النزول): برنامج مباريات الجولة التاسعة    نقطة ساخنة لاستقبال المهاجرين في تونس ؟ : إيطاليا توضح    قيس الشيخ نجيب ينعي والدته بكلمات مؤثرة    تصل إلى 2000 ملّيم: زيادة في أسعار هذه الادوية    جائزة مهرجان ''مالمو'' للسينما العربية للفيلم المغربي كذب أبيض    ثمن نهائي بطولة مدريد : أنس جابر تلعب اليوم ...مع من و متى ؟    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عندما يرسم القرآن معالم النهضة
نشر في الحوار نت يوم 26 - 03 - 2016

يتشوف الإنسان غريزيا إلى التحرر بمثل تشوفه إلى جبلاته الفطرية المادية سواء بسواء وموئل ذلك هو أن أم الغرائز القيمية فيه هي غريزة حب التقدير بما يجعله كائنا يأنف الإمتهان ويقاوم دون حريته فهي مقدمة عنده فطرة على جوعة بطنه حتى قالت العرب قبل الإسلام : تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها.


ولما باشر الدين شغاف الأفئدة ما كان ينبغي له سوى إثارة الغرائز القيمية في الإنسان ليجعل منها قنطرة متينة تبنى عليها حركات التحرر ومقاومات النهضة فقرر منذ الأيام الأولى كرامته وحرمته فجعل منه الكائن السيد المقدس ولأجله حرم ثلث الزمان أي الأشهر الحرم الأربعة المعروفة التي تحتل ثلث الوحدة القياسية الزمنية أي العام كما حرم كثيرا من مواطن حياته سيما ما يتعلق منها بمهاجع إقامته وأماكن عبادته ومواطن إجتماعاته العامة كالأسواق وغيرها

كما جعل منه الكائن المستخلف المستأمن المسؤول المعلم وأسجد له الملائكة وجهزه بالملكة العقلية وسخر له كل شيء في الدنيا ولم يتأهل كائن سواه للنفخة الربانية التي هي علة حرمته وسبب قدسيته


ولمّا كان الكون خلقا وإجتماعا مبناه الحركة أن يأسن فيهلك والتدافع أن تسود الرذيلة فتذوي الفضيلة ظل الإنسان في حركته المقاومة دون التحرر مترددا بين النصر والهزيمة مستعيدا معركته الأولى مع الشيطان إذ لا يزال في الجنة الأولى فما أودت به سوى الغفلة التي تفتح لشهواته منافذ البهيمة فيغوى ولن يزال في حركة مقاومة دائبة حتى تطوى الدنيا طيا


للإنسان الكادح نصبا وسعيا يكابد معركة المقاومة دون حريته دستور موثق يرسم معالم معركته الشرسة لعله يلتزم مساره كما يلزم الكوكب مساره الفلكي فإن شذ تخطفته السبل لتهوي به في سحيق ساحق. من ذا كان القرآن الكريم دستورا موثقا معصوما يرسم معالم النهضة والتحرر فهو مبسوط للإنسان بلسان عربي مبين ميسر بل هو جامع بين المصدرية الإلهية وبين تلبية الحاجة البشرية ورعاية الضرورة الدنيوية في نظم خطابي منسوج يهديك مقاصده قبل وسائله وموضوعه قبل موضعه ومعاصرته قبل غابرته في ثوب تعليلي إستصلاحي عقلاني مفهوم لا تجريد فيه ولا إغراب ومثال وسطي معتدل متوازن يلحق به التالي ويفيئ إليه الغالي لا يوئس أحدا من المراجعة واللحاق ولا يؤمن غيره من الغرور والشقاق إذ يرهن ذلك بالإنسان نفسه فهو المسؤول المجهز بأدوات المسؤولية وهو المحرر المكرم المحرم المقدس المستأمن


المعلم الأول : العلم والمعرفة أو سورتا العلق والقلم


ليس هناك دليل نقلي وعقلي في الآن نفسه ينهض منافحا أن القرآن سفينة النهضة والتحرر أقوى من أنه إختار أن تكون أول كلمة فيه رمزا إلى العلم والمعرفة والإجتهاد والبحث والإنفتاح على الكون لأجل الحوار معه أي الأمر بالقراءة " إقرأ بإسم ربك ". كان المنظور أن يدشن رسالته بالدعوة إلى مقصده الأول الأعظم أي التوحيد ونفي الشرك أو إلى العبادة صلاة أو صياما ولكنه فاجأ الإنسان ولن يزال يفاجئه إذ دعاه إلى القراءة التي هي مفتاح العلم والمعرفة وكلاهما مفتاح التحرر من آسار الجهل وسجون الغيبوبة الحضارية .من لم يلتقط من ذلك الرسالة التحررية الجامعة أو الأمانة الثورية في أمة أمية بالكامل فما فقه من رسالة القرآن حرفا واحدا. تكرر الأمر بالقراءة في المقدمة الصغيرة الأولى مرتين " إقرأ بإسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ". كما تكررت قيمة العلم مرتين كذلك بل عزر ذلك بالسلاح الفتاك ضد الأمية الحضارية وليس الأمية الأبجدية الأولى فحسب أي بسلاح القلم. ولم ينقطع ذلك بل جاءت سورة أخرى في الأيام الأولى تحمل إسم القلم. قيمة القلم في تلك الأيام لم تكن تعني سوى أن الدين الجديد ثورة تحريرية جامعة مهداة للإنسان من رب الإنسان. كان قلم العرب هو السيف البتار ومن ذا أغروا بسيف أمضى وأقوى بل بسيف يمنح الحياة وليس بسيف يحصد الحياة. إلتقط الناس ذلك فحوكموا إلى ضمائرهم فحسب وووجهوا بملكاتهم العقلية التي أستؤمنوا عليها فآمن الأحرار وتولى المسترقون. وتواصلت الرحلة القرآنية مع الإشادة بقيم العلم والمعرفة حتى رهن التدين الصحيح الإيجابي بالقيمة العلمية فقال " إنما يخشى الله من عباده العلماء ". سياق هذا الحصر القصري يفيد أن العلماء هم العارفون بقانون الإختلاف الذي ذكر ثلاث مرات في سياق قصير. ولذلك لك أن تقول بإطمئان شديد جدا أن العلم وكذا المعرفة هما المعلم الأول لسفينة النهضة وقارب التحرر وأن أسّهما المؤسس إنما هو العلم بقانون التعدد وناموس الإختلاف وسنة التنوع فلا يتقدم بالعلم عالم ولا ينهض بالمقاومة مقاوم حتى يكون له من ذلك نصيب وحظ


إلتقط الرسالة نبي الرسالة عليه السلام فأنتهز أول فرصة لترجمة ذلك فعمد إلى معالجة تدهش الألباب لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد وذلك عندما عالج قضية أسرى بدر بإطلاق سراحهم عندما يتمكن كل واحد منهم بتعليم عشرة من أصحابه الأميين بالكامل القراءة والكتابة. عندما يطرح عليك هذا السؤال : من هو رائد محو الأمية في الأرض؟ فلا تتردد أن تقول أنه النبي الأمي الذي حشرته الأقدار في الأميين لتكون أميته دليلا على نبوته ووسيلة يستخدمها الناس سلما إلى الإيمان . ثم بادر عليه السلام لخدمة المعلم المعرفي الأول نفسه وذلك عندما أرسل بعض أصحابه إلى تعلم اللسان السريالي ثم إلتقط الإنسان الرسالة فراح ينفر إلى ساحات العلم ومواطن المعرفة حتى صعدت الأمة في قرون قصيرات إلى قيادة الأرض بالعلم والمعرفة فكان الحجة الأكبر إبن رشد الحفيد ذلك العلامة الفطحل الجامع بين عدد من علوم الدين ومثلها من علوم الدنيا وكان نظيره في المنطق والفلسفة وبناء المشروع الإحيائي الغزالي وكان ثالثهما إبن خلدون أبو علم الإجتماع السياسي وبذلك إكتمل العقد الثلاثي الذي عده المرحوم الجابري صاحب مشروع نقد العقل العربي ركيزة النهضة العربية الإسلامية فلا إستعادة لتلك النهضة سوى بإعادة إنتاج المدرسة الغزالية منطقا وفلسفة وإحيائية والمدرسة الرشدية أصولية فقهية تدمج بين النقل والعقل والمدرسة الخلدونية إجتماعية سياسية عمرانية


فلما نضجت الرحلة ورشدت الحياة بذلك أسعفتها عواصف التقليد بما أسعفتها وورثنا اليوم أمة نسبة الأمية الأبجدية الأولى فيها زهاء43 بالمائة وغرق القارب المعرفي وعدّ الإجتهاد الذي يثاب المخطئ فيه إثما وكأننا لم نرث نبيا يقول " إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ". وتفوق الخصم علينا عسكريا وماليا بالعلم أي بالأسلحة الحربية التي أساسها الرياضيات العقلية وبالصناعات الثقيلة التي أساسها العلوم الكيميائية والفيزيائية.


المعلم الثاني : الصف الواحد المرصوص على تعدده أو سورة الصف


المعرفة مفتاح النهضة والقلم سلاح التحرر سوى أن ذلك لا يسعف الإنسان حتى يكون عضوا في صف واحد مرصوص متعدد متنوع مع من حوله ولذلك يخصص القرآن الكريم لمعالم النهضة والتحرر مرة أخرى سورة سماها سورة الصف لعل الرسالة تكون أدعى إلى الإستيعاب منا وأقمن بالعض على نواجذها. سورة الصف ترمز إلى أن الأمة بل البشرية جمعاء قاطبة كلما كان ذلك ممكنا في حدوده الدنيا ما ينبغي لها سوى أن تشكل بحركتها الكادحة نحو التحرر صفا واحدا وهو إبتلاء كبير أن يستقيم الناس المختلفون لسانا ولونا ومذهبا في صف واحد منتظم يشد بعضه بعضا. لم أجد في تجربتي إبتلاء أكبر من ذلك الإبتلاء إذ ما يقتل الإنسان بعضهم بعضا اليوم سوى لتغليب إختلافاتهم المرادة من الباري إرادة ثوبها الحكمة على الجذور الأولى العظمى التي تجمع أصولهم. إبتلاء أخبرنا التاريخ أن إخفاقات الإنسان فيه أكبر من نجاحاته بكثير. أمران يغريان الإنسان بقتل الإنسان وسلبه ونهبه : حب الدنيا إلى درجة العبادة و التجهز بعقيدة فكرية بهيمية عنوانها أني أنا الأكرم بلساني أو لوني أو عرقي أو ديني أو مذهبي أو قومي وعنصري. وكثيرا ما يتعانق العاملان فيتكاملان وينشآن الحرب والدمار ووأد الإنسان. عندما يعلم المرء أن أكثر قتلى المسلمين عبر التاريخ من نيران صديقة أي من المسلمين أنفسهم فإنه يخجل خجلا ربما يكبت لسانه ويغمد قلمه. لك أن تقول بإطمئنان كبير أن المسلمين فشلوا في قصة كدحهم فشلا ذريعا في إمتحان التنوع ثم لك أن تنسب إليهم ما شئت من بعد ذلك إشباعا لكبريائك وغرورك. أنى لنا أن نعلق هزائمنا من بعد ذلك على مشاجب الآخر المتآمر؟ قصة الخجل المخزية تتعمق عندما يذكر المرء أن الدين الذي كرس رسالته لنكون صفا واحدا سرعان ما إغتلناه بأسيافنا إذ عجزنا على تحمل الخلافة الراشدة المهدية الأولى سوى سنوات ثم عاودتنا الكريهة العربية العنصرية المقيتة لننقلب على الصف الواحد لنضحى صفوفا ثم لتضحى الصفوف متناحرة متنابذة وبذلك يندك الصرح الجامع مربعا مربعا حتى بلغ منا التمزق مبلغا مهينا. ظلت الدعوات الحارة في القرآن الكريم إلى الصف الواحد وظلت الوسائل إلى تمتين ذلك تترى فكانت الدعوة إلى الإعتصام والدعوة إلى التواصي بالحق وبالصبر وبالمرحمة وعدّ التفرق كفرا في قوله سبحانه " يا أيها الذين أمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم من بعد إيمانكم كافرين ". وعدت الوسائل الأولى التي تقرض الصف الواحد المرصوص المتنوع قهرا إلهيا كبائر من مثل السخرية والهمز واللمز والتنابز والغيبة والبهتة ولكن ظلت النظرية في واد والممارسة الميدانية المعيشة بسبب ضحالة الزاد الفكري وبسبب شحوب الخصوبة الروحية في واد آخر فحلت الفرقة وأنشبت في خاصرتنا سنان العداوة ونجح الخصم في تأليب بعضنا على بعض وألفى له حمقى من الفريقين كما هو الحال اليوم حربا شبه مفتوحة بأسلحة تقليدية وغير تقليدية بين السنة وبين الشيعة فهل لنا أن نفيد من محطة يوم الجمعة العظيمة التي كانت مناسبة لتضع الحرب أوزارها بين بعض المكونات المسيحية في أروبا الأرتودوكس والبروتستانت

في إيرلندا ذات يوم من أيام العقود المنصرمة؟


المعلم الثالث : التوافق تراضيا وتشاورا أو سورة الشورى


مرجع الشورى هو قانون الإختلاف القدري السنني السببي في الكون والخلق والإجتماع والإنسان فطرة مفطورة إذ لولا المنزع التعددي في الإنسان تبعا لملكته العقلية وحريته وإرادته لما كانت هناك حاجة إلى التشاور والتراضي والتوافق. وهذا موضع إبتلاء آخر هو من جنس الإبتلاء بالتعدد لضمان وحدة الصف ولا يضمن صف واحد مرصوص متعدد سوى بإدارة الوفاق تشاورا وتراضيا بين المختلفين.تلك هي أكبر السنن السببية التي بني عليها الكون من حولنا ونحن جزء منه لا يتجزأ. ذلك هو متن فقه الحياة الذي أهملناه لنتعلم فقه الدين زاعمين خطأ أن فقه الدين أولى من فقه الحياة والحقيقة أن فقه الحياة بسننها وأسبابها يعلم فقه الدين إلا متسللا إلى الدين يبغي تعلمه قبل تعلم فقه الحياة فلا يظفر منه بقلم يهب الحياة بل بسيف يفرض الموت. ألا ترى عجبا أن المشكلة التاريخية العريقة التي أعاقت تقدمنا ذات يوم لنا فيها في الدستور العجيب سورة مكية كاملة؟ أي دور للتشاور والتراضي والتوافق منا على إختلافاتنا الجبلية في إنشاء حمالات التحرر والنهضة؟ العلاقة جلية واضحة مبناها أنه بدون التشاور في المختلف فيه وهو الكثير جدا يملأ الحياة في الدين وفي الدنيا تضحى الحياة مسرحا دمويا إرهابيا عنيفا قمينة بالسباع المفترسة والبهيمة غير العاقلة وليس بالإنسان. التشاور يؤسس للحرية ولا يتحرر المرء من فرديته القاتلة حتى يتواضع تشاورا وتوافقا وتنازلا ووسطية في نشدان الحلول في كل حقل ومجال. ولا مجال للنهضة من بعد ذلك حتى يفيئ المرء إلى الناس باحثا وإياهم وبهم ومعهم على حلول وسطى تنفي الدماء المهدورة وتؤسس لقيم التحضر والترقي والأنسنة. أليست الشورى هي التي عصمت الأمم اليوم من حولنا أن تدير معاركها السياسية والمالية والدينية إدارة متوحشة؟ أليس التوافق هو الذي حمى الشعوب من حولنا أن تندلق أقتاب مصانعها إلى ما إندلقت إليها أقتابنا في سوريا واليمن وليبيا من بعد ثورات الربيع العربي؟ ليست الشورى في الميزان القرآني آلية سياسية فحسب بل هي قبل ذلك آلية مؤسسة للعقلية في المحضن العائلي إذ دعي الزوجان في سورة البقرة في شأن الفصال أي الفطام إلى التراضي والتشاور وهي قضية عائلية صغيرة ولكن تم إيرادها لبناء العقلية الشورية التوافقية منذ المحاضن الأولى. ولما كان التعليق على واقعة أحد جاء الأمر إليه عليه السلام بأن يشاور الناس في الأمر وكان ذلك من بعد هزيمة عسكرية ثقيلة نفذ فيها الخصوم إليه فنالوا منه الذي نالوا وقتلوا العشرات أن يقول الناس من بعد ذلك أنه لو لم يلتزم الشورى في حواره مع الناس إنطلاقا إلى الواقعة لما كنا في حاجة إلى هزيمة ولما كانت لنا حاجة إلى تشاور. الرسالة هي : الشورى لا تؤسس للهزيمة حتى زمن الهزيمة إنما تؤسس الشورى إلى النصر والنصر هو توحيد الصف الإسلامي الواحد المرصوص على تعدده أما دون ذلك فهزائم حربية ونجاحات حربية لا يقر لها قرار وقانونها التداول وليس الثبات. هل هناك دليل أقوى من ذلك على أن الشورى بؤبو العين في الإسلام؟ إلتقط الرسالة عليه السلام فظل يشاور الناس في الخندق ويشاور المرأة في الحديبية وترسخت القيمة التوافقية في النفوس وسارت على ذلك الخلافة الراشدة المهدية الأولى ثم تسللت إلينا العادة العربية العنصرية القبيحة ووقع الإنقلاب ضد بؤبؤ الإسلام أي الموقف التشاوري التفاوضي التوافقي وصدقت النبوءة المنذرة " لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة أولها الحكم وآخرها الصلاة ". الرسالة هي : الصلاة تابعة لا متبوعة في البناء الحضاري العمراني وفقه الإجتماع السياسي والحكم هو المتبوع لا التابع فإن إنهدم هذا إنهدم ذاك. وفعلا إنهدم الحكم بإلغاء الشورى لصالح التوارث ونظر الفقهاء للسيف غلبة وقهرا فإنهدم ركن الإسلام الأول أي الصلاة. إنهدام الصلاة يعني تخلي أكثر المسلمين اليوم عنها إقامة فردية أو جماعية في المساجد كما يعني إنهدامها إعتبارها صورا وحركات وتمتمات وطقوسا لا تمد الحياة بالغذاء الكافي ولا تثمر إحسانا وتوافقا. ومتى نضبت شجرة الصلاة أن تثمر التوافق بين الناس فالصلاة ميتة لا خير فيها. أليست المعركة اليوم على أشدها فينا بين الديمقراطية والشورى على مستوى الإسم لا المسمى؟ لو كانت الشورى في الإسلام غاية وهدفا لحق لنا مثل ذلك ولكن الشورى آلة ووسيلة وسببا وهي كل ذلك لرص الصف الواحد المرصوص على تعدده وهي كذلك لفرش السجاد الأحمر أمام العلم والمعرفة وطلبتهما ولكن عندما تختصم فينا الوسائل مع الغايات نعض بالنواجذ على الأسماء ونهمل العناية بالمسميات. ثم أمعن القرآن الكريم في إعلاء قيمة الشورى حتى عدها قيمة تتوسط الصلاة والزكاة وأبى لها إلا أن تحتل بؤبؤ العين منهما فقال في صفات المؤمنين " الذين يقيمون الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون ". فمن أقام الصلاة وأنفق مما رزقه الله معرضا عن الشورى توافقا وتراضيا في العائلة وفي الجمعية والمنظمة والحزب والدولة والسفر والحضر ما فقه من رسالة القرآن حرفا واحدا. لا صلاة بلا شورى ولا إنفاق بلا شورى.هو مركب ثلاثي لا يأتلف فيثمر حياة إلا بأركانه الثلاثة كلها أما الأنتقاء فهو مخ الإستبداد وأس الدكتاتورية


المعلم الرابع : الحديد قوة مالية ومادية وعسكرية أو سورة الحديد


ألا تجد نشازا في حمل سورة قرآنية إسم الحديد؟ يجب أن تجد ذلك. ذلك يعني أن رحلة الإنسان الكادحة علما ومعرفة وصفا واحدا مرصوصا متنوعا ومعالجات تشاورية توافقية بالتراضي والديمقراطية لا تكون رحلة ناجحة حتى تعتبر أن الحياة معركة طاحنة قاسية شرسة فيها الذئاب وفيها الحملان وأن الأمة الإسلامية لا بد لها من القيام بدور الشهادة ووظيفة الهداية وهما يقتضيان تبعا لتلك السنن الحاكمة الماضية التجهز بالحديد رمزا إلى القوة المالية والإقتصادية والمادية وهو ما ييسر لهم التجهز بالقوة الأمنية والعسكرية لا لإستخدام ذلك قمعا وإرهابا وظلما بل على العكس من ذلك بالتمام والكمال أي لإستخدام ذلك وسيلة لنبذ القمع والإرهاب والظلم والإنتصار للمقهورين والإنتصاف للمستضعفين أيا كان دينهم ولسانهم وعرقهم وعنصرهم وعدّ ذلك فريضة إسلامية قال فيها " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها إسم الله كثيرا ". أي أن صون الحرية العقدية لكل صاحب عقيدة أو دين مهما كان ذلك الدين أرضيا لا سماويا ومهما كان موغلا في الجهالة والبطلان رعاية للصلة الآدمية الأولى والوشيجة الإنسانية المؤسسة لكل العلاقات البشرية ولا يتحقق ذلك الهدف الإسلامي الكبير سوى بكسب القوة لأن الأرض مسرح للذئاب المفترسة ولا تجابه الذئاب سوى بالقوة وليس بالموعظة الحسنة ولا حتى بالجدال بالتي هي أحسن. رسالة الحديد سورة مدنية كاملة في القرآن الكريم هي : الإبتلاء أقوى سنة يقتضي التجهز بالقوة بكل معانيها ولا تكفي القوة الفكرية عندما يكون أصحابها مستضعفون بمثل ما لا تغني القوة العسكرية عندما يكون أهلها على غير حق. في أعقاب واقعة بدر دعا القرآن الكريم الناس مباشرة إلى إعداد القوة لحماية الأمة والناس ودفع الصائل الباطل وإحلال السلام والأمن وتجفيف أكبر ما يمكن من منابع القهر وضمان الحرية للإنسان فمن شاء آمن ومن شاء كفر ولا يتقدم الإسلام بالتجربة وليس بالنظرية فحسب إلا في مناخات الحرية وإذا كان ذلك كذلك فلا بد من إعداد الواجب الذي لا يتم الواجب الأعلى منه إلا به ولذا تكون الحرية واجبا وتكون القوة واجبا. القوة تحمي الحرية والحرية تحمي حق التدين.فقه ذلك الناس فأعدوا الذي أعدوا وإنتصروا وحموا الناس من حولهم وفيهم يهود ظلوا لقرون طويلات في حماية الأمة الإسلامية في مصر والشام من عدوان الرومان ولما أهلمنا ذلك في غيبوبة حضارية طويلة سحيقة تنبه إليه الناس من حولنا فطرة وجبلة وعندما تكون القوة في جانب المعتدي فلك أن تتصور النهايات الأليمة التي نعيشها اليوم في سوريا وملايين مملينة من الفارين من الجحيم. هو الثلاثي الإسلامي : الحق والقوة والخير فلا حياة لحق منزوع دسم من القوة التي تحميه ولا حياة لقوة منزوعة الدسم من الخير الذي يثمره. وهي منزلات ثلاثة من السماء لا حظ للحياة إلا بالأخذ بها جملة : الكتاب والميزان والحديد. بذلك نطقت سورة الحديد فلا كتاب بلا ميزان ولا كتاب وميزان بلا حديد. الأرض اليوم تشكو هذه الإحادية الإستقطابية الشنعية المؤلمة : قوم معهم الحق وهم جياع ضعاف وآخرون معهم القوة وهم ظلمة معتدون ولا خير في الأرض إلا بقيام أهل الحق بكسب القوة لإثمار الخير أو بقيام أهل القوة لكسب الحق والتجربة تقول أن كلاهما يتقدم في إتجاه الآخر ولكن العوائق كبيرة وكثيرة والدبيب أبطأ من دبيب النمل ولكن الأمل يأبى إلا البزوغ


المعلم الخامس : الإصلاح أو سورة العصر


لأن الناس مختلفون بالضرورة ولأن التوافق قد يتعثر تبعا لظروف نفسية ومادية معلومة ولأن الحياة مبناها الإبتلاء والإمتحان فإن الإصلاح فريضة بين الناس ولكم صدق القائل بأن الإصلاح بين الناس كالملح في الطعام فلا صلاح لطعام بدون ملح ولا صلاح لإجتماع بشري بدون إصلاح. الإصلاح له أسماء كثيرة في القرآن ومتوزع على سورة كثيرة فهو أمر بالمعروف ونهي عن المنكر مما عدته بعض الفرق الكلامية القديمة ركنا سادسا من أركان الإسلام وهو توجه فكري سليم وعميق وفقيه وهو دعوة إلى الخير أو إلى الله وهو نصيحة وهو هداية وهو إعتصام بالله وبالأمة معا ولا إعتصام إلا بهما معا جميعا وهو تواص بالحق وبالصبر وبالمرحمة وله أسماء أخرى وقيم أخرى وتوزع على سور كثيرة منها سورة الحجرات التي تحدثت عن الإصلاح بين المختلفين أو المتحاربين من المسلمين وهو الموضع الذي تنبأ لما سيحدث من بعد ذلك بين الذين تنزل عليهم القرآن نفسه أي في موقعتي الجمل وصفين وما جرى بعدهما كما جاءت سورة العصر رمزا على قيمة الإصلاح ومعلم الإصلاح باعثا للحرية والنهضة في الأمة وفي البشرية جمعاء قاطبة.منشأ الإصلاح يعضد منشد التشاور والتوافق إذ تظل الأوضاع بسبب السنة الإبتلائية العظمى هشا بين الناس ولذلك عدّ الإصلاح معلما من معالم التحرر والنهضة بحق. لأجل الأصلاح وحفظ الصف وإقامة الشورى والتراضي وإفساح المجال أمام العلم والمعرفة والتحضر والترقي والعمارة أباح الإسلام قتل المسلمين للمسلمين عندما تفشل كل محاولات إعادة اللحمة " وإن طائفتان من المؤمنين إقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله فإن فأءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا ".الإنسان محرم مقدس مكرم مستخلف مستأمن معلم ولكن عندما يكون الإنسان عقبة أمام تلك القيم أن ينتفع بها الإنسان أو تثمر تحررا ونهضة فإن الإنسان مكلف بقتل الإنسان كالطبيب الذي يؤلم المريض بل ربما يعرضه بعملية جراحية إلى الموت أملا في إستئصال بؤر الفساد فيه. المجتمع هو الجسم والمصلحون هم الأطباء والشورى كفيلة بتقدير الموقف الأنسب للصف الواحد المرصوص المتنوع.الإصلاح اليوم بين السنة وبين الشيعة فريضة مفروضة لا يتأخر عنها العقلاء تحت أي دعوى كاذبة من حمقى الفريقين. فضلا عن إصلاحات أخرى كثيرة في الوطن الواحد والمذهب الواحد والثورة الواحدة والأمة الواحدة والأرض الواحدة.


تلك هي في تقديري معالم التحرر والنهضة مما رسم القرآن الكريم رحمة بالإنسان.

وتلك هي السفينة الكفيلة اليوم برسم درب التحرر في وجه أمة ما أخرجت للناس إلا لتحريرهم وفاقد الشيء لا يعطيه كما قالت العرب فما لم تتحرر الأمة بالقلم سيفا بتار يحصد الأمية الأبجدية والحضارية والمعرفية وبالصف الواحد المرصوص على تنوعه سيفا بتارا يحصد التمزق والتفرق والتشظي تدريجا وواقعية وبقيم التشاور والتراضي والتوافق والتراضي بين مختلف مكوناتها العقدية والدينية واللسانية والعرقية والعنصرية والفكرية سيفا بتارا يحصد آلام الفردية والإستبداد والدكتاتورية التي جلبت إلى أرضنا العدو المحتل والوافد الناهب السالب وبالحديد قوة مالية وإقتصادية ومادية وإرتفاقية وأمنية وعسكرية سيفا بتارا ضد الإحتلال وضروب الإستخبار القهار وصونا لإستقلال قرارنا وصوابية بوصلتنا و حماية للتخوم المخترقة والحدود المهددة وبالإصلاح سيفا بتارا يحصد شقاقات زرعت فينا آلاما وويلات وثبورات.


فهل نستقيم على طريق يضم إليه القلم والصف والشورى والحديد والإصلاح؟ الخرق شاسع واسع والدماء مدرارة مهذارة ولكن الأمل أوسع والطموح أدر.


الهادي بريك ألمانيا

[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.