من أنّات الشّعر عند العرب أنّه اختزل الحبّ في العشّق، ومن أنّاته أيضا أنّه اختزل العشّق في الأحبّة دون الأزواج، هكذا يكون أسهم في تغذية نكبات العشّاق، كما أسهم في إخماد وهج العشّق حين يتوّج بالزّواج، حتى أنّ أعرابيّة الأصمعي لمّا سألها عن الحبّ أنشدت: ما الحبّ إلّا قبلة وغمز كفّ وعضد** ما الحبّ إلّا هكذا إن نكح الحبّ فسد.. بهذا يكون الشّعر العربي أقصى جميع العواطف الأخرى من مدوّنة الحبّ، ما عدا الأمّ التي أفلحت في انتزاع ما أمكن انتزاعه، فاقتطع لها الشّعر العربي على مضض مساحة بين الشّفقة والبرّ وشيئا من الحبّ الذي يعلو فيه الوفاء على العاطفة، ثمّ لم يكتفِ الشّعر بتشريد العواطف الأخرى خارج دائرة الحبّ، بل أخمدها وأثخنها كلّما توّج العشّاق مسيرتهم بالزّواج، وكأنّه أخذ على نفسه أن تتعذّب العواطف أبدا، حتى إذا سكنت فسدت! ينفخ الشّعر العربي في عواطف العشّاق فيلهبها، حتى إذا تآلفت وتوّجت بالزّواج، نفخ عليها فأطفأها. لا شيء أجمل من العواطف حين تهشّم قوانين الشّعر العاطفي الجائرة وتنجح في الحفاظ على زخمها بعد أن تنتهي إلى الزّواج، ثمّ لابأس أن تتغيّر النّكهة بعد الزّواج دون اعتلال ولا فساد، فسنابل الرّبيع منعشة وسنابل الصّيف مثمرة، لذلك لابدّ من الدخول في معركة مع خمرة الشّعر العربي، حتى ننتزع منه ما أمكن من غول فتسكت عنه ثارات العشّاق، ثمّ يهدأ ومن ثمّ يعيد توزيع إرادات الحبّ على العشّاق كما الأزواج، كما الأخوة، كما الأصّدقاء، كما العلاقات الأخرى الطويلة الكثيرة الجافّة التي تحتاج إلى مداد من العواطف. كان صخر بن عمرو بن الحرث من الشّعراء أو لنقل من الفرسان الذين وزّعوا عواطفهم بعيدا عن قوالب الشّعر العربي، هذا الشّاعر الفارس اتّسع قلبه لجميع أنواع الحبّ، كان يحبّ سلمى ويحبّ أمّه ويحبّ أخته الخنّساء ويحبّ أخيه معاوية ويحبّ قبيلته فيجود عليها بنفسه.. انتشار عجيب للحبّ لدى صخر، كان زوّج الخنّساء رواحة بن عبدالعزّى فاسدا مقامرا يلهو ويبذّر الأموال، افتقرت الخنّساء فذهبت إليه، وكانت البنت المدلّلة لأخيها، اقتطع نصف ماله وقدّمه لها، حتى إذا أفسده زوجها عادت إليه فعاد واقتطع نصف ماله وهكذا.. كان حبّه لأخته أكبر من جميع المصالح وجميع العواطف وجميع الحسابات.. حين قدمت عليه الخنّساء في المرّة الرّابعة، وكان كلّ مرّة يقتطع نصف ماله، اختلت به زوجته سلمى وقالت " إذا كان لابد من صلتها فلتعطها أخسَّ مالك فإنّ زوج أختك مقامر وهذا لا يقوم له شيء فإنّما هو متلف والخير والشرّ سيان"، فردّ عليها صخر ببيت شعر: والله لا أمنحها شرارها ٠٠٠ وهي حَصَانُ قد كَفتني عَارَها ولو هَلكتُ مَزّقت خِمارها ٠٠٠ واتخذت من شعرِ صدارها".. وفعلا صدق حدس صخر، فحين توفّي مزّقت الخنّساء خمارها، ولبست صداراً من صوف خشن، بقيت تلبسه إلى يوم موتها، لم تتزّين، ولم تلبس رقيق الثياب! الكره ليس الهجاء.. والحبّ ليس الرّثاء.. أسهمت الخنّساء مع صخر في إعادة توزيع إرادات الحبّ، وأنقذته من احتكار العشّاق، وإن كان قيس قبل أن يستلقي استلقاء الموت إلى جانب قبر ليلى، كتب على التراب: ﺻﺮﻳﻊ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﺐّ ﺍﻟﻤﺒﺮﺡ ﻭﺍﻟﻬﻮى ****ﻭﺃﻱّ ﻓﺘﻰ ﻣﻦ ﻋﻠّﺔ ﺍﻟﺤﺐّ ﻳﺴﻠﻢ.. فإنّ الخنّساء قالت عن صخر: فلا والله لا أنساك ، حتى أفارق مهجتي ، ويشقّ رمسي فقد ودّعت يوم فراق صخر أبي حسان لذاتي ، وأنسي فيا لهفتي عليه ، ولهف أمّي أيصبح في الضريح ، وفيه يمسي تلك تماضر بنت عمرو السلميّة، امتدح شعرها النّابغة الذبياني بعد أن استمع إلى قصيدة ترثي فيها صخرا، قال: اذهبي فأنتِ أشعر من كلّ ذات ثديّين، ولولا أنّ هذا الأعمى -الأعشى- أنشدني قبلك في عكاظ، لفضّلتك على شعراء هذا الموسم؛ فإنّك أشعر الجنّ والإنّس. وقيل لجرير من أشعر النّاس؟ قال: أنا لولا هذه الخبيثة، يقصد الخنّساء، وقال عنها بشّار بن برد: لم تقل امرأة قطّ الشّعر إلا تبيّن الضّعف فيه، فقيل له: أو كذلك الخنّساء؟ قال: تلك فوق الرّجال. وقال المبرد: كانت الخنّساء وليلى الأخيليّة بائنتين في أشعارهما، متقدّمتين لأكثر الفحول. فيما قال أبو زيد : ليلى أكثر تصرّفا وأغزر بحرا، وأقوى لفظا، والخنّساء أذهب عمودا في الرثاء، وحده الأصمعي كان يقدّم ليلى الأخيليّة على الخنّساء. نصرالدّين السويلمي