من أشهر الأقوال المأثورة التي تتردد على ألسنة الخاصة والعامة عن الحب والعشق إلى حد الموت مقولة " ومن الحب ما قتل"! ولكن أغلبنا لا يعرف أن لهذه القولة المأثورة قصة حزينة جميلة ونحن في هذا المقال سنطلعكم على القصة التي ظهرت منها هذه المقولة المشهورة. والقصة جاءت بعد حادثة حصلت مع الشاعر العربي عبد الملك الأصمعي، ويعد الأصمعي أحد أئمة الشعر والأدب واللغة، وقد ولد في حي بني أصمع بالبصرة ولهذا يقال له الأصمعي، وحب الأصمعي للتجوال بكثرة في البوادي هو ما جعله يصادف الحادثة التي أوجدت القصة. بدأ الأمر عندما مرّ الأصمعي بصخرةٍ أثناء تجوّله في البوادي، وقد لاحظ بعض الأبيات المنقوشة على هذه الصخرة، وكان البيت كالتالي: أيا معشر العشّاق بالله خبروا إذا حلّ عشقٌ بالفتى كيف يصنع وفيه يطلب العاشق من معشر العشاق الذين سبقوه بالتجربة ماذا يفعل إذا وحل به العشق، فقرر الأصمعي أن يرد على ذلك الشاب المولع بالهوى من خلال النقش على نفس الصخرة ببيت شعر آخر وقال: يُداري هواه ثم يكتم سره ويخشع في كل الأمور ويخضع وفيه ينصح الأصمعي الشاب بأن يتمالك نفسه ويربط على قلبه ويكتم في سره حتى يستطيع الحياة، وفي اليوم التالي مر الأصمعي من نفس الطريق وألقى نظرة على نفس الصخرة فوجد أن الشاب قد رد على كلماته ببيت شعر آخر يطلب منه النصيحة ويتحسر على قلبه الذي تقطعت أوصاله من الهوى والعشق فقال: وكيف يداري والهوى قاتل الفتى وفي كل يومٍ قلبه يتقطع وهنا يئس الأصمعي من نصيحة هذا الفتى الذي قد أعياه الحب ولا يعرف كيف يكتم هذا الحب وهو يشعر بالضياع وبالألم فنصحه الأصمعي أنه إذا لم تستطيع الصبر والكتمان لحبك فليس أمامك سوى الموت الذي قد يريحك من هذا الألم وينفعك وكتب له ذلك على الصخرة في بيت الشعر التالي: إذا لم يجد الفتى صبرًا لكتمان أمره فليس له شي سوى الموت ينفع وبعدها بأيام مرّ الأصمعي ليجد شابًا قد قتل نفسه عند الصخرة، وتبيّن له بأنه الشاب العاشق الذي كان يكتب الشعر، وقد أخذ بنصيحة الأصمعي بأن يقتل نفسه، وكان قبل انتحاره قد كتب على الصخرة بيتين من الشعر يقول فيهما التالي: سمعنا أطعنا ثم متنا فبلّغوا سلامي إلى من كان للوصل يمنع هنيئًا لأرباب النعيم نعيمهم وللعاشق المسكين ما يتجرع وكأن كلمات الأصمعي وقعت كالسهم في قلب ذلك الشاب كالرامي الذي أحكم رميته و كتب له آخر ما كتب من الكلام والشعر ويبلغه أنه قد سمع بنصيحته وأطاعه ويطلب منه أن يبلغ سلامه لكل العاشقين الذين منعوا وصال أحبتهم . وبهذه الكلمات أنهى ذلك الشاب حياته التي لم يذق فيها سوى مرار الهجر والحرمان فقرر أن يتركها لينعم فيها من ينعم ويهنئ ويواسى فيها من يتألم مثله ويتجرع من كأس العشق فما كمان من الأصمعي إلا أن قال مقولته الشهيرة "ومن الحب ما قتل" ! قصة حب ووفاء أخرى ! وهذه قصة أخرى من قصص الحب والوفاء رواها الأصمعي ولقد حكى الأصمعي قال : خرجت في طلب الأعاجيب من الأحاديث فلاحت لي بلدة بيضاء كأنها الغمامة، فدخلتها فإذا هي خراب وليس فيها ديار ولا أنيس ، فبينما أنا أدور في نواحيها إذ سمعت كلاماً فطار قلبي، فأنصتّ ، فإذا به كلام موحش فسللت سيفي ودخلت ذلك المكان، فإذا أنا برجل جالس وبين يديه صنم وفي يده قضيب وهو يبكي ويقول أما ومسيح الله لو كنت عاشقاً لمت كما ماتت ، وقد ضمني لحدي وكم أتسلى بالحديث وبالمنى وبالعبرات السائلات على خدي وإني وإن لم يأتني الموت سرعةً لأمسي على جهد وأضحي على جهد فقال الأصمعي : فلما سمعت ذلك منه هجمت عليه فلم يشعر بي إلا أن قلت له: السلام عليك فرفع رأسه وقال: وعليك السلام، من أين أنت ومن جاء بك إلى هذا المكان ؟ فقلت: الله جاء بي فقال: صدقت وهو الذي أفردني في هذا المكان فقلت له: ما بالك تشير إلى هذا الصنم الذي بين يديك فقال لي: إن حديثي عجيب وأمري غريب فقلت له: حدثني به ولا تخف منه شيئاً فقال لي: اعلم أننا كنا قوماً من بني تميم وكنا على دين المسيح وكان دعاؤنا مستجاباً وكانت هذه الصنمة ابنة عمي وكنت أنا وإياها . فلما كبرت حجبها عمي عني ، فكنت أحبها سراً فبينما أنا ذات ليلة وأنا عندها إذ سمعت عمي يدق الباب فأدخلتني سرداباً وقامت هي ففتحت الباب ودخل عمي فقال لها: أين عبد المسيح؟ فقالت: إني لم أره فقال لها: إني سمعت كلامه عندك فقالت: لم تسمع شيئاً وإنما خيل لك فقال لها: والله إن لم تصدقيني ، وإلا دعوت عليك إن كنت كاذبة فيمسخك الله حجراً فقالت له: إذا كنت كاذبةً فرفع طرفه إلى السماء وقال: اللهم يا رب الأولين والآخرين إن كنت تعلم أن ابنتي هذه كاذبة في قولها فامسخها حجراً فمسخها الله حجراً ، ولي أربعون سنة في هذا المكان وأنا أتقوت من نبت الأرض وأشرب من هذه الأنهار وأتسلى بالنظر إلى هذه الصنمة إلى أن يحكم الله بالموت ثم بكى وأنشد يقول : وحق الذي أبكى وأضحك والذي أمات وأحيا والذي خلق الخلقا لئن قلت إن الحب قد يقتل الفتى لقد قلت حقاً واسأل العبرة التي تسيل وسيل الدمع مني لا يرقا فقال الأصمعي: ثم قام ذلك الشاب وتوارى عني بجدار من تلك الجدر ونزع المسوح التي كانت عليه ولم يبق عليه إلا ما يواري سوأته فتأملته ، فإذا عيناه تدور في أم رأسه فقلت في نفسي: هذا أراد أن يطلعني على نحول جسده ثم أقبل علي وهو عريان وقال لي : يا فتى إنني قائل ثلاث أبيات ، وكان مني ما كان فإذا أنا مت فكفني أنا وإياها في هذه الجبة وادفنا في هذا الجون وضمنا بالتراب واكتب على قبرنا هذه الأبيات من لم يكن يحسب أن الهوى يقتل ، فلينظر إلى مضجعي لم يبق لي حولٌ ولا قوةٌ إلا خيال الشمس في موضعي أشكو إلى الرحمن جهد البلا إشارة بالطرف والإصبع الأصمعي: هذا وأنا أنظر إليه وأسمع شعره وأتعجب منه ومن أمر الصنمة وإذا به وقع على الأرض مستلقياً على ظهره وشهق شهقةً فارقت روحه جسده فقال الأصمعي: فكفنتهما ودفنتهما في ذلك الجون وكتبت على قبرهما تلك الأبيات، وتركتهما وانصرفت وأنا متعجب غاية العجب!