الرثاءُ غرض من أغراض الشعر العربي يستهدف تعداد محاسن الميت وذكر خصاله وما كان له من خُلق حسن وسلوك قويم ومآثر حميدة يسترجعها أهله وأحباؤه الذين فقدوه وقد يكون الراثي أكثر تفجعا وحزنا كلما كان الميت أكثر صلة به وقربا منه كالآباء والأمهات والأبناء والبنات فحينها يكون التوجعُ صادقا والكلماتُ نابعة من أعماق القلب والعين تبكي دما بدلا من الدموع وتاريخ الأدب العربي مليء بقصائد الرثاء المؤثرة الصادرة عن أحبة فقدوا من أحبوا إلى الأبد تفجرت عواطفهم ومشاعرهم وكان لهم في الشعر المتنفس الشافي لأوجاعهم وآلامهم فقد رثى المهلهل أخاهُ كليبا الذي قتلتهُ قبيلةُ بَكْر فقال: أهاج قَذَاءَ عيني الاذّكارُ وصار الليلُ مشتملا علينا على من لو نُعيتُ وكان حيا ولستُ بخالع درعي وسيفي هدوءا فالدموعُ لها انهمارُ كأنّ الليلَ ليس له نهارُ لقاء الخيل يحجبها الغُبارُ إلى أن يخلعَ الليلَ النهارُ ورثتْ الخنساء أخاها صخرا الذي كان عمادها ونصيرها والذي كان يغدو صباحا ويعود مساء غانما ظافرا فقالت: يُذكرني طلوعُ الشمس صخرا ولولا كثرةُ الباكين حولي فلا والله لا أنساك حتى وأذكرهُ لكلّ غروبِ شمسِ على إخوانهم لقتلتُ نفسي أفارق مُهجتي ويُشقّ رمسي وكان المتنبي محبا لجدته التي ربته وكانت بمثابة أمه وقد غاب عنها سنين طويلة انقطع فيها خبرهُ عنها واعتقدت أنه مات ولكنها فوجئت برسالة من عنده يخبرها فيها بأنه بخير وأنه قادم إليها فجعلت تلثم جوابه ودموع الفرح تنهمر من عينيها لتجعل من حروف الجواب مادة سائلة سوداء حولت محاجرها وأسنانها إلى سواد ثم غلب عليها السرور ففاضت روحها إلى ربها قبل أن تلقى حفيدها وقرّة عينها وقد رثاها المتنبي واعتبر أن السرور يصبح عنده سمّا لأنه أودى بحياة جدته وحبيبة قلبه حيث يقول: وتلثمهُ حتى أحالَ مداده حرام على قلبي السرور لأنني محاجرَ عينيها وأسنانها سُحما أعُدُّ الذي ماتت به بعدها سُمّا وفقد أب ابنه الصغير الذي كان يخصُّهُ بحبه ويرى فيه خلفا لوجوده فقال يرثيه: يا كوكبا ما كان أقصر عمرهُ أبكيه ثم أقول معتذرا له جاورتُ أعدائي وجاورَ ربّه وكذا تكون كواكبُ الأسحار وُفّقْتَ حين تركتَ ألْأمَ دارِ هيهات بين جوارهِ وجواري ومما رثى به محمد بن عبد الله العتبي ابنا له: ورثى صديق صديقا له مشهورا بالجود والكرم فقال: أضحتْ بخدي للدموع رسومُ والصبرُ يُجهدُ في المواطن كلها أسفا عليك وفي الفؤاد كُلومُ إلا عليك فإنه مذمومُ ما درى نعشهُ ولا حاملوهُ ما على النعش من عفاف وجودِ ولمّا فُجع شاعر تونس العبقري أبو القاسم الشابي بوفاة والده اسودّت الدنيا في عينيه وظنّ أنه لن يعود إلى الفرح والسرور والتعلق بمباهج الحياة فأنشد: يا موتُ قد مزّقت صدري وفجعتني فيمن أُحبّ وأعده فجري الجميل وأعدُّه غابي ومحرابي وقصمتَ بالأرزاءِ ظهري ومنْ إليه أبثُّ سرّي إذا ادلهمّ عليَّ دهري وأغنيتي وفجري وإذا كان العربي في القديم يرى أن البكاءَ على الميت وزيارة قبره دليل ضعف قد يُلحق بصاحبه النقيصة والعار وخاصة إذا كان الأمر متعلقا بالزوجة فإن ذلك لم يمنعه من رثائها وإظهار التوجع لفقدانها بصورة محتشمة ولنستمع إلى هذا العربي الذي فقد زوجته التي تركت له أولادا صغارا ما تزال التمائمُ معلقة على صدورهم حيث يقول مخاطبا روحها: لولا الحياءُ لهاجني استعبارُ ولّهْتِ قلبي إذ علتنيَ كبرة لا يلبثُ القرناءُ أن يتفرقوا صلّى الملائكة الذين تخيّروا ولزُرتُ قبركِ والحبيب يُزارُ وذوُو التمائم من بنيك صغارُ ليل يكرُّ عليهمُ ونهارُ والطيبون عليكِ والأبرارُ وهكذا يكون الرثاءُ نفثةَ صدر وإرسال دمعة وتصعيدَ زفرة على فراق أحبة تقاسمنا معهم حُلو الحياة ومرها وربطتنا بهم صلاتُ الزواج والأبوة والبنوّة والمصاهرة والصداقات ولكنهم يرحلون ولا يعودون. الشرح: الكلوم = الجروح / الأرزاء = المصائب / التمائم = التعاويذ / كبرة = شيخوخة