يميلُ الشعراء العرب خاصة إلى انتهاج صيغ المبالغة المفرطة في أشعارهم بما يُضفي عليها طابع الخيال المجنّح ويجعلها إلى الأسطورة والخرافة أقرب منها إلى الحقيقة والواقع ومع ذلك تتقبلها النفوس وتهفو لها القلوب فتنزل عليها بردا وسلاما حتى قيل «أعذبُ الشّعرِ أكذبُهُ» فالمرأة الجميلة تصبح قمرا وبدرا، والرجل الشجاع يصيرُ أسدا هصوُرا، والكريمُ الجوادُ والعالم الكبير يصبحان بحرا متلاطم الأمواج ومّا يُروى في هذا المجال ما وصل إلينا من أخبار من ماتوا حبّا وعشقا وهياما ممّن حُرموا الوصلَ وحالتْ العوائق بينهم وبين من تعلقت بهم قلوبهم فكان الموتُ نصيبهم، فقد روى الأصمعي أنه كان يطوف بالبادية على عادته متنقلا بين قبائلها وعشائرها متصلا بشعرائها ورواتها، وإذا به يمر بحجر مكتوب عليه هذا البيت من الشعر: أيا معشر العُشّاق بالله خبّروا إذا اشتدّ عشق بالفتى كيف ينصعُ؟؟ قال الأصمعي: فكتبتُ تحت هذا البيت ناصحا هذا العاشق الولهان: يُداري هواهُ ثم يكتمُ سرَّهُ ويخشعُ في كل الأمور ويخضعُ ثم إني عُدْتُ في اليوم الثاني فوجدت أن ذلك العاشق قد كتب تحت بيتي ذاك هذا البيت فكيف يداري والهوى قاتلُ الفتى وفي كلّ يوم قلبهُ يتقطّعُ فلما أيقنتُ أنه لا يستطيع الصبر ولا مداراة هواه علمتُ أنّهُ هالك لا محالة فكتبت تحت بيته هذا البيت: إذا لم يجدْ صبرا لكتمان سرّه فليس له شيء سوى الموت أنفعُ وفي اليوم الثالث وقد تملكني حب الاطلاع عُدتُ إلى ذلك الحجر فوجدتُ شابا ملقى تحته ميّتا وقد كتب على الحجر قبل موته هذا البيت: سمعنا أطعنا ثم متْنا فبلّغوا سلامي على من كان للوصل يمنعُ فتعجبتُ من أمره وقلتُ: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. هذه الطرفة رغم قصرها تُشبه قصة درامية تتجاوب معها العواطفُ والمشاعرُ ويحسُّ فيها القارئ بالإشفاق على هؤلاء المخفقين في حبهم ويتمنى أن لو حالفهم الحظُّ بجمع الشمل بينهم وبين من أحبوا حبا طاهرا عفيفا صادقا.