هاهي الأيّامُ تمضي تسحبُ وراءها الأشهر كطيِّ السِّجِّلِّ للكتب، لتُضِيءَ صفحة و تعتم أُخرى، فأمّا التي حفظها التّاريخ مُشرِقةً، هي التي رسمها المُجاهدون و الضَّحايا من الأطفال و النّساء و الشّيوخ بدمائهم الزّكيّة، بعد سنةٍ من مُضِيِّ العدوان الصهيوني على أرضنا بغزّة، غزّة أرضُ البطولة و الشّهادة و العِزّة التي لقّنت التّاريخ درسًا لن ينسَى حروفهُ كلّ مُتمعِّنٍ في سطُورهِ، و لِتُخيِّمَ بعتَمِها على أربعةِ أصعدة: فأمّا الصّعيدُ الأوّل: فهي تلكُم الزّمرة الفاسدة من الباعة، الذين دبّرُوا و خطّطوا و تواطئوا بكُلِّ ما يملكُون من مكر و خداع مع العدو الصُّهيوني، و باعُوا له الأرض و العرض و الدّم بثمن بخسّ، هُم أغنياء الحرب الذين برهنُوا أنّهُم إسرائيليُّون ضاربُونَ في أعماق الصّهيُّونية أكثر من الإسرائيليين أنفُسِهم و على رأسِهم عبّاس و دحلان و أبو درينة و عريقات و من حام حولهم بل و كان ذلك بإيعازٍ منهُم للتّخلّصِ نهائيًّا من العقبة التي تقِفُ أمام استفرادهِم بالتّسلِّطِ على الشعب الفلسطيني و مزيد مصِّ دماء شُهدائه بخمد المقاومة و بالوشاية و العمالة و التّواطئ الدّنيء مع أجهزة الإستخبارات الصّهيُّونيّة. هذه صفحة لن تجد لها مكانًا حتّى في مزابِلِ التّاريخ، و أضحى العالم مُتيقِّنًا بأنّ هذه الزّمرة من الوشاة و الخونة تبيع قضايا الأُمّة و على رأسها الحرم القُدسيُّ الشّريف بأبخس الأثمان و أقذرها، بعد أن نجح عبّاس في إحباط مشروع تقرير قولدستون أمام " هيئة الأمم المُتخذة " مُقابِل صفقة شركة الموبايلات التي سينعم بها إبنه، على حساب دماء الأبطال من الشُّهداء الأبرار في غزّة من أطفال و نساءٍ و شيوخ و كهول، و البغيضُ في الأمر هو أن يقتُلكَ أخوكَ بسلاحِ عدوّكَ، بل و يُتاجرُ في دمِكَ و عرضِكَ و أرضِكَ بأرذل و أحقر الأثمان! و أمَّا الصّعيد الثّاني: هو أن يخذُلك أقربُ الجيران لديك، الأخُ الإفتراضي، فيُشهِرُ أمام وجهِكَ سلاحًا لم تقرأ لهُ حسابًا، صُنِع بعقل صهيوني، أمريكيّ، فرنسي و أذيالهم و دُبّرَ في اللّقاءات الأخيرة بشرم الشيخ، فضُربت على حدود غزّة من رفح المصريّة جُدران من فولاذ لتنخر عُباب الأرض التي حفرها المُناضلون من أرض الرّباط، لمّا غُلِّقت عليهم المنافذ برًّا و بحرًا و جوًّا، فلم يبقى لهُم إلاَّ أن يُحدِثوا نقبًا في الأرض يضمن لهم البقاء و إلاَّ فهو الهلاكُ المُحتّم، فحتّى هذا النّقب، خُطّطَ لهُ من لدن هؤلاءِ ليركّعُوا من لا يركعُ إلاَّ لله، فضُرِب بينهُم و بين الأرض التي يتزوّدوا منها خلسةً بسورٍ من فولاذ كي يقطعوا كُلَّ مدد و يُغلقوا كُلَّ فجّ، حتّى لا ينفُذَ إلى غزّة لا طعامٌ و لا شرابٌ و لا حليب الرُّضّع و لا حتَّى الدَّواء و لو استطاعُوا أن يمنعُوا أهلَ غزّة الهواء لمنعُوهم ذلك، و لكن يأبى الله إلاَّ أن يكشِفَ مكر الماكرين الذين سيحيقُ بهم مكرُهُم السّيءُ بإذن الله تعالى، و سيعلمون أيَّ مُنقلبٍ ينقلبون و سيغلبُون بإذن اللهِ و يُولُّونَ الدُّبُر، هذه سنّة الله في خلقهِ، و هذه سُنّةُ التاريخ التي ما ضيّعت حقًّا وراءهُ طالبُه! لمَّا كشف الصهاينة عن مُخطّطِهم و أنَّ مِصر تقومُ بتنفيذ الجدار الفولاذي القاتِل لأهلِ غزّة الذين ضيّق عليهم النّظامُ المصريّ العميل حتّى دهاليز الأرض بما رحُبت، سعَى هذا العميل في حالة استنفار قُصوى في مُحاولة النّفخ في أبواقِه ليحملوا شعار الأمن القومي المصري، أي أنّ دهاليز المُضيقِ عليهم برًّا و بحرًا و جوًّا يُهدّدُونَ الأمن القومي لِمصر! بل والأنكى من ذلك أن يأمُر بإستصدار فتوى من لدُنِ زُمرةِ ما يُسمّونَ بعلماء البِلاط، الذين نسوُّا أنّهُم يوقّعُون عن الحيِّ القيُّوم، فضلُّوا و أضَلُّوا و شوَّهُوا صرح الأزهر الشّريف الذي حفِظَ للأُمّة دينها على مدى أمَّةٍ من الزّمن، حتّى تطاولوا على الفُتى الشّرعيّة ! و هؤلاء لم يخلُو منهُم عصر و لا مصر، فصفتُهُم لا تتعدّى مُبارك و أبو الغيط و الحاشية الفاسدة، ليقف ضِدّهُم العلماء الرّبَّانيُّون الذين لا يخافُون في الله لومةَ لائم و يجهرون بالحقِّ عند سُلطان جائر و يقُولُون للمُحسِن أحسنت و للمُسيء أسأت. رفعوا شعار الحِفاظ على الأمن القومي فيضرِبُ بذلك حصونًا من فولاذ لخنق ما تبقّى من الهواء في قصبات غزّة، و ما كانت هذه الذّريعة إلاّ كمطيّة حاول أن يُغطيّ بها النظامُ القمعي في مصر فضيحتهُ التي كشف عنها العدوُّ الصهيوني، فقد تكتّم هذا النّظام العميل المشروع الذي دُبّرَ بعقل أمريكي و فرنسي و جثمان صهيوني و أيدٍ عميلة مصريّة على حدود رفح، فلمّا كُشِف ما كان مخبَّئًا، سارع هذا النّظام الذي يتخبّطُ في غياهِبِ غيِّهِ و غارقًا للأذقان بخياناته إلى تحريكِ أبواقِه و سدِّ الذرائعِ بالفتوى التي أصبحت تُستخرجُ على المقاس بطلب من الحاكم، كيفما شاء و أينما شاء و مع من شاء و ضِدَّ من شاء إلى ما شاء! و أمّا الصّعيدُ الثالث الذي نالهُ شيءُ من عتمة المشهد، ألا و هو الرّأي العام الدّاخلي المِصري الذي يغرقُ في سُباتِه و الشّارِعُ العربيّ المُسلِم الذي تعوّد على رؤية هتك أعراضهِ علنًا و لا يُحرّكُ ساكِنًا ؟ أفلا آن لهُ أن ينهضَ ؟ أم سيخلُدُ إلى النّوم إلى قيامِ السّاعة ؟ اليوم أصبح من الغربيين من يتألّمُ لحال العرب و المُسلمين أكثر من العربِ و المُسلِمين أنفُسِهِم ! أما آن لنَا أن نستفيق و نرمي بالدّثار، حتّى لا نثّاقل أكثر ممَّا اثَّاقلنا، أما آن لنا أن نقِفَ أمامَ هؤلاءِ الطُّغاة و نقُولَ بصوتٍ لا غمامةَ عليه، حُلُّوا عن أرضنا فما أورثتمونا إلاَّ الذِّلَّةَ و المهانة! و أمَّا الصّعيد الرّابِع الذي مثّل و لا يزالُ يُمثّلُ منطقة ظلٍّ تُجاهَ دم المُسلمين الذي ينزفُ في مشارقِ الأرضِ و مغارِبِها، فهو الرّأيُ العام العالمي، إن صحَّ التعبير، الذي بدوره تحكُمُهُ قواعد المصالح، و تؤثِّرُ عليه بالِغَ التأثير باحتكار اللُّوبي الصهيوني و المتصهينين لوسائل الإعلام الأكثر تأثيرًا على مُستوى العالم بأسرِه، فمتى يحينُ لنا أن نرُدَّ على هذه المظالم و نقتصَّ من هؤلاء المُجرمين و المُتسلِّطين علينا و أعوانهم ؟