لو كان جواز السفر التونسي يتسول في أي مكان فوق الأرض أو حتى تحتها لتسولناه.. ولو كان جواز السفر التونسي يباع في السوق السوداء كما تباع الجوازات التي تجوب الأرض عرضا وطولا وتعبر القارات لا تعترف بحدود ولا تفحصها أجهزة أمنية لاقتنيناه بما نملك حتى لو كنا لا نملك.. لا يحجزنا عنه شوقا طاحنا إلى ذكريات الصبا والشباب يفتت الأكباد إلا أن يكون بين أيدي النفاثين في العقد والنفاثات من قراء الكف وقارئات الفنجان.. يحجزنا ذلك عنه حتى لو كان حب الأوطان غريزة لا يخرج المرء منها حتى يخرج من جلده.. فإذا كان جواز السفر التونسي لا يتسول ولا يباع ولا يسترد بالنفاثات في العقد فكيف السبيل إليه؟ سبل كثيرة إلا سبيلا واحدا دونه الذي دونه مما لا تطوله الأقلام رسما.. سبيل واحد سيظل دوما مغلقا: كون جواز السفر التونسي حقا دستوريا مثبتا لكل تونسي وتونسية.. عن أي دستور تتحدث؟ جواز السفر في تونس قضية من أعقد القضايا. قضية لا تكاد تعرف حلا على امتداد أزيد من نصف قرن كامل من بعد استقلال البلاد. قضية تعقدت بشكل مثير جدا في العهد النوفمبري (7 نوفمبر 1987) حتى ضجّ الناس الممنوعون من حقهم الدستوري في جواز سفر.. بكلمة واحدة: جواز السفر منحة من الدولة تصرفها لمن تشاء وتحجبها عمّن تشاء.. يستوي في ذلك أن تكون سجينا سابقا أو سجينا لاحقا تتربص باسمك الحواسيب الإلكترونية في قوائم المشتبه بهم أو مجرد مغضوب عليه لقربه من المعارض الفلاني أو المناضلة الفلانية.. آلاف مؤلفة من التونسيين والتونسيات محرومون من حقهم الدستوري في جواز سفر ويظلون كذلك حتى الشيخوخة أو الموت.. وفي المقابل تنتج آلة النفاق والإرهاب الحكومية خطابا إعلاميا مارقا والغا في الافتراء الممجوج.. خطاب قوامه أنّ جواز السفر بل الحقوق المدنية والسياسية بأسرها مضمونة لكل تونسي وتونسية.. غير أنّ لحن القول لا بد أن يطال تلك الألسنة الكذوبة إذ تستشهد على ذلك بأنّذ رئيس الدولة أذن بألّا يُحرم تونسي ولا تونسية من حقه في جواز سفر.. المرجع دوما هو رئيس الدولة الذي لا يتزحزح عن موقع الرئاسة إلا بمصيبة الموت أو بانقلاب.. أما الدستور فمجرد زينة في المحافل.. وإذا لم يأذن لي أنا رئيس الدولة في جواز سفر فمن الأعلى: الدستور أم رئيس الدولة؟ قد يخدعونك بقولهم: ها هو فلان أو فلانة يتمتع بحقه في جواز سفره رغم أنه كان سجينا إسلاميا أو سجينا شيوعيا أو سجين رأي بصفة عامة أو سجينا نقابيا.. ولكن كم حجم هؤلاء بالنسبة إلى العدد الهائل من المحرومين وهم بالآلاف حقا دون أدنى مبالغة.. بل إنّ كثيرا من أولئك إنما استردوا حقهم في جواز سفر بعد أن دفعوا من أبدانهم كثيرا من جراء الاعتصامات وإضرابات الجوع والتحركات الإعلامية والحقوقية وغير ذلك مما أصبح فعلا أمرا محرجا مقرفا أمام الرأي العام وخاصة الأروبي منه.. أزمة جواز سفر في تونس ولا ميتران لها. ألا يعترف أولئك أنه لولا أنّ الله سبحانه قيض قرينة الرئيس الفرنسي الأسبق ميتران في فجر عام 1998 (وكانت حالة السيدة سميرة بن صالح لاجئة سياسية في ميونيخ وسجينة سياسية سابقة في تونس القطرة التي أفاضت الكأس بعد أن عمدت السلطة إلى تلفيق إجراءات قضائية مزورة لتطليق بعض نساء الفارين من الإسلاميين من أزواجهم ) لتتصل برئيس الدولة مباشرة بالهاتف لوضع حد آلي سريع لهذه المأساة الوضيعة التي رغمت وجه البلاد في الوحل.. عندها استقبلت عائلة كل منفي مشرد وعددهم بعشرات المئات في ذلك الوقت رجل أمن يسلمهم جواز سفرهم على جناح السرعة حتى إنّ العائلات لم تصدق الأمر وربما هرع بعضهم إلى جهاز الراديو لعل انقلابا جديدا أجهز على انقلاب 7 نوفمبر.. ربما تراجعت الحركة الحقوقية.. أو ربما استفادت السلطة في تونس من كارثة سبتمبر بعد ذلك (2001).. أو ربما تخلصت الدولة من ذلك العبء لتعالج عبء المساجين الذين تحتفظ بواحد منهم حتى اليوم (1991 2010) وهو الدكتور الصادق شورو الرئيس الأسبق لحركة النهضة.. المهم أنّ ملف جوازات السفر في تونس منذ ذلك الحين لم يبعث له الله سبحانه (ميتران جديدة).. مطالب جواز سفر في السفارات الأروبية منذ سنوات طويلة. إذا كانت الدولة في تونس تحذر من تسليم المغضوب عليهم جوازاتهم داخل البلاد أن يفروا بها إلى أوربا يعضدون الحراك الحقوقي والإعلامي المعارض.. وهو احتمال غير وارد لأنّ جواز السفر شيء والتأشيرة لدخول بلاد أروبية شيء آخر أما الحصن الثالث الذي لا يخترق أبدا فهو أنّ صاحب جواز السفر المتحصل على تأشيرة لا يبارح البلاد حتى تمنّ عليه الحواسيب الإلكترونية بفسخ اسمه من لائحة الممنوعين من السفر.. فإذا كان التحفظ على المغضوب عليهم من داخل البلاد مفهوما فما هي علة الحرمان بالنسبة للمقيمين خارج البلاد من السياسيين الفارين أو من المقيمين العاديين في الأصل ولكن التحقت أسماؤهم بقوائم المغضوب عليهم ارتيادا للمساجد والمراكز الإسلامية في أروبا أو مشاركة في اعتصام هنا أو مظاهرة هناك أو قربا من صفوف المغضوب عليهم.. الأصل أنّ هؤلاء يطالبون بجوازات سفرهم استعدادا للعودة إلى البلاد حتى لو كانت دون ذلك مواجهة أحكام قضائية غيابية.. فبأي حق يمنعون.. أو قل بالأحرى: أليس من مصلحة الدولة أن تستعيد أولئك الفارين المناوئين للدولة لتطبق ضدهم الأحكام الغيابية الصادرة في شأنهم.. عدد الذين طالبوا بجوازات سفرهم في السفارات والقنصليات الأروبية وغيرها غير معلوم على وجه الدقة ولكنه بالعشرات بالتأكيد.. بعضهم ينتظر جواز سفره منذ سنوات طويلات.. وربما أكثرهم في غضون السنوات القليلة المنصرمة.. عدد الذين يمكنون من ذلك قليل جدا.. ولكن الأنكى هو أنّ المعايير التي تستخدمها الدولة لمنح هذا ورفض ذاك شأن أمني استخباراتي خاص لا يزعم أذكى الأذكياء الاقتراب من فلسفته.. سنت الدولة تلك السياسية الإقصائية الانتقائية الخبيثة حتى أصبح الحصول على جواز سفر من لدن معارض تونسي أو مغضوب عليه بالجلمة مناسبة للاحتفال وتبادل التهاني أو ربما حديث عن انفراج سياسي.. ولك أن ترصد السيرورة التعيسة لكسب الحريات الشخصية الخاصة جدا في تونس: انحدار الحق في جواز سفر من كونه حقا دستوريا لا يحتاج إذن رئيس دولة ولا تحجبه معارضة سياسية ولا دخول سجن إلى كونه مطلبا يظل يترنح بين السفارات في الخارج ووزارة الداخلية ومصالح أمن الدولة في الداخل سنوات طويلات لينتهي بعد تلك الرحلة المضنية إما إلى مؤشر انفراج سياسي في البلاد أو إلى مزيد من الانتظار حتى يشتعل الذقن شيبا.. ويحرم التونسي المعارض من أرضه وبلاده ومعانقة أهله الذين يفقدهم واحدا بعد الآخر حتى يموت هو نفسه في البلاد الباردة ويدخل جثمانه البلاد بإذن بالعبور لأجل الدفن دون مشاكل في العادة وهو فضل أجراه الله سبحانه على أيدي الرئيس السابق بورقيبة وسيظل التونسيون المهاجرون أو المهجرون يذكرونه بذلك بخير رغم أنه هو من هجر بعضهم.. هذا رجل بلغت جنايته على الثقافة الوطنية للبلاد ما يعلم الناس ولكن لا يبخلون عليه بمناسبة موت هذا المنفي أو ذاك المهاجر بكلمة خير.. فهل سنّ الرئيس الحالي لتونس شيئا مماثلا يظل يذكر به رغم ما يعلم الناس عنه أم يظل في عيون المحرومين من بلادهم بلا حسنة واحدة يذكر بها..إلا "حسنة" إدراج ما أمكنه من أسماء الفارين السياسيين في قوائم الشرطة الدولة (إنتربول) حتى أدركت تلك الشرطة بعد زهاء عقدين من الغباء أنّ القضية حيلة لم تعد تنطلي فبادرت منذ شهور قليلة إلى فسخ بعض تلك الأسماء بينما فسخت أسماء أخرى عن طريق القضاء الأوربي.. سياسة الابتزاز بحق دستوري خلق المهزومين. تحول إذن بكلمة ذلك الحق الدستوري الذي لا تلغيه محاكمة ولا سجن ولا معارضة إلى ابتزاز يتواطأ عليه الطرفان معا.. طرف أعلى وأقوى يستخدم الحقوق الدستورية أسيافا مسلطة يسلطها على المعارضين والمغضوب عليهم حتى لو لم يكونوا معارضين.. وطرف أدنى وأضعف يطالب بالإمضاء على هذه العريضة أو كتابة هذا النص على صفحات الإنترنت أو غير ذلك مما هو غير معلوم حتى اليوم بكل دقة وتفصيل ولكنه يندرج بالقطع تحت سقف التنازل عن شيء أو يتجه بالتأكيد نحو سلوك معين في ما بقي من العمر..هي موازنة في لعبة السياسة طرفها الأول التنازل عن شيء من الحرية في هذا الأمر أو ذاك من لدن الطرف الأدنى والأضعف وطرفها الثاني استخدام الحقوق الدستورية أسلحة ابتزاز رخيصة.. الأصل هو أن يمكن كل مواطن تونسي من حقه الدستوري في جواز سفره إلا أن يكون إرهابيا دوليا معروفا مقيما داخل البلاد يخشى إن مكن من ذلك أن يقترف أعمالا إرهابية وهو أمر لا وجود له إلا في صفوف شعب قرطاج الذين يستخدمون الجوازات الدبلوماسية لسرقة هذا اليخت الفرنسي من صاحبه أو يقومون على صفقات تجارة المخدرات فإذا كان ذلك الرجل معارضا أو تخشى معارضته فللدولة بعد أن تمكنه من حقه أن تتفاوض معه في محاولة للوصول إلى حالة من الوفاق.. ولكنى أنى لنا بذلك وأم المشكلة هي: الدولة هي الحزب والحزب هو الدولة لا بل لو مضى الأمر على ذلك المنوال كما كان على عهد بورقيبة لهان الأمر حتى وهو لا يهون.. المشكلة اليوم أنكى: الدولة هي عصابة تتبادل المصالح بينها ماليا وسياسيا وأمنيا وما عاد للحزب الاشتراكي الدستوري الذي بناه بورقيبه بعد انقلابه على الحزب الحر الدستوري في قصر هلال في 2 مارس 1934 من صولة ولا جولة غير أنه لم يتحول بعد إلى حزب معارض ولعله يتجه إلى ذلك يوما بسبب ما يختزنه من عدد غير يسير من نخب ضاقت ذرعا بالتهميش والقتل البطيء.. من عارض مات: فإن فر فلا جواز سفر وإن لم يفر فلا عمل. يجرنا إلى ذلك حالة المناضلة النقابية السيدة زكية الضيفاوي إحدى السجينات المسرحات في قضية الرديف قبل شهور. تشنّ هذه المناضلة منذ أيام إضرابا عن الطعام منافحة عن حقها الدستوري في الرجوع إلى سالف عملها قبل الحكم عليها بالسجن.. يذكرنا ذلك بآلاف مؤلفة من التونسيين والتونسيات الذين حرموا من الحق ذاته ولن يزالوا منذ سنوات طويلة بل عقود طويلة وخاصة منذ سنة 1981 أي منذ صعود الإسلاميين إلى حلبة الصراع السياسي بما ضاعف عدد المحرومين من حقوقهم المدنية والسياسية أضعافا مضاعفة من مثل الحق في جواز سفر والحق في العودة إلى سالف العمل الحكومي أو شبه الحكومي أو حتى الخاص أحيانا. إذا كان الناس يتندرون في شأن بعض البلدان الخليلجية التي يكثر فيها (شعب البدون = أي الأجانب المستجلبين للخدمة لا حق لهم إلا حق العبد زمن الرق) فإنّه آن لنا أن نتندر ولكنه تندر كالبكاء بل أمر بأنّ تونس تعمل بنظام إداري مدني في المواطنة مزدوج: مواطن من درجة أولى وعدد هؤلاء قليل جدا ومواطن من درجة ثانية وعدد هؤلاء هو الأكثر أي عموم الشعب ومواطن من درجة ثالثة وهم المعارضون بصفة عامة.. تلك هي القيمة البئيسة التي تعمل الدولة دون هوادة على غرسها في النسيج القيمي التونسي. من عارض الدولة مات. إما موتا معنويا إن فر من وجه العدالة فلا جواز سفر يعيده إلى تربة أهله وإما موتا ماديا إن لازم تربة الأهل فلا عمل ولا عودة إلى العمل. يصورون المعارض على أنه مجرم خطير جدا من طراز ربما لا وجود له إلا في عوالم الجن.. هم يريدون: من عارض مات.. ونحن نريد: من عارض فهو الحي الذي رفض المشاركة في جريمة اغتيال البلاد ثقافيا واقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وقوميا.. الحوار.نت