وزيرة الأسرة تعطي إشارة انطلاق الندوات الإقليمية حول "الإدماج الاقتصادي للمرأة وتحقيق التنمية في أفق 2030"    عاجل/ الإعلان عن موعد انطلاق "أسطول الصمود" من تونس باتجاه غزة..    والد ضحية حفل محمد رمضان يكشف حقيقة "التعويض المالي"..    فيديو صادم يوثق اعتداءً على طفل في القيروان: الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان تتحرك قضائيًا    أحمد الجوادي قصة نجاح ملهمة تشق طريق المجد    إصابة عضلية تبعد ميسي عن الملاعب ومدة غيابه غير محددة    جلسة عامة خارقة للعادة لجمعية شبكة أطفال الارض يوم 13 اوت الجاري    سليانة: رفع إجمالي 275 مخالفة اقتصادية خلال شهر جويلية المنقضي    الحماية المدنية: إطفاء 105 حريقا خلال ال24 ساعة الماضية    القبض على "ليلى الشبح" في مصر: سيدة الذهب والدولارات في قلب العاصفة    الصين ترفض مطالبات واشنطن بعدم شراء النفط الروسي    7 قتلى خلال أعمال شغب في سجن بالمكسيك    استشهاد 56 فلسطينيا برصاص الاحتلال خلال بحثهم عن الغذاء    وزارة الأسرة تؤمن مواكبة 1200 من الأطفال فاقدي السند ومكفولي الوزارة للعرض التّرفيهي La Sur la route enchantée    عاجل/ تحذير من مياه الشرب المعلبة عشوائيا..    صيف 2025 السياحي: موسم دون التوقعات رغم الآمال الكبيرة    نتائج المباريات الودية لأندية الرابطة الأولى    الألعاب الأفريقية المدرسية: تونس في المرتبة الثالثة ب141 ميدالية    إنتقالات: الناخب الوطني السابق يخوض تجربة إحترافية جديدة    طقس اليوم.. انخفاض طفيف في درجات الحرارة    اليوم.. البحر شديد الاضطراب والسباحة ممنوعة    بنزرت: وفاة 4 أشخاص غرقا في يوم واحد    خطير/ حجز 7 آلاف رأس خروف في محل عشوائي..وهذه التفاصيل..    "روبين بينيت" على ركح مهرجان الحمامات الدولي: موسيقى تتجاوز حدود الجغرافيا وتعانق الحرية    وزارة الأسرة تؤمن مواكبة 1200 طفل من فاقدي السند ومكفولي الوزارة عرض La Sur la route enchantée ضمن الدورة 59 لمهرجان قرطاج الدولي    عاجل: الكاف يرفع جوائز الشان ل10 ملايين دولار وفما فرصة للتوانسة!    قرارات عاجلة لمجابهة انقطاعات مياه الشرب بهذه الولاية..    محمد عادل الهنتاتي: مصب برج شاكير كارثة بيئية... والحل في تثمين النفايات وتطوير المعالجة الثلاثية    فيديو -حسام بن عزوز :''الموسم السياحي يسير في الطريق الصحيح و هناك ارتفاع إيجابي في الأرقام ''    البحر ما يرحمش: أغلب الغرقى الصيف هذا ماتوا في شواطئ خطيرة وغير محروسة    عاجل: مناظرة جديدة لانتداب جنود متطوعين بجيش البحر... التفاصيل والتواريخ!    جريمة مروعة: امرأة تنهي حياة زوجها طعنا بالسكين..!!    خزندار: القبض على عنصر إجرامي خطير متورط في عمليات سطو وسرقة    ديوان التونسيين بالخارج ينظم الخميس 7 اوت الندوة الاقليمية الثالثة لاصيلي ولايات ولايات القصرين و سليانة القيروان و سوسة والمنستير و المهدية    عاجل/ خلال 24 ساعة: استشهاد 5 فلسطينين جراء الجوع وسوء التغذية..    تأجيل محاكمة طفل يدرس بالمعهد النموذجي بعد استقطابه من تنظيم إرهابي عبر مواقع التواصل    جريمة مروعة تهز دمشق: مقتل فنانة مشهورة داخل منزلها الراقي    تحذير طبي هام: 3 عناصر سامة في بيت نومك تهدد صحتك!    عاجل/ مقتل فنانة خنقا في عملية سطو على منزلها…    الصولد الصيفي يبدا نهار 7: فرصة للشراء ومشاكل في التطبيق!    شبهة تلاعب بالتوجيه الجامعي: النيابة العمومية تتعهد بالملف والفرقة المركزية للعوينة تتولى التحقيق    وزير السياحة يعاين جهود دعم النظافة بجزيرة جربة ويتفقد موقعا مبرمجا لاقامة مدينة سياحية ببن قردان    عرض "خمسون عاما من الحب" للفنانة الفرنسية "شانتال غويا" في مهرجان قرطاج الدولي    عاجل: تسقيف أسعار البطاطا والسمك يدخل حيّز التنفيذ    من بينها السبانخ.. 5 أطعمة قد تغنيك عن الفيتامينات..تعرف عليها..    القناوية... فوائد مذهلة في ثمرة بسيطة... اكتشفها    اعلام من باجة...سيدي بوسعيد الباجي    تاريخ الخيانات السياسية (35): المنتصر يقتل والده المتوكّل    يحدث في منظومة الربيع الصهيو أمريكي    أيام قرطاج السينمائية تكرّم الراحل زياد الرّحباني في دورتها المقبلة    العهد مع جمهور الحمامات ...صابر الرباعي... يصنع الحدث    مهرجان الفنون الشعبية بأوذنة: الفنان وليد التونسي يعود للركح ويستعيد دفء جمهوره    منظمة الصحة العالمية تدعو إلى إدماج الرضاعة الطبيعية ضمن الاستراتيجيات الصحية الوطنية وإلى حظر بدائل حليب الأم    لماذا يجب أن ننتبه لكمية السكر في طعامنا اليومي؟    هكذا سيكون الطقس هذه الليلة    عاجل : أحمد الجوادى يتألّق في سنغافورة: ذهبية ثانية في بطولة العالم للسباحة!    ما ثماش كسوف اليوم : تفاصيل تكشفها الناسا متفوتهاش !    شائعات ''الكسوف الكلي'' اليوم.. الحقيقة اللي لازم تعرفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجغرافيا والعقد الاجتماعي الجديد ولاية غير المسلم رئاسة الدولة ضحايا للظلم ومسوغون له !
نشر في الحوار نت يوم 31 - 03 - 2010


الجغرافيا والعقد الاجتماعي الجديد
ولاية غير المسلم رئاسة الدولة
ضحايا للظلم ومسوغون له !
نشأ الفقه السياسي الإسلامي مطبوعا بطابعين يحسن فهمهما. أولهما
، أنه ينتمي إلى عالم الإمبراطوريات لا عالم الدول. وقد لاحظ الفيلسوف الألماني هيغل أن "المواطن الحر الوحيد في الإمبراطورية هو شخص الإمبراطور".
لذلك لا عجب أن كان تركيز فقهائنا في الماضي على هذا "المواطن الحر" وما يتسم به من صفات -أهمها الإسلام- أكثر من تركيزهم على ركام العبيد المحيطين به.
وثانيهما أن العقد الاجتماعي الذي انبنت عليه الإمبراطوريات القديمة، ومنها الإمبراطوريات الإسلامية المختلفة (أموية وعباسية وعثمانية) تأسس على قانون الفتح وأخوة العقيدة لا على المساواة بين مواطنين أحرار، كما هو الحال في الديمقراطيات المعاصرة.
فالإمبراطوريات تتوسع باستمرار، ولا تثبت حدودها إلا حيث تقف (أو تهزم) جيوشها. والفاتحون هم من يملك حق الحكم السياسي، أما الشعوب المغلوبة فأمامها أحد خيارين، إما أن تباد أو تُستعبَد دون أمل في تغيير وضعها إلى المساواة مع الشعب الفاتح (كما هو الغالب في الفتوحات الرومانية والمغولية القديمة)، وإما أن تُمنح مواطنة من الدرجة الثانية مقابل ضريبة مالية، مع فتح الباب لها للمساواة إذا اعتنقت ديانة الشعب الفاتح (كما هو الحال في الفتوحات الإسلامية).
وربما يستثير هذا الكلام عن الفتوحات الإسلامية بعض من اعتادوا التمدح بالتاريخ من الذين يخلطون بين صورته وعبرته. والحق أن المسلمين كانوا أرحم الفاتحين في العصور الوسطى، كما شهد بذلك العديد من المؤرخين الغربيين المنصفين، مثل الفرنسي "غوستاف لوبون" في كتابه "حضارة العرب" La Civilisation Arabe، لكن هذا الحكم يجب أخذه في سياقه الزمني، فهي رحمة نسبية مقارنة مع توحش الفاتحين الآخرين الذين أبادوا أمما بالكامل.
لكن الإمبراطورية الإسلامية –شأنها شأن كل إمبراطورية- لم تتأسس على عقد اجتماعي يسوي بين مواطنيها، وما كان فيها من تسامح ديني وسياسي –يستحق الفخر والإشادة في سياقه التاريخي- ليس قريبا مما نطمح له اليوم من تحقيق مفهوم المواطنة المعاصر.
الجغرافيا والعقد الاجتماعي الجديد
إن بناء الدول على أساس من قانون الفتح والتضامن العرقي (كما كان الحال في الإمبراطورية الرومانية والمغولية)، أو على قانون الفتح وأخوة العقيدة (كما كان حال الإمبراطورية الإسلامية) لم يعد مناسبا أخلاقيا، ولا ممكنا عمليا. فالدولة المعاصرة لا تتأسس على الاشتراك في الدين أو العرق، بل على أساس الجغرافيا.
وإذا تحدثنا بلغة الفقهاء فيمكن أن نقول إن العقد الاجتماعي الجديد هو عقد ملكية عقارية، ولكل شريك في هذا العقد حق الانتفاع بالعقار، وحق الشفعة، وحسن الجوار، وعليه واجبات الصيانة، والدفاع، وإعادة البناء. وليس اختلاف العقيدة أو العرق بمؤثر على هذه الحقوق والواجبات. فما يجمع بين كل الدول المعاصرة هو هذه الأولية لعامل الجغرافيا على العوامل الأخرى التي كانت أساس العقد الاجتماعي في الإمبراطوريات القديمة، مثل الاشتراك في المعتقد أو العرق.
واللافت للنظر أن العقد الاجتماعي الجديد المؤسس على الجغرافيا أكثر انسجاما مع التجربة الإسلامية الأولى في المدينة على عهد النبوة، وهي تجربة سابقة على العصر الإمبراطوري في التاريخ الإسلامي، وأوْلى بالاعتبار مصدرا للأخلاق والقوانين السياسية الإسلامية.
فحينما أسس النبي صلى الله عليه وسلم أُولى دول الإسلام في المدينة، كان من بين مواطنيها مسلمون ويهود. وقد منحت الدولة الجديدة اليهود حرية الديانة وكامل المواطنة، لأنهم أعضاء مؤسسون في العقد الاجتماعي الذي قامت على أساسه الدولة، ولم تأخذ الدولة من اليهود ضريبة الجزية التي أخذها المسلمون من المواطنين غير المسلمين فيما بعد.
والمتأمل في دستور الدولة النبوية يجد قبولا بتعدد الهوية، وإقرارا بالمعاني المتعددة لمفهوم الأمة، فهو يؤسس للأمة الاعتقادية التي ينتمي إليها كل المسلمين داخل المدينة وخارجها، والأمة السياسية التي يدخل فيها المسلم وغير المسلم على قدم المساواة.
لذلك نصت الوثيقة على أن "يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم" (المادة 25)، ثم عممت الوثيقة هذا الوضع ليشمل جميع القبائل اليهودية بالمدينة (المواد 25-35). فدستور المدينة جعل كلا من المسلمين واليهود أمة بالمعنى الاعتقادي، لكنه دمجهما في أمة سياسية واحدة تجمع بينها الجغرافيا والحقوق السياسية.
ومن هذه الحقوق والواجبات السياسية أن "اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين" (المادة 24) وأن "بينهم النصر على مَن دهم يثرب" (المادة 44) وأن "بينهم النصر على مَن حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبرَّ دون الإثم" (المادة 37).
وهذا تقنين عادل واعتراف بالهوية المتعددة لمواطني الدولة الواحدة، كما أنه اعتراف بأن الأخوة بين البشر أوسع من انتمائهم الاعتقادي، وبأن انتماءهم الاعتقادي أوسع من هويتهم الوطنية والقومية. وفي هذا عبرة عميقة إذا وعيناها فستكون خير عون لنا على ترتيب العلاقة بين العروبة والإسلام، وبين المواطنين المسلمين والمواطنين غير المسلمين في الدول العربية المعاصرة.
ولاية غير المسلم رئاسة الدولة
تشترط العديد من دساتير الدول العربية أن يكون رأس الدولة مسلما. وهو أمر يثير إشكالا حول المساواة السياسية بين المواطنين، والأهم من ذلك أنه يجعل أساس العقد الاجتماعي التي تتأسس عليه الدولة العربية المعاصرة ملتبسا.
وقد تتبعت جذور هذا الرأي في التراث السياسي الإسلامي، فوجدت أنه رأي فقهي مبني على مصلحة حقيقية في عصر الإمبراطوريات، حينما كان الناس على دين ملوكهم، لكنه ليس مبنيا على نص من الوحي الإسلامي. والآية التي كثيرا ما يستشهد بها القائلون بهذا الرأي استشهادا متعسفا "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا" (سورة النساء، الآية 141) لا صلة لها بالموضوع، إذ هي تنتمي إلى الخطاب القدَري لا إلى الخطاب الشرعي.
ولو عاش فقهاؤنا المعاصرون في عصر الماوردي أو ابن تيمية لما أخذتُ عليهم الأخذ بهذا المذهب السياسي على أي حال، فديانة رأس الدولة في الإمبراطوريات القديمة هي التي تحدد ديانة الدولة والشعب.
لكننا لم نعد نعيش في عصر إمبراطوريات، ولم يعد من الخطر على الإسلام أن يكون رأس الدولة غير مسلم، لأن علاقة الدولة بالدين يحددها الدستور، لا عقيدة الرئيس أو ذوقه الشخصي. والناس اليوم على دين دساتيرهم لا على دين ملوكهم. وليس ما حقق المصلحة في القديم بمحقق لها في عصرنا بالضرورة. بل إن العدل والمصلحة يكمنان اليوم في بناء دول ديمقراطية حرة يستوي فيها مواطنوها بغض النظر عن المعتقد والعرق.
ومن المؤسف أن الفكر السياسي الإسلامي المعاصر لم يحسم هذا الأمر حتى الآن، رغم المحاولات الخجولة هنا وهناك, وإليكم الأمثلة:
أولا: كتب الإمام الشهيد حسن البنا في (رسالة التعاليم) المطبوعة ضمن مجموعة رسائله "والحكومة إسلامية ما كان أعضاؤها مسلمين مؤدين لفرائض الإسلام، غير مجاهرين بعصيان، وكانت منفذة لأحكام الإسلام وتعاليمه. ولا بأس أن نستعين بغير المسلمين عند الضرورة، في غير مناصب الولاية العامة".
ونسي الإمام البنا أن المواطن غير المسلم ليس عنصرا خارجيا غريبا يستعان به "عند الضرورة" فقط، بل هو عضو مؤسس في العقد الاجتماعي التي تقوم عليه الدولة المعاصرة وشريك أصيل في بنائها، وهي ليست دولة فتوح ينقسم مواطنوها إلى فاتح منتصر ومغلوب خانع، كما كان الحال في الماضي.
ثانيا: كتب الشيخ العلامة يوسف القرضاوي في كتابه (غير المسلمين في المجتمع المسلم) "ولأهل الذمة الحق في تولي وظائف الدولة كالمسلمين، إلا ما غلب عليه الصبغة الدينية كالإمامة ورئاسة الدولة والقيادة في الجيش، والقضاء بين المسلمين، والولاية على الصدقات، ونحو ذلك".
وزاد الشيخ الكريم في كتابه (الدين والسياسة) "وما عدا هذا المنصب الحساس [رئاسة الدولة] فالمجال مفتوح لغير المسلمين في كل ما يُحصِّلون شروطه، ويمتلكون مؤهلاته، ومن ذلك منصب الوزارة كما ذكر الإمامان: أبو الحسن الماوردي، وأبو يعلى الفرَّاء في (الأحكام السلطانية) من تولي أهل الذمة وزارة التنفيذ، وهناك بعض الوزارات لها حساسيات واعتبارات معيَّنة، مثل: وزارة الدفاع ووزارة الداخلية...".
وهذا اعتماد من الشيخ -وهو المجتهد المجدد- على الفقه القديم دون تدقيق مؤصِّل، وتوسيع لمفهوم الوظائف الدينية دون دليل. ونحن اليوم في أمس الحاجة إلى
الجغرافيا والعقد الاجتماعي الجديد
ولاية غير المسلم رئاسة الدولة
ضحايا للظلم ومسوغون له !
نشأ الفقه السياسي الإسلامي مطبوعا بطابعين يحسن فهمهما. أولهما
، أنه ينتمي إلى عالم الإمبراطوريات لا عالم الدول. وقد لاحظ الفيلسوف الألماني هيغل أن "المواطن الحر الوحيد في الإمبراطورية هو شخص الإمبراطور".
لذلك لا عجب أن كان تركيز فقهائنا في الماضي على هذا "المواطن الحر" وما يتسم به من صفات -أهمها الإسلام- أكثر من تركيزهم على ركام العبيد المحيطين به.
وثانيهما أن العقد الاجتماعي الذي انبنت عليه الإمبراطوريات القديمة، ومنها الإمبراطوريات الإسلامية المختلفة (أموية وعباسية وعثمانية) تأسس على قانون الفتح وأخوة العقيدة لا على المساواة بين مواطنين أحرار، كما هو الحال في الديمقراطيات المعاصرة.
فالإمبراطوريات تتوسع باستمرار، ولا تثبت حدودها إلا حيث تقف (أو تهزم) جيوشها. والفاتحون هم من يملك حق الحكم السياسي، أما الشعوب المغلوبة فأمامها أحد خيارين، إما أن تباد أو تُستعبَد دون أمل في تغيير وضعها إلى المساواة مع الشعب الفاتح (كما هو الغالب في الفتوحات الرومانية والمغولية القديمة)، وإما أن تُمنح مواطنة من الدرجة الثانية مقابل ضريبة مالية، مع فتح الباب لها للمساواة إذا اعتنقت ديانة الشعب الفاتح (كما هو الحال في الفتوحات الإسلامية).
وربما يستثير هذا الكلام عن الفتوحات الإسلامية بعض من اعتادوا التمدح بالتاريخ من الذين يخلطون بين صورته وعبرته. والحق أن المسلمين كانوا أرحم الفاتحين في العصور الوسطى، كما شهد بذلك العديد من المؤرخين الغربيين المنصفين، مثل الفرنسي "غوستاف لوبون" في كتابه "حضارة العرب" La Civilisation Arabe، لكن هذا الحكم يجب أخذه في سياقه الزمني، فهي رحمة نسبية مقارنة مع توحش الفاتحين الآخرين الذين أبادوا أمما بالكامل.
لكن الإمبراطورية الإسلامية –شأنها شأن كل إمبراطورية- لم تتأسس على عقد اجتماعي يسوي بين مواطنيها، وما كان فيها من تسامح ديني وسياسي –يستحق الفخر والإشادة في سياقه التاريخي- ليس قريبا مما نطمح له اليوم من تحقيق مفهوم المواطنة المعاصر.
الجغرافيا والعقد الاجتماعي الجديد
إن بناء الدول على أساس من قانون الفتح والتضامن العرقي (كما كان الحال في الإمبراطورية الرومانية والمغولية)، أو على قانون الفتح وأخوة العقيدة (كما كان حال الإمبراطورية الإسلامية) لم يعد مناسبا أخلاقيا، ولا ممكنا عمليا. فالدولة المعاصرة لا تتأسس على الاشتراك في الدين أو العرق، بل على أساس الجغرافيا.

وإذا تحدثنا بلغة الفقهاء فيمكن أن نقول إن العقد الاجتماعي الجديد هو عقد ملكية عقارية، ولكل شريك في هذا العقد حق الانتفاع بالعقار، وحق الشفعة، وحسن الجوار، وعليه واجبات الصيانة، والدفاع، وإعادة البناء. وليس اختلاف العقيدة أو العرق بمؤثر على هذه الحقوق والواجبات. فما يجمع بين كل الدول المعاصرة هو هذه الأولية لعامل الجغرافيا على العوامل الأخرى التي كانت أساس العقد الاجتماعي في الإمبراطوريات القديمة، مثل الاشتراك في المعتقد أو العرق.
واللافت للنظر أن العقد الاجتماعي الجديد المؤسس على الجغرافيا أكثر انسجاما مع التجربة الإسلامية الأولى في المدينة على عهد النبوة، وهي تجربة سابقة على العصر الإمبراطوري في التاريخ الإسلامي، وأوْلى بالاعتبار مصدرا للأخلاق والقوانين السياسية الإسلامية.
فحينما أسس النبي صلى الله عليه وسلم أُولى دول الإسلام في المدينة، كان من بين مواطنيها مسلمون ويهود. وقد منحت الدولة الجديدة اليهود حرية الديانة وكامل المواطنة، لأنهم أعضاء مؤسسون في العقد الاجتماعي الذي قامت على أساسه الدولة، ولم تأخذ الدولة من اليهود ضريبة الجزية التي أخذها المسلمون من المواطنين غير المسلمين فيما بعد.
والمتأمل في دستور الدولة النبوية يجد قبولا بتعدد الهوية، وإقرارا بالمعاني المتعددة لمفهوم الأمة، فهو يؤسس للأمة الاعتقادية التي ينتمي إليها كل المسلمين داخل المدينة وخارجها، والأمة السياسية التي يدخل فيها المسلم وغير المسلم على قدم المساواة.
لذلك نصت الوثيقة على أن "يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم" (المادة 25)، ثم عممت الوثيقة هذا الوضع ليشمل جميع القبائل اليهودية بالمدينة (المواد 25-35). فدستور المدينة جعل كلا من المسلمين واليهود أمة بالمعنى الاعتقادي، لكنه دمجهما في أمة سياسية واحدة تجمع بينها الجغرافيا والحقوق السياسية.
ومن هذه الحقوق والواجبات السياسية أن "اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين" (المادة 24) وأن "بينهم النصر على مَن دهم يثرب" (المادة 44) وأن "بينهم النصر على مَن حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبرَّ دون الإثم" (المادة 37).
وهذا تقنين عادل واعتراف بالهوية المتعددة لمواطني الدولة الواحدة، كما أنه اعتراف بأن الأخوة بين البشر أوسع من انتمائهم الاعتقادي، وبأن انتماءهم الاعتقادي أوسع من هويتهم الوطنية والقومية. وفي هذا عبرة عميقة إذا وعيناها فستكون خير عون لنا على ترتيب العلاقة بين العروبة والإسلام، وبين المواطنين المسلمين والمواطنين غير المسلمين في الدول العربية المعاصرة.


ولاية غير المسلم رئاسة الدولة
تشترط العديد من دساتير الدول العربية أن يكون رأس الدولة مسلما. وهو أمر يثير إشكالا حول المساواة السياسية بين المواطنين، والأهم من ذلك أنه يجعل أساس العقد الاجتماعي التي تتأسس عليه الدولة العربية المعاصرة ملتبسا.
وقد تتبعت جذور هذا الرأي في التراث السياسي الإسلامي، فوجدت أنه رأي فقهي مبني على مصلحة حقيقية في عصر الإمبراطوريات، حينما كان الناس على دين ملوكهم، لكنه ليس مبنيا على نص من الوحي الإسلامي. والآية التي كثيرا ما يستشهد بها القائلون بهذا الرأي استشهادا متعسفا "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا" (سورة النساء، الآية 141) لا صلة لها بالموضوع، إذ هي تنتمي إلى الخطاب القدَري لا إلى الخطاب الشرعي.
ولو عاش فقهاؤنا المعاصرون في عصر الماوردي أو ابن تيمية لما أخذتُ عليهم الأخذ بهذا المذهب السياسي على أي حال، فديانة رأس الدولة في الإمبراطوريات القديمة هي التي تحدد ديانة الدولة والشعب.
لكننا لم نعد نعيش في عصر إمبراطوريات، ولم يعد من الخطر على الإسلام أن يكون رأس الدولة غير مسلم، لأن علاقة الدولة بالدين يحددها الدستور، لا عقيدة الرئيس أو ذوقه الشخصي. والناس اليوم على دين دساتيرهم لا على دين ملوكهم. وليس ما حقق المصلحة في القديم بمحقق لها في عصرنا بالضرورة. بل إن العدل والمصلحة يكمنان اليوم في بناء دول ديمقراطية حرة يستوي فيها مواطنوها بغض النظر عن المعتقد والعرق.
ومن المؤسف أن الفكر السياسي الإسلامي المعاصر لم يحسم هذا الأمر حتى الآن، رغم المحاولات الخجولة هنا وهناك, وإليكم الأمثلة:
أولا: كتب الإمام الشهيد حسن البنا في (رسالة التعاليم) المطبوعة ضمن مجموعة رسائله "والحكومة إسلامية ما كان أعضاؤها مسلمين مؤدين لفرائض الإسلام، غير مجاهرين بعصيان، وكانت منفذة لأحكام الإسلام وتعاليمه. ولا بأس أن نستعين بغير المسلمين عند الضرورة، في غير مناصب الولاية العامة".
ونسي الإمام البنا أن المواطن غير المسلم ليس عنصرا خارجيا غريبا يستعان به "عند الضرورة" فقط، بل هو عضو مؤسس في العقد الاجتماعي التي تقوم عليه الدولة المعاصرة وشريك أصيل في بنائها، وهي ليست دولة فتوح ينقسم مواطنوها إلى فاتح منتصر ومغلوب خانع، كما كان الحال في الماضي.
ثانيا: كتب الشيخ العلامة يوسف القرضاوي في كتابه (غير المسلمين في المجتمع المسلم) "ولأهل الذمة الحق في تولي وظائف الدولة كالمسلمين، إلا ما غلب عليه الصبغة الدينية كالإمامة ورئاسة الدولة والقيادة في الجيش، والقضاء بين المسلمين، والولاية على الصدقات، ونحو ذلك".
وزاد الشيخ الكريم في كتابه (الدين والسياسة) "وما عدا هذا المنصب الحساس [رئاسة الدولة] فالمجال مفتوح لغير المسلمين في كل ما يُحصِّلون شروطه، ويمتلكون مؤهلاته، ومن ذلك منصب الوزارة كما ذكر الإمامان: أبو الحسن الماوردي، وأبو يعلى الفرَّاء في (الأحكام السلطانية) من تولي أهل الذمة وزارة التنفيذ، وهناك بعض الوزارات لها حساسيات واعتبارات معيَّنة، مثل: وزارة الدفاع ووزارة الداخلية...".
وهذا اعتماد من الشيخ -وهو المجتهد المجدد- على الفقه القديم دون تدقيق مؤصِّل، وتوسيع لمفهوم الوظائف الدينية دون دليل. ونحن اليوم في أمس الحاجة إلى الخروج من طوق الفقه السياسي القديم وفهم سياقاته التاريخية الموجِّهة، وبناء فقه سياسي جديد يعتمد روح الوحي وحاجة العصر.
ثالثا: كتب الشيخ راشد الغنوشي في كتابه (الحريات العامة في الدولة الإسلامية) "فالجميع [جميع الفقهاء] متفقون على أن الحاكمية العليا هي الشريعة، وأنه لا تجوز ولاية غير المسلم على المسلم وخاصة في بلد غالبيته إسلامية". وفي موطن آخر "وليس أمام غير المؤمنين بالإسلام إلا أن يسلموا ليتمتعوا بالحقوق العامة للمواطنة، ومنها الارتقاء إلى حق رئاسة الدولة الإسلامية أو رئاسة مجلس الشورى أو قيادة الجيش أو رئاسة مجلس القضاء الأعلى مثلا".
أما نقل الشيخ الغنوشي اتفاق فقهاء الماضي على رفض ولاية غير المسلم رئاسة الدولة فنقل صحيح، لكن اتفاقهم كان مبنيا على مصلحة في العصر الإمبراطوري، وليس مستمدا من نص في القرآن أو السنة حتى نجعل منه دينا. وأما اشتراطه الإسلام للحصول على كامل الحقوق السياسية فتحكُّم لا ينسجم مع مفهوم العدل الإسلامي الذي يشمل المسلم وغير المسلم على حد السواء "وأمرت لأعدل بينكم، الله ربنا وربكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم" (سورة الشورى، الآية 15)
ضحايا للظلم ومسوغون له
فهذه الأمثلة الثلاثة تدل على أن بعض العُقَد النظرية في فقهنا السياسي تحتاج إلى حل، ومن دون ذلك لن يكون طريق المستقبل أمامنا سالكا. ومما يبشر بالخير أن صحوة خجولة بدأت بالفعل في هذا الاتجاه.
فالشيخ الغنوشي تخلى عن رأيه في كتابه المنشور في الثمانينيات، وأصبح من القائلين بالمساواة السياسية الكاملة بين المسلم وغير المسلم، والشيخ القرضاوي لم يعد يرى بأسا في ترشح القبطي لرئاسة مصر (حسب ما ينقل عنه فهمي هويدي ضمن تعليقه على البرنامج السياسي للحزب الذي تقدم به الإخوان المسلمون بمصر عام 2007، (الشرق الأوسط 02/10/2007))، وقد قبل تولي المرأة رئاسة الدولة في رمضان الماضي. ود. محمد عمارة يرى أنه "يمكن التفكير بأن تكون المرأة أو غير المسلم على رأس الدولة" بناء على الفارق النوعي بين الدولة القديمة والحديثة.
لكن هذه الصحوة الخجولة تحتاج إلى تثبيت وتأكيد بأصوات لا تخشى تديُّن العوام، ولا سطوة الفقهاء.. أصوات تؤمن بأن جوهر الإسلام هو القيام بالقسط، وأن أساس التدين الصادق هو حرية الفرد لا سطوة الدولة.
وليس يعني هذا أن العلمانية الغربية هي الحل لعقدنا السياسية الحالية، بل الحل هو الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية. وكل إحلال للقوانين الأوروبية محل الشرع الإسلامي لن ينجح دون قهر لأغلب المواطنين.
وإذا كنا ضد قهر الأقليات غير المسلمة والتحيز ضدها، فنحن ضد قهر الأغلبية المسلمة أو مصادرة خيارها من باب أولى. لكن المرجعية الإسلامية تحتاج إلى من يميز بين الوحي والتاريخ، ليقدمها للناس مصدرا للمساواة والبر والقسط. أما من يرتهن لصور تاريخية عتيقة، ويريد صياغة الكون على مقاسها، فهو لن يقيم دولة القسط مهما يبذل من جهد أو يقدم من تضحيات.
إن القرآن الكريم يعلمنا أن غاية كل الرسل والرسالات هو القيام بالقسط "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط" (سورة الحديد 25). والعدل قيمة مطلقة وقانون أزلي لا يَخرمه اختلاف المعتقد أو الأوطان أو الأجناس، كما أكد ابن تيمية ببلاغة في قوله "إن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال، والظلم محرم مطلقا لا يباح بحال" (ابن تيمية: منهاج السنة 5/126).
فمن التناقض الأخلاقي والمنطقي أن ندعو إلى دولة الحرية والمساواة والعدل، ونحن نحرم مخالفينا في المعتقد أو العرق أو الوطن من هذه القيم. وقد لخص الأستاذ فهمي هويدي المفارقة التي يعيشها بعض الإسلاميين في هذا المضمار -ضمن مقاله المشار إليه آنفا- فكتب أن "الإخوان في البرنامج بدوا ظالمين ومظلومين في الوقت ذاته" فإلى متى نظل أول ضحايا الظلم وأكبر المسوغين له؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.