يكون الرسول صلى الله عليه وسلم جالساً بين أصحابه رضوان الله عليهم يعلمهم ويربيهم ، يحادثهم ويحاورهم ، يباسطهم ويوادهم . . فيهم الألمعي الذكي ، وفيهم البسيط الغر ، وفيهم الصغير الغمر القليل الخبرة ، وفيهم ذو السن الذي حنكته التجارب وعركته الحياة ، فدرى كنهها وذاق حلوها مرها . . ويسأله أحدهم سؤالاً ليس له جواب ، إما لأنه من علوم الغيب التي استأثر الله سبحانه نفسه بها فلا يطلع عليه أحداً ، وإما أن الجواب ليس له فائدة تذكر ، والمعرفة به لا تضيف جديداً ، وهنا يستغل النبي صلى الله عليه وسلم السؤال ويبني عليه قضية جديدة جديرة بالنظر والتفكير والتأمل ، جديرة بالعمل فيما ينتج عنها ، وهذا هو الأهم . فمن ذلك ما رواه أنس رضي الله عنه أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم : فقال : متى الساعة يا رسول الله ؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : ماذا أعددت لها ؟ قال : حب الله والرسول . فقال صلى الله عليه وسلم : أنت مع من أحببت(1) . فالأعرابي – كما رأينا - يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر غيبي لا يعرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ينتج عن معرفته أمر إيجابي ، ولا عن الجهل به أمر سلبي ،وهنا نجد أسلوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسميه البلاغيون : أسلوب الحكيم أو الالتفات إلى الأهم فيجيب عن سؤاله بسؤال : ماذا أعددت لها ؟ فالمهم في معرفة يوم القيامة الاستعداد لها ، والعمل الدؤوب الناصح ، وعندها يقر الأعرابي أنه قليل العمل ، ضعيف الهمة ، إلا أن في قلبه حباً عظيماً لله سبحانه ولرسوله الكريم . . جواب إن صدق فيه عظيم ، فهذا جوهر الإيمان ، وحقيقة الإسلام ، وهنا يقرر النبي صلى الله عليه وسلم قاعدة نورانية ، ضياؤها يشع ويملأ النفوس أملاً ، والقلوب سعادة ، والجوانح خشوعاً : أنت مع من أحببت ، وهل هناك هدف أسمى وأعظم من هذا الهدف ؟!! قال أنس في رواية أخرى فما رأيت المسلمين فرحوا بعد الإسلام أشد مما فرحوا يومئذ(2). ومن هذا القبيل ( أسلوب الحكيم والالتفات إلى الأهم ) ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم بصبي . فقالت : ادع له ، فقد دفنت ثلاثة . فقال : احتظرتِ بحظار شديد من نار(3) . فهذه امرأة – كما قرأنا - فقدت ثلاثة من أطفالها ، فلما ولد الرابع جاءت به النبي صلى الله عليه وسلم كي يدعو له بطول العمر. . ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم مستجاب ، ويحق لها ذلك ، فهي أم ، وما أدراك من الأم ؟! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أرادت ، لكنه نبهها والمسلمين إلى فضل من الله عظيم كتبه تعالى لمن يفقد أبناءه : إنه النجاة من النار . ومن هذا القبيل أيضاً : ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريد الجهاد فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : أحي والداك ؟ قال : نعم . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ففيهما فجاهد(4) . لفتة عظيمة من القلب الرحيم ، والمعلم العظيم ، ودرس رائع من أستاذ الأساتيذ ، ومعلم الناس الخير . فالجهاد ذروة سنام الإسلام لا شك في ذلك ولا ريب لكن رضاء الوالدين والقيام عليهما ، وتلبية حاجاتهما جهاد وأي جهاد !! إن قيامك على أمرهما ، وإرضاءك لهما جهاد عظيم فلا تُفَوّته أيها المسلم . وفي رواية أخرى عن رجل جاء يبايع على الهجرة ، وترك أبويه يبكيان ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما(5) . وأسلوب الحكيم قلّ من يستعمله ، فهو يحتاج إلى سرعة البديهة ، وذكاء ، وحسن في الأداء. (1) رواه الشيخان . (2) في الأدب المفرد الحديث / 353 / ، رواه الترمذي وأبو داود والنسائي والطبراني . (3) احتظرت : اتقيت ، ونجوت . والحديث أخرجه مسلم في صحيحه ، والبخاري في الأدب المفرد برقم / 145 / . (4) رواه البخاري في الأدب المفرد ، الحديث / 20 / . (5) رواه البخاري في الأدب المفرد الحديث / 19 / ، وأخرجه مسلم والنسائي وغيرهما .