مرّةً أخرى تأبى القضية الفلسطينيّة إلاّ أن تضع الكيان الصهيوني في الزاويّة الضيّقة، وتسبّب مزيداً من الحرج للأنظمة العربيّة الّتي تراهن على الزمن لطيّ ملفّها وإهالة التراب عليها ، ونلحظ هذه المرّة نقلة نوعيّة تتمثّل في امتزاج الدم العربي بالدّم التركي على متن سفن إغاثة غزّة، وتعدّي العدو الصهيوني للخطوط الحمراء باعتدائه السافر على الأوروبيّين أصحاب الحصانة الأخلاقيّة، فعسى هذا أن يكون خرقاً لجدار الصّمت المضروب على سلوك الدّولة العبريّة والّذي مكّنها من العربدة بكلّ طلاقة، لكن يشاء الله أن يكون دم آخر ضحاياها إيذاناً بانتهاء حصانتها، فقد كان اغتيّال محمود المبحوح أوّل ضربة إعلاميّة ودبلوماسيّة قويّة للكيان الصهيوني، ومازالت تداعيّاته متواصلةً، حتّى إذا حدث العدوان المسلّح على قافلة الحريّة كان ذلك صفعةً للرّأي العام الغربيّ الّذي أعمته الدعاية الصهيونيّة الضخمة وأصمّته منذ تقسيم أرض فلسطين، ليفيق الآن على تصرّفات تصيبه مباشرةً في أفراده وهيبة دوّله ، وهذه فرصة ذهبيّة يجب أن يستغلّها صفّ المقاومة لإبراز جرائم العدوّ للغرب الّذي دلّل هذه الدّولة المصطنعة المارقة وتحميله مسؤولياته وفتح عيونه على حصار غزّة اللاإنساني، والاحتلال البشع الّذي تعاني منه الضفّة، والعنصريّة المقيتة الّتي يتعرّض لها الفلسطينيّون داخل الخط الأخضر، وصولاً إلى العودة إلى ملابسات إنشاء الدّولة اليهوديّة على أرض لا حقّ لها فيها. إن كسب معركة الرأي العامّ الغربيّ من أولى أوّليّاتنا، إذ أنّه أكبر سند للعدوّ، ييسّر له تمرير أطروحاته والاستفادة من الدعاية الإعلاميّة والتأييد الرسميّ والشّعبي، فقد نجح في تصوير الفلسطينيّين (ومعهم العرب والمسلمون) بأنّهم إرهابيّون قتلة يرفضون السّلام والأمن، وصدّقت الشّعوب الأوروبيّة والأمريكيّون ذلك ردحاً من الزّمن، وآن أوان قلب السّحر على السّاحر، وتبليغ صوّر الهمجيّة الصهيونيّة إلى بقاع الأرض في مشهد له أكبر الأثر على التركيبة العقلية والنّفسيّة الغربيّة ، ألا وهي الاعتداء المسلّح على قافلة إغاثيّة سلميّة فيها برلمانيّون أوروبيّون ونساء بريئات. إن كسر الطوق الإعلامي المفروض على الحق الفلسطيني أوروبيّاً وأمريكيّاً واجب شرعي ووطنيّ سنحت فرصته، ويجب أن تتولاّه بكل عزم وقوّة ومنهجيّة القوى الشعبيّة الّتي تؤمن بالمقاومة بكل أشكالها، لأن الأنظمة العربيّة أضعف من أن تتولّى هذا الخيار بل لعلّ أكثرها لا يرغب فيه أصلاً، فإذا تهاوى التّأييد الشّعبيّ للكيان الصّهيونيّ تبعه التّأييد الرّسمي إلى حدّ بعيد، وهو في صالح القضيّة الفلسطينيّة العادلة. وإلى جانب معركة كسب الرّأي العام نرجو أن يكون العدوان على القافلة شحذاً لهمم المقاومة لتسدّد ضربات موجعة للعدوّ أينما كان، وبالدّرجة الأولى في فلسطين والعراق وأفغانستان، فهذه البلاد كلّها توّاجه عدوّاً واحداً هو الأصوليّة المتصهينة، فإذا تزامن تراجع شعبيّة الدّولة العبريّة مع تلقّي الغزاة لضربات مؤلمة شكّل ذلك ضغطاً على الحكومات الغربيّة لن تتحمّله طويلاً. وبناءً على قاعدة "رُبّ ضارّةٍ نافعة" فإن الإصابات القاتلة الّتي مزجت بين الدم العربي والتركي في الاعتداء على السّفن المبحرة إلى غزّة كفيلة بأن تسرّع وتيرة رجوع تركيا إلى أصالتها لتؤديّ دوراً قويّاً رائداً تخاذلت عنه الدّوّل العربيّة المنضويّة تحت لواء المشروع الأمريكي – الصهيوني الّذي أصبحت تعتبره قدراً محتوماً وخيّاراً استراتيجيّاً وحيداً ، ولو كلّفها ذلك موّاجهة شعوبها بدل مواجهة العدو الّذي يحتلّ أراضيها ويخنقها اقتصاديّاً وسيّاسيّاً وعسكريّاً. إن علينا أن نتيقّّن أن أحداث سواحل غزّة تؤذن بانتهاء الغطرسة الصهيونيّة مهما حاول العدوّ الظّهور بمظهر الواثق من نفسه وحصانته، هذه المرّة اعتدى على أوروبيّين ليس دمهم رخيصاً كالدّم العربيّ الّذي أرخصته الأنظمة الحاكمة، لا يمكن لدوّلهم السّكوت لأن شعوبهم لن تقبل منهم ذلك، وهذه فرصة لإسدال السّتار نهائيّاً عن المفاوضات العبثيّة والانخراط في خيار المقاومة بكلّ أشكالها الممكنة لإعادة الأمل للأمّة... أجل ، بدأت هزائم الصّهاينة، وبدأ الإنفراج عن فلسطين من غزّة المستبسلة إلى الضفّة الصامدة إلى أراضي 48 الحيّة الثابتة. وليس هناك هديّة نقدّمها للشيخ رائد صلاح ولباقي المتضامنين العرب والأجانب أفضل من التسلّح بالأمل الواعي الراسخ لردع العدوان وتحرير الأرض واسترجاع الحقوق المغتصبة بإذن الله. تلخيصا أقول إنّ القوى الحيّة في أمّتنا أمام انعطاف كبير تستطيع من خلاله الإنطلاق في عملية إعلامية مضادّة قوية الحجّة واسعة المدى تستهدف تغيير قناعات الشعوب الغربية بفضح أساليب الصهاينة وفلسفتهم العنصرية العدوانية ، وبيان الحق الفلسطيني المهضوم بفعل التأييد الغربي المتعدّد الأشكال لدولة الاغتصاب ، كما أنّ على الفصائل المقاومة في البلاد المحتلّة أن ترهق كاهل الأعداء بلا هوادة ليذوق وبال أمره وتتشتّت قواته ، ويا حبّذا لو نسارع إلى تسيير قوافل أخرى لفكّ الحصار عن غزّة في هذه الأيام بالذات لرفع درجة الضغط على العدوّ ومناصريه من الأنظمة العربية المعروفة وبعث رسائل أمل واضحة لشعوبنا المهمومة . وهناك – في تقديري – شرط أساسي لبلوغ هذه الأهداف الوطنية والقومية يتمثّل في وجوب اليأس النهائي من الحكومات العربية التي تتراوح مواقفها بين الساهمة النشطة في حصار القطاع وبين الإنبطاح أمام المخطّطات الصهيو-أمريكية ومباركتها ، فهؤلاء ثغرة نؤتى منها لا سند ننتظر منه النصرة ، وهو ما لا يحتاج إلى دليل ، واليوم بالذات وبمجرّد وقوع المجزرة الصهيونية خرجت مظاهرات عديدة في أكثر من عاصمة أوروبية تندّد بالعدوان أمّا العواصم العربية – إلا قليلا – فهي تحت " حماية " قوّات مكافحة الشغب لأنّها تعاني من حالة الطوارىء المعمّرة فيها ، وإن تضحكوا فها هو الموقف المصري يدعو لذلك : النظام المصري يصدر بيانا شديد اللهجة يدعو إلى فكّ الحصار عن غزّة !!! أي نعم ...هكذا ، وهو الذي يحاصر القطاع أكثر من الصهاينة أنفسهم ...فكم ذا بمصر من المضحكات ولكنّه ضحك كالبكاء عبد العزيز كحيل