مصطفى عياط / الاحد 15 شوال 1430 الموافق 04 أكتوبر 2009
ربما يكون السؤال الأول الذي يتبادر لذهن من يقرأ المقال الأخير للدكتور سلمان العودة، والذي حمل عنوان: "معًا ضد إرهاب القاعدة"، هو: هل قطع "العودة" شعرة معاوية بينه وبين ما يسمى بالسلفية الجهادية؟ وهل انتقل الاسم الأبرز بين مشايخ الصحوة في السعودية من موقع "النصح والنقد برفق" إلى جبهة "الرفض والمعارضة الجذرية"؟ هذا السؤال لم يأت من فراغ، فعبارات ومواقف المقال كانت من القوة والفصل بما لا يُعد مجالاً لأي تأويلات ملتبسة، بل إن العودة ذاته كان حريصًا في ثنايا المقال على قطع الطريق على أي تخريجات مخففة، حتى أن المرء ليشعر أنه أمام شهادة أراد بها د.العودة أن يبرئ ذمته أمام الله والناس والتاريخ، وقد تمثل ذلك في جملة من العبارات والكلمات الفارقة، والتي يقر العودة بأنه لم يعتد استخدامَها من قبل، مثل وصف القاعدة بالإرهاب كما في عنوان المقال: "إرهاب القاعدة"، ووصف أفعالها ب "جرائم الفساد في الأرض" و"المنكر العظيم"، كما يجزم د.العودة بأن هؤلاء، أي القاعدة والجماعات التي تنسب نفسها إليها، " لو صار بيدهم من الأمر شيء لأفسدوا وأهلكوا الحرث والنسل". ومع أن مواقف د.العودة الناقدة للقاعدة خاصة، وتيار السلفية الجهادية عمومًا، ليست بالأمر الجديد، إلا أن المقال بالفعل يدشن لمرحلة فارقة، تسقط فيها بالفعل "شعرة معاوية" التي حافظ عليها د.العودة فيما سبق، وهو ما يشير إليه المقال، إذ ينبه بشكل غير مباشر بالخطأ الذي وقع فيه العلماء والدعاة المحجمين عن البيان والإدانة الصريحة أو أولئك الذين معهم قطيعة مع الحكومات عن العدل وقول الحق قائلاً " إن صمتنا ومجاملتنا وإحساننا الظن" ساعد في إطالة أمد الفتنة ومكّن هؤلاء من التغرير ببعض البسطاء، ولذا فإن د.العودة اجتهد في سدِّ كل الأبواب وتفنيد الذرائع والمبررات التي قد يدفع بها البعض، ولو عن حسن نية، للإبقاء على قدر -ولو ضئيل- من الود والتعاطف مع القاعدة، بل إن المقال يدعو الشباب للحوار والمكاشفة حول أسباب هذا التعاطف وكيفية علاجها. وقفة مع السياق وقبل الخوض في تفاصيل المقال ومحاولة تحليل بنيته ومفرداته، ربما يكون من المفيد التوقف للحظات أمام السياق الذي سجل فيه د.العودة هذا "المقال الشهادة"، فهو يأتي بعد أيام من إطلاق الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة لمراجعاتها الفقهية، والتي دشن بها قادة الجماعة قطعية تامة مع تيار العنف وفكرِه، مؤكدين عودتهم للمرجعية الفقهية للأمة، وهو ما تجلَّى في حرصهم على عرض المراجعات على مجموعة من الفقهاء والعلماء المشهود لهم بالتفقُّه والاستقلالية، لإقرارها قبل الدفع بها للنشر العام، وقد كان د.العودة واحدًا من هؤلاء العلماء، حيث أثنى كثيرًا على المراجعات، واعتبرها "شجاعة محمودة" تُحسب لأصحابها. إلى هنا والأمر عادي، فما ورد بالمراجعات يتطابق كليةً مع آراء ومواقف د.العودة، بل إن واضعي المراجعات كثيرًا ما دللوا على مواقفهم بالاستشهاد بآراء واجتهادات د.العودة، لكن الجديد، والذي ربما تنفرد به المراجعات الليبية عن غيرها من المراجعات الأخرى، هو تشديدها المتكرر على أن غياب "العلماء الربانيين" كان سببًا رئيسًا في انجراف الشباب نحو طريق العنف، فهي تارة تؤكد أن "الأمر يزداد سوءًا حين تستحكِم الغفلة من نور العلم النافع في ظل غياب العلماء الربانيين، فتجتمع (بذلك) قلة العلم وضحالة التجربة وجموح العاطفة والاحتكام إلى السلاح"، وتارة أخرى تحذر من "أننا اليوم في محنة عظيمة وفتن أليمة كقِطَع الليل المظلم، ومن شأن الفتن أن تشتبه الأمور فيها ويكثر الخلط وتزيغ الأفهام والعقول، والمخلص من ذلك كله هو الرجوع إلى العلماء لمعرفة الداء والدواء". ولا شك أن هذه العبارات قد لمست وترًا حساسًا لدى د.العودة، خاصة أنه يبدو مهمومًا منذ فترة بتجلية موقفه من القاعدة وما يُنسب إليها من أفعال، وتبرز في هذا الإطار رسالته الشهيرة إلى زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، والتي حملت نقدًا غير مسبوق، حيث أعلن فيها براءته مما يفعله ابن لادن، قائلاً: "اللهم إننا نبرأ إليك مما يصنع أسامة، وممن يتسمى باسمه، أو يعمل تحت لوائه". كما سعى د.العودة مؤخرًا لجمع شمل الصوماليين خلف الرئيس شريف شيخ أحمد، الزعيم السابق للمحاكم الإسلامية، مؤكدًا استعداد الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الذي يشغل د.العودة عضوية مجلس أمنائه، لتبنِّي وساطة بين الفرقاء الإسلاميين هناك، إلا أن جماعة "شباب المجاهدين" المحسوبة على تنظيم القاعدة ضربت بهذه الدعوة عرض الحائط، وأعلنت حربًا مفتوحة ضد شريف وحكومته، مما أدى لمقتل وتشريد آلاف الأبرياء حتى الآن. قسوةٌ وصرامةٌ وفي ضوء هذه الملابسات، فإن مقال د.سلمان العودة تضمن جملة من الملاحظات الجديرة بالتوقف أمامها، فهو أولاً، وكما أشار العودة ذاته، تضمن عبارات "قاسية" و"قوية" لم يعتَدْ كاتب المقال على استخدامها، فعبارة "الفساد في الأرض" مثلاً عندما تأتي على لسان فقيه فهي لا تعني مجرد جملة بلاغية للزجر والتأنيب، وإنما تمثِّل حكمًا شرعيًّا من العيار الثقيل، كما أن د.العودة في ندائه الشهير ل"ابن لادن" خاطبه مرارًا بكلمة "أخي أسامة"، لكنه في مقاله الأخير كان صارمًا وحادًا، وخلا المقال من أي عبارات ليِّنَة أو رقيقة تجاه القاعدة وعناصرها. وهذا يقودنا للملاحظة الثانية وهي أن المقال لم يخاطب القاعدة أو قادتها في أي فقرة من فقراته، ولو على سبيل التلميح، وهو ما يحمل إشارة إلى أن كاتبه فَقَدَ أي أمل في عودة هؤلاء إلى جادة الصواب، ولم يعد هناك من سبيل إلا توعية الشباب والبسطاء من مغبة الانجرار وراء هذا التيار، كما أن المقال كان موجَّهًا في شق منه إلى العلماء والدعاة كي يتحملوا مسئوليتهم تجاه تبيان الحق للناس، ووصف الأمور بأوصافها الحقيقية، مشددًا على أن ذلك مهمة الجميع؛ الأب والأم والمدرِّس والخطيب والداعية، باعتباره "مهمة ربانية، وأمانة تربوية، ومعالجة دعوية". أما الملاحظة الثالثة فتتمثل في تجاهل المقال التام لمدخل "المكاسب والخسائر"، أو بالمفهوم الشرعي معيار "المصالح والمفاسد"، والذي يشكِّل المدخل المفضل لمن ينتقد القاعدة على أساس شرعي، فالعودة يدين منطق وفكر القاعدة من الأساس، بل ويرفض ربطه بأي سياق أو واقع اجتماعي أو سياسي، محذرًا من أن ذلك يشكِّل لدى البعض مدخلاً للتبرير والإعذار، ولذا فإنه يشدد على ضرورة تجريم أفعال القاعدة، بمعزل عن أي سياقات أخرى، قد تستوجب هي الأخرى التجريم، لكن ذلك يجب أن يتم بشكل منفصل، ودون أن نجعل من هذه مبررًا لذلك. تدشين معركة المُطالع لفقرات المقال وهذه هي الملاحظة الرابعة يدرك أن د.العودة لم يتعامل مع الأمر بطريقة: "قل كلمتك ثم امض"، فهو يعرف جيدًا ما سيجرُّه عليه المقال من انتقادات وشتائم "وكلمات طائشة" من قِبل البعض، بل إنه ألمح في مقدمة المقال لما فوق ذلك، ولذا فإن صياغة المقال كانت أشبه بإعلان "النكير العام"، مستهدفًا إثارة حالة عامة من النقاش حول ما ورد في المقال، وصولاً إلى تكوين رأي عام مؤيد لما كتبه. ويقودنا هذا إلى الملاحظة الخامسة وتتمثل في حرص د.العودة على جعل هذا النقاش شعبيًّا بعيدًا عن أي "حملة رسمية" أو "تكليف وظيفي"، وهو ما يمنح الدعوة مزيدًا من القوة والزخم في ظل تشكيك الكثيرين في كل ما هو رسمي أو حكومي. أما الملاحظة السادسة، والتي أشار إليها المقال ولو بشكل غير مباشر، فهي رفض د.العودة لتكفير القاعدة؛ فمع أنه شبَّه أفعالهم بالخوارج، الذين هم "شرُّ فِرَق الإسلام بلا منازع"، إلا أنه عاد وشدد على أن الراجح من أقوال العلماء هو عدم تكفير الخوارج، وأخيرًا فإن المقال حرص على قطع الطريق أمام من يتخيل أن وصول هؤلاء للحكم يعني سيادة الإسلام وتطبيق شرع الله، مؤكدًا أنهم "بعيدون عن فهم الشريعة، وإدراك مقاصدها، جاهلون بسنن الله في خلقه". تجفيف المنابع ورغم وجاهة رفض د.العودة ربط العنف وفكرِه بأي سياق اجتماعي أو سياسي، كي لا يصبح ذلك مدخلاً للتبرير، إلا أن ذلك لا يمكن التسليم به على إطلاقه؛ فربما يجب الحذر من ذلك في الأحاديث والخطب العامة، كي لا يحدث مثل هذا الربط لدى بعض البسطاء والشباب، إلا أنه في قاعات البحث وعلى موائد الفهم والتحليل لا يمكن فصل العنف باعتباره ظاهرة اجتماعية، حتى ولو انطلق من خلفية دينية عن سياقه العام، ففهم هذا السياق، وإصلاح ما بعناصره من خلل، يعدُّ مدخلاً رئيسًا لعلاج العنف وتجفيف منابعه، وبدون ذلك سوف يبقى فكر العنف قادرًا على جذب العديد من الغاضبين والحانقين واليائسين. فمثلاً إغلاق نوافذ المشاركة السياسية وحتى الدعوية، لا يجب أن يكون مبررًا للّجوء إلى العنف، إلا أنه لا يمكن إنكار أن مثل هذا الإغلاق يوفر التربة المناسبة لنمو العنف، وأن كون نوافذ المشاركة مشرعة أمام الجميع سوف يصعب كثيرًا من مهمة دعاة العنف ومحترفيه. أما الأمر الأخير الذي نود الإشارة إليه، فيتعلق بتراكم الدلائل والمؤشرات على وجود حالة من الرفض المتزايد للعنف وأفكاره بين المسلمين عبر العالم، وهو ما يرتبط في جزء منه بتغير المناخ العالمي مع رحيل إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش، المعروفة بعدائها الشديد للإسلام وحروبها المتعددة مع المسلمين، كما أنه باتت هناك قناعة متزايدة لدى معظم النخب المسلمة بأنه لا جدوى من اللجوء للعنف، سواء بدعوى الإصلاح أو للإطاحة بالأنظمة الفاسدة، ولذا فإن المزاج العام أصبح أكثر ميلاً نحو النهج السلمي في التغيير والإصلاح. وفي هذا السياق فإن مقال د.العودة، وما سبقه من مواقف أخرى، يشكِّل "معول هدم" مهم في جدران "القاعدة" الفكرية، خاصة أن البعض مازال يردد ما روَّجت له وسائل الإعلام الغربية من أن العودة كان أحد المنظِّرين الأساسيين لتنظيم القاعدة، وهو ما تم تفنيده في مقال سابق، كما أن أهمية مقال د.العودة تنبع –كذلك- من كونه ينتمي إلى المدرسة السلفية، التي تزعم القاعدة أنها تعبِّر عنها، لكن ما ورد بالمقال ينفي بشكل عملي أي صلة للقاعدة بالسلفية، سواء كانت تقليدية أم تجديدية.