رغم العقبات والتغطية الإعلامية المحدودة، قدمت المراجعات حججا من الشريعة الإسلامية لم تصدر القاعدة لحد الآن أي اعتراض عليها. تحليل أعدّه كميل الطويل من لندن
[Mahmud Turkia/AFP/Getty Images] رجل ليبي يبكي فرحًا بعد لقائه بنسيبه إثر خروجه من السجن في طرابلس. لم تأخذ تجربة الحوار بين ليبيا والجماعة الإسلامية المقاتلة زخمًا إعلاميًا كبيرًا كان يطمح إليه ربما بعض المشاركين فيها. لكن ذلك لا يُنقص بالطبع من أهمية ما أثمر عنه ذلك الحوار لجهة ما انتهى إليه من فتح الدولة الباب أمام استيعاب الجهاديين الذين يتخلون عن استخدام العنف وسيلة للتغيير، تمهيدًا لإعادة دمجهم في المجتمع. وعلى رغم النواقص العديدة بالطبع في هذه التجربة، إلا أنها تبقى بلا شك واحدة من التجارب الرائدة التي تستحق الدراسة لتحديد مدى نجاحها في طي صفحة الصراعات بين الأنظمة العربية والجماعات الإسلامية المسلحة. كان الحوار الذي بدأ بين الدولة والمقاتلة في 2006 قد بلغ ذروته في رمضان العام الماضي عندما أصدرت قيادة المقاتلة مراجعات ضخمة بعنوان "دراسات تصحيحية في مفاهيم الجهاد والحسبة والحكم على الناس". وخلصت فيها إلى عدم جواز حمل السلاح لقلب الأنظمة العربية والإسلامية. القائمون على المراجعات هم ستة من قادة المقاتلة - أميرها عبد الحكيم الخويلدي بالحاج (أبو عبد الله الصادق) ونائبه خالد محمد الشريف والمسؤول الشرعي سامي مصطفى الساعدي (أبو المنذر الساعدي) والأمير الأول للجماعة مفتاح المبروك الذوادي (عبد الغفار) والقائد العسكري مصطفى الصيد قنيفيد (أبو الزبير) وعبد الوهاب محمد قايد (الأخ الأكبر لأبي يحيى الليبي). وأقروا أنهم كانوا على خطأ في حمل السلاح منذ البدء ضد نظام العقيد معمر القذافي الذي حاولوا قلبه في منتصف تسعينات القرن الماضي لكنهم فشلوا في ذلك. كما انتقد أصحاب المراجعات في شكل مطول التفسيرات المخالفة لتعاليم الدين الإسلامي – في نظرهم – والتي تتمثل في قيام جماعات مسلحة بأعمال عنف أعمى تحت مسمى "الجهاد"، في إشارة مبطنة إلى بعض العمليات التي يقوم بها تنظيم القاعدة أو الجماعات التي تحمل فكره. وأتبع قادة المقاتلة مراجعاتهم هذه برسالة اعتذار من العقيد معمر القذافي على ما حاولوا القيام به (محاولات قلب نظامه واستهدافه شخصيًا بأكثر من محاولة اغتيال) معلنين أنهم أخطأوا حتى في تشكيل جماعة مسلحة، في موقف فُسر بأنه موافقة على حلها. شكّلت مواقف المقاتلة صدمة لبعض الإسلاميين الذين يُحسبون على "التيار الجهادي" المؤيد للقاعدة. ولم يرض بعض مؤيدي القاعدة الذين ينشرون في منتديات الإنترنت بخطوة وقف القتال مؤيدين الاستمرار في قتال من يصفونهم بالمرتدين في العالم العربي (الأنظمة الحاكمة) والغرب عمومًا، الذي يدعم هؤلاء للبقاء في السلطة، بحسب رأي القاعدة ومؤيديها. لكن الملاحظ أنه بعد صدور المراجعات بنسختها الكاملة، لم تصدر تأصيلات شرعية لا عن القاعدة ولا عن مؤيديها ترفض ما جاء فيها، في مؤشر واضح على أنّ المنتقدين لم يجدوا ثغرات فقهية في الأصول التي اعتمدها قادة الجماعة الليبية للوصول إلى الخلاصات التي انتهوا إليها. كافأت السلطات الليبية المقاتلة في مارس الماضي بالإفراج عن ثلاثة من قادتها الستة ممن شاركوا في إعداد المراجعات، إضافة إلى أكثر من 200 من الإسلاميين "الجهاديين"، سواء كان هؤلاء من المقاتلة أو ممن يُعرف ب"شبكات العراق" التي تضم في معظمها شبانًا صغار السن أوقفوا للاشتباه في تحضيرهم للانتقال إلى العراق والقتال هناك أو حتى للتحضير لعمليات داخل ليبيا نفسها أو في الدول المجاورة. ولم يكن الإفراج عن المسجونين الخطوة الوحيدة التي تم اعتمادها تجاه هؤلاء. فقد وعد الدكتور سيف الإسلام القذافي، نجل الزعيم الليبي، والذي كان شخصًا محوريًا في كل الحوارات التي جرت بين قادة المقاتلة المسجونين وقادة الأجهزة الأمنية منذ العام 2006، بأنّ الدولة ستعتني بالمفرج عنهم وتساعدهم كي يتمكنوا من الاندماج مجددًا في المجتمع وإعادة بناء مستقبلهم. لكن ليس واضحًا حتى الآن كيف تتم هذه المساعدة – إذا كانت تحصل فعلًا - وهل لجأت الدولة مثلًا إلى توفير مساكن للمفرج عنهم أو إيجاد فرص عمل لهم، أو حتى مدهم بقروض ليتمكنوا من البدء في مشاريع تجارية يعتاشون منها. وسيكون تنفيذ هذه الوعود أمرًا بالغ الأهمية بالطبع لأنه يمكن أن يزيل أي عقبات قد يتحجج بها بعضهم لحض المفرج عنهم على العودة إلى العنف، على أساس أنّ الدولة لم تنفّذ وعودها تجاههم. لكن هذا الأمر ليس العقبة الوحيدة بالطبع أمام اكتمال المصالحة بين الحكومة والجهاديين المفرج عنهم. فهناك مثلًا عقبة التشدد الواضح الذي يُظهره بعض الشباب المتحمس للمشاركة في ما يعتبره "جهادًا"، سواء في العراق أو أفغانستان أو الصومال. وقد ظهرت ملامح هذا التشدد في حوارات جرت بين الإسلاميين أنفسهم في السجون الليبية قبل إطلاق قادة المقاتلة في وقت سابق من هذا العام. ففي السجون، كان واضحًا أنّ قادة المقاتلة باتوا ينتمون إلى جيل مختلف عن "الجهاديين الجدد" الذين كانوا وهم في السجون يجاهرون بتأييدهم للقاعدة وزعيمها أسامة بن لادن. وهذا الجيل الجديد، بحسب مؤتمر عقد مؤخرًا في لندن لتقييم مراجعات الجماعة الإسلامية المقاتلة، رفضوا أيّ حوار مع الأنظمة التي وصفوها بأنها "مرتدة". وعلى رغم سعة العلم الشرعي لقادة المقاتلة، إلا أنّ بعض الشبان في السجون كانوا متحمسين فقط للمشاركة في "الجهاد"، على رغم عدم معرفتهم بكثير من شروطه التي حاول قادة المقاتلة إيضاحها لهم ولكن من دون جدوى. وانطلاقًا من ذلك، فإنّ أحد مكامن الخطر على المصالحة بين الدولة الليبية والإسلاميين يمكن أن يكون مرتبطًا بقيام إحدى هذه الشبكات المتأثرة بالقاعدة بأعمال عنف وتفجيرات. الأمر الذي قد يؤدي إلى رد فعل من الحكومة ضد الإسلاميين المفرج عنهم، سواء كانوا من مؤيدي القاعدة أو معارضيها. ومن العقبات أيضًا بعض الغموض في موقف الدولة الليبية نفسها من المصالحة مع "الجهاديين"، وربما كان ذلك ناتجًا عن طبيعة نظام الحكومة الجماهيري. فعلى رغم أنّ سيف الإسلام القذافي نجح في تأمين موافقة السلطات على الإفراج عن سجناء المقاتلة، إلا أنّ الواضح أيضًا أنّ هناك أطرافًا أخرى في الحكم الليبي لا تثق بالإسلاميين. إذ يعتبر بعض المسؤولين الكبار في الحكومة الليبية أنّ قادة المقاتلة لم يلجأوا إلى تغيير مواقفهم سوى بعدما هُزموا عسكريًا وقُضي على جماعتهم، في البدء داخل ليبيا في النصف الثاني من التسعينات، ثم لاحقًا عندما تسلمت ليبيا قادة المقاتلة بعد اعتقالهم في الخارج في إطار "الحرب ضد الإرهاب". وقد أعلن بعض المسؤولين الليبيين أنهم ما زالوا يعتبرون الإسلاميين يشكلون تهديدات أمنية. كما أنّ ثمة عقبة أخرى – ولعلّها الأهم – لم يُجب عليها بعد أي من الطرفين وهي تلك المتعلقة بالمستقبل السياسي لهؤلاء الجهاديين الذين وافقوا على التخلي عن العنف وباتوا ينبذون التصرفات التي تتبناها القاعدة أو تُنسب إليها وإلى الجماعات التي تحمل فكرها. فهؤلاء المفرج عنهم يطمحون بلا شك إلى أن يُسمح لهم في يوم من الأيام بالعمل لنشر أفكارهم، ولكن بطريقة سلمية هذه المرة. غير أنّ الحكم الليبي ما زال حتى اليوم لا يقبل العمل الحزبي، ويكتفي باعتبار أن النظام الجماهيري هو الوسيلة الأسمى للسماح للمواطنين بالتعبير عن أفكارهم وطموحاتهم من دون حاجة إلى المرور عبر أحزاب، سواء كانت إسلامية أم علمانية. ولكن يمكن حلّ هذه المشكلة على المدى الطويل. ومهما كانت هذه العقبات – وهناك الكثير منها بلا شك – إلا أنّ الأكيد أنّ نجاح تجربة الحوار في ليبيا أو فشلها سيؤثر سلبًا أو إيجابًا في الصراعات العديدة التي ما زالت تدور في كثير من الدول الإسلامية بين الأنظمة وبين المسلحين "الجهاديين". وبغض النظر عن هذا النجاح أو الفشل – وهو أمر لن يمكن الحكم عليه سوى على المدى الطويل بالطبع – إلا أنّ مراجعات قادة المقاتلة قدّمت تأصيلًا شرعيًا جازمًا يقطع بحرمة اللجوء إلى حمل السلاح لقلب أنظمة الحكم في العالم الإسلامي. وهو تأصيل لم تلجأ القاعدة نفسها حتى الآن إلى محاولة نفيه