في أواخر السبعينات كان لي شرف الجلوس إلى الشيخين الجليلين رحمهم الله وجعل الجنة دارهم ومثواهم عمر التلمساني و مصطفى مشهور .طلب منهما التحدث عن التعذيب فامتنعا,وقال الشيخ التلمساني كلمته التي أذهل بها الجميع : لا نشكو بمخلوق لمخلوق إنما إلى الخالق والخالق أدرى بما تعرضنا إليه. بقيت تلك الكلمات في ذهني, عندما خرجت من السجن واستقر بي الحال في سويسرا, قررت أن أكتب مذكراتي وعنونتها بأيام الجمر ولكنني لم أنشرها عملا بوصية الشيخ التلمساني رحمه الله. في هذه الأيام سمعت أغنية للأخوين محسن الزمزمي وبوكثير بن عمر, جازاهم الله عنا كل خير,أبكتني ورجعت بي الذاكرة إلى البلاد والأهل والأحباب و لكنني تذكرت أيام الجمر, تذكرت البوليس, تذكرت الاهانات, تذكرت المطاردات. فأردت أن أقص على إخوتي اللذين لم يعيشوا تلكم الأيام. يوم من أيام الجمر : طرق باب المنزل و قد كانت الساعة تشير إلى التاسعة ليلا أو أكثر. خرجت مسرعا علهم يكونوا زوار الليل خوفا من شرهم. وإذ بالباب أخ يخبرني بوفاة زوجة عمي, وقفت حائرا ماذا أفعل ? هل أفزع أقاسم أبناء عمي العزاء ? الحاجة مقامها كبير عندي وعند كل العائلة, يحبها الكبير والصغير. أخبرت زوجتي وأمي فتوجهتا على الفور لبيت عمي.أما أنا فبقيت أبكي وأشكو حالي إلى الله. الأولاد نائمون و زوار الليل(1) ربما يأتون من حين إلى أخر.ضاقت بي الدنيا فأخرجت كرسيا وجلست على قارعة الطريق حتى ساعة متأخرة من الليل. في صباح اليوم التالي ذهبت إلى مركز الشرطة كالعادة للإمضاء وكنت أوقع حينها أربعة مرات في اليوم ثم ,توجهت إلى البستان و بدأت أقدم العلف لما تبقى لي من عجول وخرفان. وإذا بالكلاب تنبح وإذا بخيل تمر وراء الإسطبل, خرجت مسرعا فوجدت أعوان فرقة الإرشاد أمامي, أخذني أحدهم من ذراعي و قال لي سي عبد الله يريدك. طلبت منهم أن أغير ملابسي فأبو فخلعت حذاءي البلاستيكي المتسخ بفضلات الأبقار قبل أن يركبوني في السيارة حين دخلت باب الغرفة أراد أحدهم أن يسلم علي بطريقتهم ولكن سي عبد الله منعه. أدخلني مكتبه و أمرني بالجلوس ثم قال لي : أين محمد زريق ? فاجبته . في كندا. غضب وقال :" لا فائدة من أهانتك فلقد رأوك معه البارحة" قلت. غير صحيح ذاك عادل أخوه. وقصصت عليه قصة وفاة جدته البارحة وكيف مر بي عادل... خرج من مكتبه ليتأكد من الأمر وبعد ربع ساعة تقريبا رجع وقبل أن يدخل المكتب سمعته يقول لأحدهم : والله في المرة القادمة إن أتيتني بخبر غير صحيح " إنعلقك " طلب مني الانصراف فخرجت من مكتب سي عبد الله و طلبت من الأعوان إرجاعي للبستان فامتنعوا وهددوني بإنزالي إلى "الجيول". خرجت حافي القدمين و الطقس بارد والحصى تمنعني من المشي فما تعودت المشي حافيا. قطعت مسافة مئة متر أو أكثر و دموعي تتساقط.. يا الاه أين أذهب ? وإذا بسيارة أجرة تقف بجانبي ويناديني صاحبها باسمي فتحي فتحي, ركبت معه وأنا أبكي ظلم العباد و رأسي يؤلمني من القهر. بدأت أفكر منذ ذلك اليوم في الخروج من تونس لأتركها إلى البوليس والمخبرين (1)البوليس