ظهرت على الساحة السياسية في مصر في التسعينيات من القرن الماضي ظاهرة عجيبة غريبة تكشف مدى انحدار الأداء السياسي في بعض بلدان العالم العربي، مفادها: أنّ كل مسؤول سياسي - وزير أو وال أو محافظ أو حتى مدير صحيفة حكومية -، إذا شعر يوما أنّ موقعه بدأ يرتج وأنّ نهايته في المنصب قريبة، فإنه يعمد إلى نشر تصريح في الصحف المحلية يهاجم فيه أكثر طرف سياسي معارض تمقته الحكومة، وهم الإخوان المسلمون. وما على ذلك المسؤول - بعد أن يحرص على بلوغ تصريحه إلى مسامع الإخوان أنفسِهم لا إلى عامة القراء - إلا أن ينتظر رد الإخوان عليه في الصحف أيضا، لأنه يعرف أنّ أجهزة المخابرات الداخلية الأنشط في العالم ستوصل إلى مسامع رئيس الدولة نقدَ الإخوان لذلك المسؤول، لتأتيَ النتيجة الحتمية القاضية ببقائه في منصبه وعدم عزله لعدة سنوات أخرى، خوفا من أن يُقال: "إنّ رئيس الدولة قد تأثر بموقف الإخوان، أو استجاب لرغبتهم في عزل فلان". وبذلك ينجح صاحبُنا بسهولة في البقاء في المنصب رغم أنف كلٍّ من الرئيس والإخوان. حيث يقع الإخوان في الفخ باستدراج ذلك المسؤول لهم لنقده، كما يقع الرئيس في الفخ أيضا باضطراره إلى إبقائه وعدم عزله، وهكذا تنجح الخطة بدون أي جهد أو تفان في العمل، ولا حاجة إلى البرهنة على الكفاءة في خدمة الشعب. لكن لسوء حظ هؤلاء المسؤولين المخادعين أنّ بعض وجوه المعارضة الوطنية تنبّهوا لهذه اللعبة، فناشدوا الإخوان أن يتوقفوا عن نقد من يهاجمهم من المسؤولين، لقطع الطريق عن خطة بقائه في المنصب... ومن يومها أصبح على هؤلاء المسؤولين أن يبحثوا لهم عن خطط أخرى أذكى للبقاء في مناصبهم التي لا يستحقونها بل ظفروا بها بالمداهنة، ولا رصيد لهم في الحفاظ عليها غير الاستمرار في المداهنة، إلا أنّ المداهن سرعان ما يُمَجّ مهما برع في ابتكار طرق جديدة في تطوير أساليب المداهنات.
ومن حسن حظنا نحن التونسيين أنّ رداءة الأداء السياسي في بلادنا لم تصل إلى هذا الحد المزري الذي يصبح فيه الرئيس مسْخرة ليقع في الفخ بهذا الشكل المهين، لسبب بسيط هو أنه لا يجرؤ أحدٌ أصلا على انتقاد مسؤول سياسي عندنا مهما هاجم المعارضين، وبذلك أُغلق الباب بالكلية، فحُرم مسؤولونا من الاستفادة من هذه اللعبة الذكية. إلا أنّ صِنفًا آخر من الناس عندنا، يبدو أنهم قد التقطوا طرفَ الخيط لهذه اللعبة السياسية المصرية الذكية، فاستوردوها بلا مقابل، وبدأوا يمارسونها إما خوفا أو طمعا. والأمرُ إلى هذا الحد لا غرابة فيه، لأنّ أساليب المداهنة السياسية في وطننا العربي دائمة التجدد والتطور في ظل حكومات ثابتة لا تعرف التجدد ولا التطور. ولكن الغريب أنّ الذين ركبوا هذه الموجة عندنا هم ناسٌ كنا وكانوا يعتبرون أنفُسَهم مناضلين شرفاء، وقبل أسابيع بل قبل بضعة أيام كانوا يصدعون بأن "لا خوف" و"لا رهبة" و"النضال مستمر حتى استرداد الحقوق المسلوبة"... لنتفاجأ في صباح يوم جديد بحملةٍ منهم على من رفعوا منذ ثلاثة عقود نفسَ تلك الشعارات، وعانوا من أجلها وصابروا عليها، إنهم إخوان تونس الذين لا يعيش التونسي في أمان إلا إذا لعنهم جهرا لا سرًّا، ولم يفُتْ هؤلاء - وخصوصا إذا كان لهم نصيب في الصحافة والإعلام - أنه يحسن أن يكون اللعنُ على الملأ، لا ليسمع الإخوان - فهذا ليس مهمًّا عندنا نحن معشر التونسيين خلافا لإخواننا المصريين - بل لتسمع لواقط النظام الحساسة، فيحصل "مناضلونا السابقون" على شهادة حسن سيرة، ويُغلق الملف. لا يخفى على أيّ تونسي - حتى من الزاهدين في السياسة - أنّ أصحابنا هؤلاء قد حظوا بضيافة في بعض مراكز الأمن تمتعوا فيها بمشاهدة عرضٍ بالألوان لأدوات وعُدة متنوعة سهلة الاستعمال، ولا يتقن العزفَ عليها غيرُ رجال الأمن والأمان، فكفَتهم المشاهدةُ، مؤكدين أنهم وعوا الدرسَ للوهلة الأولى ولا حاجة للدروس التطبيقية، "فالحُرُّ من غمزة" كما يقول أجدادُنا.
هذا صنفٌ من أصناف النضال عندنا، إنه نضال منتصف الطريق، أو بلغة الإخوان "الملعونين" هو نضال من سقطوا في طرق النضال...
ولكن نحن أيضا تونسيون حريٌّ بنا أن نلتقط الإشارة من تجربة نظرائنا المصريين، فلا نقع فيما وقع فيه إخوانُ مصر من الوقوع في فخ اللاعنين، حتى نقطع الطريق أمام "المناضلين الساقطين"، لأنّ الرد عليهم سيشجعهم على الاستمرار في اللعن، لا خوفا من "العُدة" و"العتاد" المتطور هذه المرة، بل طمعًا في مكسب ومغنَم. ومِن ثَم فإننا نتوقع أن تتكرر اللعنات في قادم الأيام، وفي منابر الأصحاب والأعداء على حد سواء. لذلك نناشد الإخوان أن يصّموا الآذان، ولا يلتفتوا للّعن والسباب. ولنكتفي بالقول كما يقولون: "ربنا يهدي.." واللبيب بالإشارة يفهم.