لما بدا لي ظافر الصامت متوجعا جدا لفقدانه ولده ، انتابني شعور متناقض ،إذ اراه من جهة رمز للمقاومة ، ومن جهة أخرى ليس مستعدا أن يضحي بولده من أجلها ...كان من الطبيعي بنظري ان يفرح إذ تساهم أسرته في هذا الفخر ، فخر جهاد المحتل الغازي لبيضة العروبة والإسلام ليجعلها يبابا تذروه الرياح ...فاستوقفته ليشرح لي ما الذي يجعله غير مغتبط بما اقدم عليه ابنه ... هنا اجابني بعد صمت طويل وتكلم كمن يتألم : القتال يا صديقي ، هو جزء من الجهاد ، رغم انه يستغرقه في مخيالنا الموروث ...وهو آخر الدواء ... ليس منا من لم يحلم به في يوم من الأيام ...و لا زال ، ولكن كما يقال لكل شيء شروط ..إلتقيت ببعض المقاتلين في السجون ..تحدثنا طويلا و بحرية تامة عن تجاربهم سواء في أفغانستان أو غيرها ...شباب تونس الفذ ، شارك في كل معارك الامة من فلسطين ، إلى افغانستان إلى البوسنة ، فالعراق ...منهم من قضي نحبه و منهم من عاد لتحتضنه السجون التونسية لتفني ما بقي من شبابه ... في الحقيقة لم اكن انوي الحديث في هذا الموضوع ، اردت أن أحدثك عن معاناتي في السجن الكبير الذي عشته بعد خروجي من البرزخ ،أي السجن الصغير ، لكنك يا صديقي تريد ان أثير جرحا آخر ، هو جرح الجهاد في زماننا هذا .. كانت أفغانستان في عقد الثمانينات ، أغنية اسمها الجهاد والشهادة ... هذا طبعا لا يروق لقوى الإستكبار في العالم ، فكان لا بد من إفساده.. هنا هبت شياطين الارض و مخابرات الدنيا للتآمر عليه ...رأوا خطره في بساطته ... اكتشف المجاهدون انهم كانوا يقاتلون السوفييت بمظلة امريكية ، حالما رفعت هذه المظلة وجدوا السجون العربية في انتظارهم ، رغم أن فتح ابواب الجهاد في أفغانستان كان قرارا للجامعة العربية بامتياز ... إذن المطلوب من شبابنا ان يخوضوا معارك الآخرين و دون وعي منهم ...ذكر لي الاخ حسين الجلاصي كيف ان الدعوات التي تلقوها للجهاد في الشيشان ، لقيت فتورا في انفسهم ، بعد الحسرة على تضحياتهم في افغانستان الذي أذهبها تقاتل الإخوة الأعداء سدى ....ثم بدأت المضايقات من المخابرات الباكستانية التي فتحت لهم كل الابواب في البداية بأمر امريكي ... كذلك كان مصير المقاتلين في البوسنة ... ضيقوا عليهم الأرض وهم اولى الناس بها .... ثم سطع نجم القاعدة الذي غذاه كل سيء في أوضاعنا ، وكلها سيئة ... كانت تجربتي البسيطة ، تستحثني أن أستخلص العبر ... إن تنظيما قطريا سريا لا يمكن ان يسلم من الإختراق ، فما بالك بالتنظيمات الدولية ؟ و في مكان هو أكبر خزان نفطي في العالم كالعراق ؟ من هنا خفت على ولدي ان يسقط في لعبة مخابرات أقوى منه ... و بحكم تتبعي للاحداث ، هذا ما حصل بالضبط ... عملت المخابرات بتؤدة للتسلل إلى المحيط الضيق للزرقاوي ، ثم بدؤوا في تصفية الرموز المخلصة ذات التجربة الجهادية النقية .. و بعدها كفر القادة الغامضون الجدد ، حاضنتهم الشعبية ، فمزقتهم الاحداث شر ممزق ... تلك هي الحقيقة .. وذلك هو الواقع ... ولذلك يا صديقي هناك الكثير الكثير من الجهاد ، قبل ان نفكر في القتال ... هذه بلادنا تنوء بالظلم و الظلمات ، الا تستحق الصبر ؟ لو ان كل عربي عمل على فك الاغلال التي تكبل بلده ، هل نحتاج لمجاهدين عابرين للقارات ؟ ... هذا ما استقر عليه رأيي بعدما شيبته الليالي الكالحات السواد ... أنا هنا في ارضي امد يدي لأخي المظلوم هناك دون أن اتزحزح ...أقف على ثغرتي وأعينه على ثغره بما استطيع .. إننا يا أخي إن لم نقاوم الإستبداد هنا في تونس ، فلا شك اننا سنكون يوما مثل العراق عرضة للغزاة ...هذا ما أكده التاريخ و أعاده باستمرار ... استبداد و مقت ، يعقبه غزو و دمار ... ابدا لم تحم الديكتاتورية سيادة لبلد ... صحيح أنك قد تتنسم رائحة الجنة في جبال الهندكوش او تعيش الحرية بمعناها الارحب في البانجشير او في صحارى الانبار ، ولكن الارض تعفنت بالسجون التي تنتظرك حيثما يممت وجهك ...إذن من هنا نبدأ ... كانت آخر وصيتي لمعاذ بعد أن استسهل التكفير ..تحرى الدماء ، فلا تلق الله بدم من قال لا إله إ لا الله .....ولكن هل عمل بها ؟ هذا ما اجهله إلى يوم الناس هذا ... التراكمات الرهيبة في تاريخنا المعاصر ، أثبتت بما لا اشك فيه ، اننا قوم عاطفيون جدا و متسرعون .. كل هذه الطاقات الجبارة التي تستعجل الجنة ، ماذا لو عملت على إ حياء الأمة أولا بصبر وأناة دون ان تغتر بإمكانياتها المحدودة امام امم القهر ؟ ... ماذا لو استعصى كل التونسيون الذين استشهدوا في بلاد الرافدين على طاغيتهم وأذاقوه طعم لحمهم المر ، الن يكون ذلك لبنة في الطريق الصحيح ؟ ... لم يعد بوسع صدري يا صديقي ان انافق هذا او ذاك .. لن انافق الظالم ، كما انه لن اجامل المظلوم ... قل لي بربك ماهي خبرة إبني عماد حتى يستطيع أن يتصرف دون استشارة الآخرين ؟ الاحلام ؟ كل شيء يبدأ بها ولكنها لا تكفي ... كل أحلام المعارضين في بلدي انكسرت على اشرعة الظلم ... الكل يحلم ان يغير الدنيا وحده دون استشارة أحد ودون التعاون مع احد ... وهذا يستحيل ... الكل يخلط الايديولوجيا بالسياسة فيحرق المراحل و يحترق ... و حتى الخص لك ...إننا نحتاج إلى استراتيجيا و استراتيجيين ليرسموا لنا طريق الوقوف بأقل الخسائر وبوقت مناسب ، و قبل هذا ان يعلمونا كيف نشفى من أمراضنا الحزبية والعقدية ، فنعمل لشعب ، لامة لا لحزب و لا مذهب ... إنني ضد من يجرنا للمربعات الأولى ، مربعات الحرب العقدية التي خاضها اجدادنا بالفكر في اروقة المساجد ونخوضها الان بالسلاح... ولذلك رأيتني يا صديقي ، لست مرتاحا كثيرا للنهج الذي سلكه ولدي ... واسمح لي ان أغلق القوس لاعود لما بدات سرده عليك من اخبار زنزانتي وطني ... يتبع بإذن الله