عاجل: سوبر الأحد..الترجي بغيابات مؤثرة والملعب التونسي يسترجع عناصره    أمطار وبَرَد في عز أوت: تقلبات مفاجئة تضرب 13 ولاية تونسية    عاجل/ تزايد محاولات القرصنة..ووكالة السلامة السيبرنية تحذر..    نقابة الصحفيين : مقاطع الفيديو المتعلقة بجماهير المهرجانات والمتداولة ليست لصحفيين محترفين ويجب احترام أخلاقيات المهنة    18/20 وُجّه لعلوم الآثار بدل الطب... تدخل وزاري يعيد الحق لتلميذ باكالوريا    تنبيه هام: تحويل جزئي لحركة المرور بهذه الطريق..#خبر_عاجل    شراو تذاكر ومالقاوش بلايصهم! شنوّة صار في باب عليوة؟    زغوان: حجز 735 كلغ من الأسماك الفاسدة كانت داخل براميل بلاستيكية كبيرة الحجم    عاجل/ زلزال بقوة 5.5 درجات يضرب هذه المنطقة..    عاجل/ القبض على "بلوجر" معروفة..وهذه التفاصيل…    الإدارة العامة للأداءات تنشر الأجندة الجبائية لشهر أوت 2025..    عاجل/ وزارة الفلاحة توجه نداء هام لمُجمّعي الحبوب وتقدّم جُملة من التوصيات للفلاحين..    كيف حال الشواطئ التونسية..وهل السباحة ممكنة اليوم..؟!    عاجل/ شبهات اختراق وتلاعب بمعطيات شخصية لناجحين في البكالوريا..نقابة المستشارين في الإعلام والتوجيه الجامعي تتدخل..    عاجل/ الحماية المدنية تُحذر من اضطراب البحر حتى وإن كان الطقس مشمساً..    غدًا.. الدخول مجاني لجميع المواقع الأثريّة والمعالم التاريخيّة    جامع الزيتونة ضمن السجل المعماري والعمراني للتراث العربي    الشاب بشير يمتع جماهير مهرجان سلبانة الدولي    تحذير: استعمال ماء الجافيل على الأبيض يدمّرو... والحل؟ بسيط وموجود في دارك    وزير التعليم العالي يتدخل وينصف التلميذ محمد العبيدي في توجيهه الجامعي    مونديال الكرة الطائرة تحت 19 عاما - المنتخب التونسي ينهي مشاركته في المركز الثاني والعشرين    اتحاد الشغل يؤكد على ضرورة استئناف التفاوض مع سلطات الإشراف حول الزيادة في القطاع الخاص    "تاف تونس " تعلن عن تركيب عدة اجهزة كومولوس لانتاج المياه الصالحة للشرب داخل مطار النفيضة- الحمامات الدولي    غازي العيادي ضمن فعاليات مهرجان الحمامات الدولي: ولادة جديدة بعد مسيرة فنية حافلة    المنظمة الدولية لحماية أطفال المتوسط تدعو إلى سنّ ضوابط لحضور الأطفال في المهرجانات والحفلات    أحمد الجوادي في نهائي 1500 متر: سباحة تونس تواصل التألق في بطولة العالم    كيفاش أظافرك تنبهك لمشاكل في القلب والدورة الدموية؟    شنية حكاية ''زكرة بريك'' اللي خوّفت جدودنا؟    الفنان "الشامي" يحقق نجاحا جماهريا باهرا ضمن فعاليات الدورة 45 لمهرجان صفاقس الدولي.    توقعات موسم أوت - سبتمبر - أكتوبر 2025: حرارة أعلى من المعدلات واحتمالات مطرية غير محسومة    جثمان متحلل بالشقة.. الشرطة تكشف لغز اختفاء عم الفنانة أنغام    بعد إيقاف مسيرتها.. أنس جابر تتفرغ للدفاع عن أطفال غزة    نواب أمريكيون يدعون ترامب لإنهاء الحرب في غزة    النادي الصفاقسي: لاعب جديد يغادر الفريق    طقس اليوم: أمطار رعدية متوقعة وارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة بالجنوب    الرضاعة الطبيعية: 82% من الرضّع في تونس محرومون منها، يحذّر وزارة الصحة    البطولة العربية لكرة السلة - المنتخب الجزائري يتوج باللقب    النادي الإفريقي يعلن تعاقده رسميا مع "فوزي البنزرتي"    كولومبيا.. تعيين ممثل أفلام إباحية وزيرا للمساواة    محمد رمضان يرد على الشامتين بعد انفجار حفله الغنائي: "اللي معندوش كلمة طيبة يخرس!"    بطاطا ولا طماطم؟ الحقيقة إلّي حيّرت العلماء    عاجل : القضاء الأميركي يوقف ترحيل آلاف المهاجرين: تفاصيل    سهرة قائدي الأوركسترا لشادي القرفي على ركح قرطاج: لقاء عالمي في حضرة الموسيقى    الحوثي يستهدف مطار بن غوريون بصاروخ باليستي    موجة شهادات مزورة تثير تداعيات سياسية في إسبانيا    مباراة ودية: تغيير موعد مواجهة النجم الساحلي والنادي البنزرتي    عرض كمان حول العالم للعازف وليد الغربي.. رحلة موسيقية تتجاوز الحدود    القصرين: منع مؤقت لاستعمال مياه عين أحمد وأم الثعالب بسبب تغيّر في الجودة    تاريخ الخيانات السياسية (33) هدم قبر الحسين وحرثه    أعلام من بلادي: الشيخ بشير صفية (توزر): فقيه وأديب وشاعر درس في الجزائر وتونس    التوجيه الجامعي.. تلميذ متميز متحصل على معدل 18 /20 طلب شعبة الطب فوجه إلى علوم الاثار    دكتورة في أمراض الشيخوخة تحذّر من اضطرابات المشي لدى كبار السن المؤدية إلى السقوط    انتعاشة هامة للسياحة/ هذا عدد عدد الوافدين على تونس الى 20 جويلية 2025..    وزارة الصناعة تمنح شركة فسفاط قفصة رخصة البحث عن الفسفاط " نفطة توزر"    وزارة التجارة تعلن عن تحديد أسعار قصوى للبطاطا وهوامش ربح للأسماك بداية من 4 أوت    هل يمكن لمن قام بالحج أن يؤدي عمرة في نفس السنة؟    شنوّة جايك اليوم؟ أبراجك تكشف أسرار 1 أوت!    خطبة الجمعة: أمسِكْ عليك لسانك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العلمانية بين دعاتها وأدعيائها
نشر في الحوار نت يوم 15 - 08 - 2010

لا يختلف اثنان في حقيقة أن العلمانية مفهوم غربي نبت في بيئة أوروبية في القرون الحديثة كنتيجة للصراع الذي كان محتدما بين الكنيسة الكاتوليكية من جانب، وبين الساسة والعلماء والمفكرين من الجانب الآخر، ذلك الصراع المرير الذي استغرق قرابة ثلاثة قرون وانتهي في القرن التاسع عشر بهزيمة الكنيسة وإقصائها من حياة الناس الجماعية، وعزْلها داخل أبنية الكنائس لتقتصر على الإيمان الفردي دون تدخل في أي عمل سياسي أو اجتماعي.
لكن السؤال الذي يختلف فيه كثيرون هو: هل بالإمكان استنبات بذرة العلمانية في بيئاتنا العربية والإسلامية؟ هذا سؤال جاد جدا وعلى درجة من الخطورة، ومع ذلك لم يكلّف العلمانيون أنفسَهم عناء طرحه في أذهانهم، واكتفوا بالمسارعة إلى استيراد العلمانية من بيئتها الغربية إلى بيئتنا العربية، دون الانتباه إلى دلالة اللفظ ولا خلفيّته الثقافية أو جذوره التاريخية. وهذا ما جعل مصطلح "العلمانية" مفهوما غائما معتّما حتى عند نخبة النخبة من العلمانيين، حتى أن رائد العلمانية ومنظّرها الأول الدكتور زكي نجيب محمود لمّا سُئِل: هل العِلمانية (بالكسر) نسبة إلى العِلم، أم أنها عَلمانية (بالفتح) نسبة إلى العالم، فأجاب بأن أمر اللفظ ليس معروفًا له ولا مهمًّا في نسبته، بل يصحّ نسبة العلمانية إليهما معًا فهي مشتقة من العِلم وتستوعب العالم.
وهذا بلا شك كلام خاطئ، إذ إن تتبّع دلالة اللفظ في بيئته الأصلية يفيد بأنه لا تربطه صلة بالعلم ولا بالعالم، بل هو كما جاء في موسوعة ويكيبيديا: "العلمانية ترجمة غير دقيقة، بل غير صحيحة لكلمة "Secularism" في الإنجليزية، أو "Sécularité" أو "laïque" بالفرنسية، وهي كلمة لا علاقة لها بلفظ "العِلْم" ومشتقاته، على الإطلاق..."[1].
هذا حال العلمانية في دلالتها اللغوية المجردة، فكيف حالها في واقع المجتمعات العربية التي استوردتها؟
يقول المفكر المرحوم الدكتور محمد عابد الجابري -وهو من المحسوبين على العلمانية-: "إن العلمانية، بمعنى فصل الدين عن الدولة شعار لا يستقيم، لا يطابق الواقع ولا يؤدي وظيفة إيجابية، إلا حيث تكون هناك مؤسسة تمثل الدين وتتكلم باسمه وفي نفس الوقت تنازع الدولة في سلطتها كدولة، فتكون النتيجة دولة ضد دولة، أو دولة داخل دولة، في مجتمع واحد. وواضح أن الحل في مثل هذه الحال هو الفصل بينهما بتحديد اختصاصات كلٍّ منهما تحديدا يجعل الواحدة منهما تمارس مهمتها دون أن تتشابك أو تتصادم مع الأخرى. وقد حدث في أوروبا أن تم هذا الفصل بجعل الواحدة منهما مختصة بالسلطة الروحية (الكنيسة) والأخرى مختصة بالسلطة الزمنية (السياسة: الدولة)"[2].
وكلام الدكتور الجابري واضح في التأكيد على أن العلمانية بالمفهوم المتعارف لدينا لا مكان لها عندنا في بلادنا العربية، لعدم وجود داع لوجودها أصلاً من تعدد المؤسسات الدينية والدنيوية المتنازعة على سلطة المجتمع، بما لم يظهر البتة في تاريخ المسلمين.. مما يجعل الحديث عن أن العلمانية هي مجرد "فصل الدين عن الدولة" هو كلام أجوف لا معنى له عندنا. والصواب هو أن جوهر العلمانية يتمثل في أنها "سياسة دنيوية عمَلية تؤسّس للمدنية وتضمن حقوق المواطنة"، ولا نظن أحدا من المثقفين الوطنيين من علمانيين وإسلاميين -على حد سواء- يخالف في هذا المعنى ولا يناضل من أجله. وإنما المخالفون في الواقع هم الحكام المستبدون وأعوانُهم ممن ينسبهم الجميعُ خطأ للعلمانية، فهم وحدهم الأعداءُ الحقيقيون للعلمانية الأصيلة.
وهذا يكشف مدى اشتباه وضبابية مفهوم العلمانية عندنا.. فإذا كانت دلالة لفظ العلمانية في أصلها اللغوي خاطئة وفي أذهان روادها غائمة، فلا عجب أن تكون في عموم العقل العربي أكثر تيها واشتباهًًا، خصوصا بعد تأسيس دول الاستقلال العربية، فقد قامت تلك الدول نظريًّا على أساسها، مما زاد في تشتُّتِ مدلولِها بين دعاتها وأدعيائها، وتوسع مفهومها عندنا حتى أصبحت في دلالتها ضدًّا للنسبة الإسلامية، بحيث أصبح كل من ليس بإسلامي فهو بالضرورة علماني. فاجتمع بذلك الساسة الحكامُ الذين استبدّوا بكلٍّ من الدنيا والدين -من يساريين وقوميين ومن يعتبرون أنفسَهم لبراليين- مع غيرهم من ضحاياهم من عامة المثقفين غير الإسلاميين؛ كلهم اجتمعوا في سلة واحدة هي سلة "العلمانيين"، وهو ما يتصادم مع حقيقة العلمانية[3]. وهذا بدوره آل بهؤلاء إلى اصطناع حلبة صراع يتكاتفون فيها جميعا لمصارعة الإسلاميين باعتبارهم أعداءً للعلمانية.
والعجيب أن المفكرين والمثقفين من دعاة العلمانية المخلصين لها أنفُسهم ظلوا يتماهون مع هذا التيه دون أن يجتهدوا في درء الإشكال -الذي وقعوا فيه ودفعوا الإسلاميين للتوجس منه- ولا حرصوا على تبرئة ساحة العلمانية من جرائر وجرائم أدعيائها من الحكام الذين تنكّروا لها، لمنْعهم من اختراقها والتلبس بها، مما أربك العقول وأدى إلى اختلاط الأمور وتشويه صورة العلمانية ذاتها في الأذهان.
ولا شك أن المستفيد الوحيد من هذا الالتباس هم أدعياء العلمانية وخصوصا المتنفّذون منهم، بخلاف دعاة العلمانية المخلصون لها والعلمانية ذاتها؛ فقد كانوا ضحية لهذا الخلط الشنيع. وقد صدق الحكماء القدامى لما أكدوا على وجوب تحرير دلالات المصطلحات قبل الخوض فيها حتى قالوا:"إذا تحرر محل النزاع فقد انتفى كل نزاع"، فهذه المشكلة هي من أخطر صور "معركة المفاهيم" في عصرنا الحاضر. والمحزن أنها معركة بين طرفين كلاهما ضحية لأدعياء العلمانية، وهم: النخبة المثقفة لدعاة العلمانية الخلّص من جانب، والإسلاميون الذين يُعتبرون -في العقل العربي- وحْدَهم أعداء العلمانية، من الجانب الآخر.
فلو أننا طرحنا المفاهيمَ النظريةَ جانباً؛ ونظرنا إلى واقعنا العربي الملموس؛ نجد أن هؤلاء جميعا هم ضحايا طرف ثالث محسوب خطأً على العلمانية وهم الحكام المتنفّذون. حيث نجد في النهاية اصطفافًا مضحِكًا قد استقر في أذهاننا، يجمع بين حكام العرب المستبدين ومساعديهم الجلادين الذين يصَنّفون ضمن العلمانيين، وبين ضحاياهم من نخبة مثقفي العلمانيين ودعاتهم، كلهم في صف واحد. أو بعبارة أوضح: نجد أنفُسَنا قد جمعنا في سلة واحدة بين رجل متنفّذ مثل الرئيس حسني مبارك باعتباره "علماني" وبين سجينه السابق السيد أيمن نور فهو أيضا علماني، وبين رجل مثل الرئيس بن علي وهو "علماني"، وبين ضحيته الدكتور منصف المرزقي فهو أيضا علماني. كما جمعنا بذلك بين رجل متنفذ مثل عبد الله القلال (وزير الداخلية التونسي الأسبق) وهو "علماني"، وبين ضحيته سهام بن سدرين فهي أيضا علمانية...
وهكذا يؤول واقع العلمانية عندنا نحن العرب إلى مهزلة مضحكة لصورة كاريكاتورية لا تقبل التصديق.
فالناظر لواقع الشعوب العربية وما تعيشه من محنة مريرة قبل الاستقلال وبعده، كثيرا ما ينطلق في نظرته لذلك الواقع باعتباره نتاجا للأيديولوجيا العلمانية، لمبررٍ بسيط هو أن حكام هذه الشعوب قد انتسبوا للعلمانية وما فتئوا منذ جلاء الاستعمار يرفعون رايتها. ليستفيق بعد ذلك هذا الناظر على حقيقة أن العلمانية والعلمانيين هم بدورهم ضحايا لتلك السياسة التي اعتقدوها يوما علمانية وهللوا لها، شاحذين أقلامهم في دعمها والعمل على ترسيخها، ومقاومة كل فكر مرجعه ديني باعتباره عدوّا لها، متفاجئين -بعد الانتباه- بأن أدعياء العلمانية من النخبة السياسية المتنفّذة هم أعداؤهم وأعداؤها، وأن من كانوا يعتقدونهم أعداءَهم من أنصار الدين هم بدورهم ضحايا جمَعتهم بهم ساحات النضال ضد الاستبداد الذي حكم الجميع باسم العلمانية، بل وكثيرا ما جمعتهم المعتقلات والسجون والمنافي.
وفي الطرف المقابل يتفاجأ الإسلاميّون بأن حروبهم الكلامية التي سبق أن شنّوها على العلمانية والعلمانيين باعتبارهم عبّاد الدنيا وأعداء الدين، لم تكن سوى وهمًا ومضيعة للوقت، وأن العلمانيين المخلصين لمبادئ العلمانية الحقيقية هم بدورهم ضحايا لأدعياء العلمانية يشاركونهم في محن الملاحقة والاضطهاد وذل الاستعباد..
لينظرَ عندها القوم إلى بعضهم ويتساءل الجميع: إذن من هؤلاء الحكّام الذين رفعوا رايات العلمانية وصدّعوا آذان الجميع بتمجيد مبادئها من حرية ومساواة ومواطنة كاملة لا يتدخل فيها الدين في الدولة ولا الدولة في الدين؟
عندها فقط يتبين للجميع أن هؤلاء الحكام ليسوا إلا مسخا تقنّعوا بقناع العلمانية ورفعوا رايات مزوّرة لها شبيهة برايات انتخاباتهم، وأنهم ليسوا أهلا للعلمانية وأن نسبتهم للعلمانية تدنيسٌ لها. ومجرد المقارنة بين علمانيتهم المدّعاة وعلمانية البلدان الأوروبية التي ظهرت فيها العلمانية الحقيقية ولازالت تحافظ عليها منذ تخلصها تماما من استبداد الكنيسة، يكشف الزيفَ الذي تلبّسوا به باطلا. ففي الوقت الذي يضطهد فيه أولئك الحكام الأدعياءُ مخالفيهم في الرأي من علمانيين وإسلاميين على حد سواء، نجد الأنظمة العلمانية في أوروبا تحمي هؤلاء وأولئك وتصون أرواحهم وأعراضهم جميعا دون تمييز، لينكشفَ بذلك الفرقُ البواحُ بين دعاة العلمانية هناك وأدعيائها هنا.
ولو أننا انطلقنا من أرضية مشتركة مفادها أن العلمانية لها مفهوم واحدٌ أحد هو أنها: "سياسة عملية دنيوية تؤسس للمدنية وتدعم حقوق المواطنة"، فهي -بهذا المعنى- الضامنُ لتحقيق السعادة الدنيوية لجميع المواطنين. -وهو المفهوم الأصيل كما لدى الأوروبيين[4]، بل هو الأساس الذي انبنت عليه نهضة البلدان الأوروبية في القرون الحديثة، فحققت بفضله حضارتَها التي ينعم بها مواطنوها اليوم بتمام حقوق المواطنة-.. لو أننا انطلقنا من هذه الأرضية المشتركة؛ فإنه سيكون لدينا مفهومٌ واحد لمضمون العلمانية يسلّم به الجميعُ، وضابطٌ موحّد في نسبة المنتسبين إلى العلمانية أو نفيها عنهم.
وعندها فإن النتيجة الحتمية ستقضي بالتالي:
- أن الحكام المستبدّين الذين تسلطوا على كلٍّ من الدنيا والدين -ومنهم أغلب حكام العرب مهما كانت انتماءاتهم- ليسوا علمانيين.
- وأن المادّيين الملاحدة ممن يدْعون إلى إلغاء الدين ابتداءً حتى من النفوس -لا مجرد إبعاده عن السياسة- همْ أيضا ليسوا علمانيين، سواءً كانوا في السلطة أو خارجها.
ونحسب أن هذا المعيار عادل، لمجرد أنه يقوم على أساس المفهوم الأصيل للعلمانية، وهو معيار ثابت وضابط حدّي حاسم، وليس فيه تكلّف، ولا ازدواجية، ولا تلاعب باللفظ ولا بالمعنى. وهو لذلك كفيلٌ بجعل العلمانية خالصة لأهلها الخُلّص، خاليةً من غربائها الدخلاء.
وبذلك نضمن إعادة مفهوم العلمانية في الواقع إلى مجاله الحقيقي، ليكون جامعا لأهله مانعا من غيرهم من المتطفلين عليه.
وبعد كل هذا؛ فما الداعي إذن من استمرار حرب الإسلاميين والعلمانيين، طالما أن عدو الجميع واحد هو عدوّ الدين والدولة معا، عدوّ المواطن وساحق المواطنة، إنه الاستبداد مهما كانت الرايات المزوّرة التي يرفعها ويتخفّى وراءها، فلتتوجهْ سهامُ الجميع نحوَه، ولتتوقفْ هذه الحربُ البلهاء بغية الخلاص من هذا الداء الفاتك بالجميع وطنا ومواطنين والمدنّس لكلٍّ من الدنيا والدين.
ونحن لا يخفى علينا أن المفاهيم إذا ترسّخت بالتقادم، فلا تُحسم بمجرد عرْض هذه المعايير والضوابط الحدية اللفظية، بل إن تغييرها في الأذهان قد يحتاج بدوره إلى ذات التقادم، ولكنه مع ذلك فهو علاجٌ إن لم يشفِ تماما فلا أقل من أن يخفف -في حال التنبه له- من حدّة الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين، ليلتفتوا جميعُهم إلى عدوّ العلمانية الحقيقي الذي هو الاستبداد مهما تلوّنت لافتاته؛ سواء كان مصدرُه أدعياء العلمانية، أو اليساريون الماديون أو القوْميون أو الإسلاميون...
فعلى العلمانيين إذن أن يكفّوا عن حربهم الكلامية التي تصل حد اللمز بالعقيدة التي هي عقيدتهم أيضا. وأن يدَعوا توجسَّهم المبالغ فيه من الإسلاميين، ظنًّا منهم أنهم أعداء العلمانية الألداء. وألا يشاحّوا في التمسك بلافتة الدولة العلمانية، لا مجاملةً للإسلاميين، بل لكثرة ما ترسّب في مفهومها من دنس استبداد الحكام الذين ولغوا فيها؟ مما لم يُبق أملاً في تطهير العلمانية من ذلك الدنس. وما محاولة التطهير -لو توجهت لها هِممُ بعضهم- إلا مضيعة للجهد والوقت، فهي أشبه بمحاولة تطهير لحم الخنزير من حامض البوليك.
ولا يعني ذلك أبدًا القبول بسطوة الدولة باسم الدين، فهذا أخطر على المواطنين -بل وعلى الدين نفسِه ودعوته[5]- من سطوة أدعياء العلمانية المستبدّين. وهو ما لا يرضاه مناضلو الإسلاميين الذين سيظلون على العهد، ولو اقتضى الأمر منهم التمرد والعودة إلى خندق مقاومة إخوة الأمس إذا خانوا الأمانة فانقلبوا مستبدين.
وعلى الإسلاميين -في المقابل- أن يُطَمْئنوا العلمانيين بأن الدولة الإسلامية بطبعها دولة مدنية تصون القيم التي يؤمن بها كل مسلم، وتحفظ حقوق المواطنة لجميع مواطنيها، وليست دولة دينية بالمعنى اللاهوتي "التيوقراطي" المترسب في أذهان العلمانيين.
ولا يعني ذلك التنازل عن المبادئ، لأن موضوع الخلاف -كما سبق بيانه- لا يزيد عن كونه لفظيا قاصرا على المفهوم. ووعيُ أكثرِ الإسلاميين اليوم وانفتاحُهم يؤهّلهم لمشاركة المخالفين من مناضلي العلمانيين في سياسة الدولة دون إقصاء، والمواظبة على النضال من أجل خدمة المجتمع وحماية الحقوق المدنية فيه، تماما كما في مشاركة الأحزاب المسيحية في أوروبا لغيرها من الأحزاب على أرضية واحدة مشتركة هي أرضية "الديمقراطية".
وبهذا يمكن أن يلتقي الطرفان في موقع وسط لا هو بالعلمانية المغالية ولا باللاهوتية المتعالية، وهو موقع "الديمقراطية"، وقد قبِل بها الإسلاميون الفاعلون منذ عقود، ولم يروا غضاضة في رفع رايتها طالما أنها تتضمن مفاهيم الشورى والعدل والمساواة، فكلها قيم إسلامية إنسانية سامية، فالدولة الديمقراطية هي الدولة الإسلامية طالما كانت الهويّة الإسلامية مصونة فيها، ومجلس النواب أو السلطة التشريعية هي ذاتها مجلس الشورى، اختلفت الأسماء والمسمّى واحد[6].
محمد بشير بوعلي
جامعي تونسي مهجّر
------------------------------------------------------------------------

[1] انظر أيضا: دائرة المعارف البريطانية وقاموس "العالم الجديد" لوبستر، "ومعجم أكسفورد"....
[2] محمد عابد الجابري، الدين والدولة وتطبيق الشريعة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1996م، ص116.
[3] جاء في موسوعة ويكيبيديا:"على المستوي السياسي تطالب العلمانية بحريّة الاعتقاد وتحرير المعتقدات الدينية من تدخل الحكومات والأنظمة، وذلك بفصل الدولة عن أية معتقدات دينية أو غيبية، وحصر دور الدولة في الأمور المادية فقط.
[4] يحسن التذكير هنا أن تركيز روّاد العلمانية في أوروبا -خلال عصر النهضة- لم يكن منصبًّا ابتداءً على معاداة الدين أو الآخرة.. بل على مقاومة ظاهرة الزهد السلبي الذي يحتقر الدنيا ويعظّم الآخرة.. وهو ما شجعت عليه الكنيسة في العصور الوسطى، فأدى إلى انحطاط الحياة الاجتماعية. فجاء العلمانيون بدعوة مضادة تركّز على الاهتمام بالدنيا ومكاسبها الحياتية. جاء في دائرة المعارف البريطانية مادة "Secularism" ما نصه: "وهي (العلمانية) حركة اجتماعية، تهدف إلى صرف الناس، وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة، إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها، وذلك أنه كان لدى الناس في العصور الوسطى رغبة شديدة في العزوف عن الدنيا، والتأمل في الله واليوم الآخر، وفي مقاومة هذه الرغبة طفقت ال "Secularism" تعرض نفسها من خلال تنمية النزعة الإنسانية، حيث بدأ الناس في عصر النهضة يظهرون تعلقهم الشديد بالإنجازات الثقافية والبشرية، وبإمكانية تحقيق مطامحهم في هذه الدنيا القريبة".
[5] فكلنا نعلم شدة ردة فعل الأوروبيين والأمريكيين السلبية تجاه الدين، بعد خلاصهم من استبداد الكنيسة، ودخولهم مرحلة النهضة الصناعية في القرن التاسع عشر، حيث عمتهم موجة إلحاد عارمة، بسبب شعورهم أنهم كانوا مخدوعين من قبل الكنيسة ورجال الدين الذين استغفلوهم واستغلوهم لقرون طويلة، وأن إيمانهم بالدين كان وهمًا يجب التخلص منه.
[6] يُروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما بلغه أن أهل قبيلة بني تغلب النصارى مستاءون من تسمية الجزية، وأنهم يريدونها زكاة، قال: ادفعوها وسمّوها بما شئتم، والإسلاميون اليوم يسَعهم ما وسع الخليفة الراشد عمر بن الخطاب في عدم المشاحة في الأسماء طالما كانت المبادئ نفسُها مصونة، وخصوصا في الأشكال الدستورية للدولة، التي لم يُعِرْها الإسلامُ اهتماما، بقدر ما اهتم بالمبادئ المضمونية كالعدل والشورى والحرية والمساواة...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.