فتحت ضدّه 3 أبحاث تحقيقية .. إيداع المحامي المهدي زقروبة... السجن    في ملتقى روسي بصالون الفلاحة بصفاقس ...عرض للقدرات الروسية في مجال الصناعات والمعدات الفلاحية    يوميات المقاومة .. هجمات مكثفة كبّدت الاحتلال خسائر فادحة ...عمليات بطولية للمقاومة    المنستير .. المؤبّد لقاتلة صديقها السابق خنقا    رفض وجود جمعيات مرتهنة لقوى خارجية ...قيس سعيّد : سيادة تونس خط أحمر    ارتفاع عجز الميزان الطاقي    دخول مجاني للمتاحف والمواقع الأثرية    دغفوس: متحوّر "فليرت" لا يمثل خطورة    صفاقس: هدوء يسود معتمدية العامرة البارحة بعد إشتباكات بين مهاجرين غير نظاميين من دول جنوب الصحراء    العدل الدولية تنظر في إجراءات إضافية ضد إسرائيل بطلب من جنوب أفريقيا    كاس تونس - تعيينات حكام مباريات الدور ثمن النهائي    الترفيع في عدد الجماهير المسموح لها بحضور مباراة الترجي والاهلي الى 34 الف مشجعا    فيفا يدرس السماح بإقامة مباريات البطولات المحلية في الخارج    مباراة الترجي والاهلي.. وزارة الداخلية تتخذ اجراءات خاصة    توقيع مذكرة تفاهم بين تونس وسلطنة عمان في مجال التنمية الاجتماعية    وكالة (وات) في عرض "المتوسط" مع الحرس .. الموج هادر .. المهاجرون بالمئات .. و"الوضع تحت السيطرة" (ريبورتاج)    طقس الليلة    سوسة: الحكم بسجن 50 مهاجرا غير نظامي من افريقيا جنوب الصحراء مدة 8 اشهر نافذة    القيروان: إنقاذ طفل إثر سقوطه في بئر عمقها حوالي 18 مترا    تأمين الامتحانات الوطنية محور جلسة عمل بين وزارتي الداخليّة والتربية    تعزيز نسيج الشركات الصغرى والمتوسطة في مجال الطاقات المتجددة يساهم في تسريع تحقيق أهداف الاستراتيجية الوطنية للانتقال الطاقي قبل موفى 2030    باجة: باحثون في التراث يؤكدون ان التشريعات وحدها لا تكفي للمحافظة علي الموروث الاثري للجهة    توزر: تظاهرة احتفالية تستعرض إبداعات أطفال الكتاتيب في مختتم السنة التربوية للكتاتيب بالجهة    وزارة الثقافة تنعى المطربة سلمى سعادة    صفاقس تستعدّ للدورة 44 لمهرجانها الصيفي    إمضاء اتّفاقية تعبئة قرض مجمع بالعملة لدى 16 مؤسسة بنكية محلية    تونس تسجل رسميا تحفظها على ما ورد في الوثائق الصادرة عن قمة البحرين بخصوص القضية الفلسطينية    جندوبة: وزير الفلاحة يُدشن مشروع تعلية سد بوهرتمة    عاجل: "قمة البحرين" تُطالب بنشر قوات حفظ السلام في فلسطين..    إذا لم تكن سعيداً فلا تأتِ إلى العمل : شركة تمنح موظفيها ''إجازة تعاسة ''    هل سيقاطعون التونسيون أضحية العيد هذه السنة ؟    106 أيام توريد..مخزون تونس من العملة الصعبة    اليوم : انطلاق الاختبارات التطبيقية للدورة الرئيسية لتلاميذ الباكالوريا    نادي السد القطري يعلن رحيل "بغداد بونجاح" عن صفوف الفريق    ناجي الجويني يكشف عن التركيبة الجديدة للإدارة الوطنية للتحكيم    سوسة: الإطاحة بوفاق إجرامي تعمّد التهجّم على مقهى بغاية السلب باستعمال أسلحة بيضاء    قيس سعيد يُؤكّد القبض على محام بتهمة المشاركة في وفاق إرهابي وتبييض أموال    عاجل : جماهيرالترجي تعطل حركة المرور    المعهد الوطني للإحصاء: انخفاض نسبة البطالة إلى حدود 16,2 بالمائة    سيدي بوزيد: انطلاق الدورة 19 من مهرجان السياحة الثقافية والفنون التراثية ببئر الحفي    رئيس الجمهورية يبحث مع رئيس الحكومة سير العمل الحكومي    عاجل: متحوّر كورونا جديد يهدّد العالم وهؤلاء المستهدفون    ظهورالمتحور الجديد لكورونا ''فيلرت '' ما القصة ؟    حزب الله يستهدف فرقة الجولان بأكثر من 60 صاروخ كاتيوشا    الأيام الرومانية بالجم . .ورشات وفنون تشكيلة وندوات فكرية    محمد بوحوش يكتب...أدب الاعتراف؟    الخُطوط التُونسية في ليبيا تتكبد خسائر وتوقف رحلاتها.    إصدارات.. الإلحاد في الفكر العربي الإسلامي: نبش في تاريخية التكفير    ديوان السياحة: نسعى لاستقطاب سيّاح ذوي قدرة إنفاقية عالية    بطولة اسبانيا : أتليتيكو يهزم خيتافي ويحسم التأهل لرابطة الأبطال الاوروبية    زلزال بقوة 5.2 درجات يضرب هذه المنطقة..    استشهاد 3 فلسطينيين بنيران جيش الاحتلال في الضفة الغربية    أمراض القلب والجلطات الدماغية من ابرز أسباب الوفاة في تونس سنة 2021    أكثر من 3 آلاف رخصة لترويج الأدوية الجنيسة في تونس    مفتي الجمهورية... «الأضحية هي شعيرة يجب احترامها، لكنّها مرتبطة بشرط الاستطاعة»    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مسألة الحجاب في تونس:و منطقة الاختراق الثقافي
نشر في الحوار نت يوم 08 - 10 - 2009


ابو عدنان*
مرة اخرى تعود مسألة الحجاب الى تصدر واجهة الاحداث ليس على المستوى المحلي او الاقليمي فحسب وانما على المستوى الدولي. ويبدو من خلال الكثير من المؤشرات انه يراد لهذه النقطة ان تختزل حجم التناقض بين الحضارتين الاسلامية والغربية. بعبارة اخرى فقد تحولت مسألة الحجاب الى خط التماس الاول بين المنظومتين الثقافيتين المنخرطتين، على الاقل في نظر البعض من الجانبين، في علاقات صراع حضاري من جهة، وفي سيرورة العولمة التي فجرت الحدود التقليدية والمفاهيمية للعالم والتي حدت خاصة من قدرة الفاعلين، افرادا وكيانات، على بناء وتوجيه الاستراتيجيات المستقبلية بالدقة التي يراد لها.
قد يبدو للوهلة الاولى ان اثارة المسألة، وفي هذا الوقت بالذات وبالتزامن في الغرب بصفة عامة وفي بلد اسلامي بصفة خاصة وهو تونس، انما هو من محض الصدفة والاتفاق. لكن المسألة تتعدى احتمالات حسن النية هذه الى ابعاد اخرى اكثر عمقا وهو مايحاول هذا المقال الكشف عن بنيتها الخفية وبيان حجم الرهانات المعلقة عليها.
يخطئ من يؤرخ للنوايا العدوانية للغرب تجاه العالم الاسلامي بأحداث الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001. هذه الحادثة لم تؤدي، في مرحلة اولى، سوى الى كشف الجزء المغمور والاهم من هذه النوايا المبيتة منذ زمن بعيد. المزية الثانية لهذه الحادثة انها حددت، على الاقل في المرحلة الراهنة، طبيعة العدوان في نسخته العسكرية السافرة. لكن هذا لايجب ان يحجب عن اذهاننا الاشكال الاخرى، سواء أكانت مضمرة او معلنة، وضعت قيد التنفيذ ام مازالت موضوعة على الرف في انتظار التنفيذ الفعلي. لكن قبل ان نصل الى الحديث عن هذه النوايا والمخططات لابد من توضيح اسبابها والاسس النظرية التي قامت عليها.
ربما اصبح من المفروغ منه التأكيد على مدى الاهمية الاستراتيجية والاقتصادية للمنطقة العربية خاصة الشرق اوسطية منها. فهي المنطقة التي تحوي اكثر من نصف الاحطياطي العالمي من الطاقة اضافة الى الدور الذي لعبته اثناء الحرب الباردة في التصدي للمد الشيوعي في المنطقة مما ادى الى حفظ وتعزيزالنفوذ الغربي ومصالحه الاقتصادية. يضاف الى هذه الاسباب اسباب اخرى كانت في طور الكمون ودفعها الى السطح انهيار المنظومة الشيوعية وتسارع وتيرة العولمة في مختلف مجالاتها وتمظهراتها.
كان الغرب اثناء الحرب الباردة مشغولا بمواجهة الاتحاد السوفياتي والتصدي له ولامتداداته الايديولوجية والجغراسياسية عبر العالم. ما ان انتهت هذه المواجهة بتفكك المعسكر الشرقي حتى طلع علينا فرانسيس فوكوياما منظرا لانتهاء التاريخ بانتهاء الحرب الباردة وانتصار المعسكر الرأسمالي. على الرغم من تهافت هذه الاطروحة وافتقارها الى السند العلمي او الفلسفي الا انها لاقت من الرواج والشهرة ماجعل الكثيرين يعتقدون بصدقيتها وعكسها للواقع العالمي الراهن آنذاك. وربما مما زاد في انتشار هذه النظرية واضفاء نوع من المصداقية على طروحاتها الانتشار المتسارع عبر العالم للنظام الرأسمالي اقتصاديا وللديمقراطية سياسيا. ومع ذلك بقيت العديد من بؤر المقاومة لهذه النهاية السعيدة لتاريخ الانسانية ولقدرتها ايضا على انتاج نظام بديل للنموذج الاقتصادي والسياسي الغربي. ابرز هذه البؤر واكبرها اتساعا وعمقا حضاريا هي المنطقة العربية الاسلامية.
كان الغرب يدرك منذ البداية انه لايمكن له التعويل كثيرا على الانظمة الموالية له في المنطقة العربية الاسلامية للحفاظ على نفوذه ومصالحه. وكان يدرك بالتوازي مدى تجذر العامل الديني في نفوس شعوب المنطقة وان هذا العامل بالذات قد يمثل بالنسبة له عقبة كبيرة لابد من تجاوزها اذا اراد ان يكتب لمشروعه النجاح والانتشار في تلك المنطقة الممتدة والحساسة. لهذه الاسباب مجتمعة كان لابد من البحث عن الحلول المناسبة للنفاذ الى بنية هذ المنطقة لتقويظ اسسها وارساء البديل الغربي مكانه وهو ماتجسد بشكل او باخر في اطروحات هنتنغتن حول صراع الحضارت. في هذا الاطار بالذات تفتقت قريحة دوائر البحث الاستراتيجي في الولايات المتحدة خاصة عن فكرة، من ضمن افكار كثيرة اخرى، وهي منطقة الاختراق الثقافي. والتي هي في النهاية نفس الرغبة الاستعمارية القديمة لتطوير وتحضير المنطقة العربية ولكن في قالب جديد. فماالمقصود بمنطقة الاختراق الثقافي؟ ومن هو البلد العربي والاسلامي المعني اكثر من غيره بهذه الخطة؟
بعد ان جرب الغرب عن طريق الاستعمار تغيير البنى العميقة للشخصية العربية الاسلامية، خاصة في تونس والجزائر اكثر من غيرها من البلدان العربية الاخرى، وتبين له مدى المقاومة والممانعة اللتين ابدتهما هذه المجتمعات مما ادى الى فشل مشروعه في المنطقة كلها، لجأ الى النخب المحلية المكونة في الغرب نفسه والمشبعة بمبادئه وقيمه، على الاقل نظريا، لتقوم هي بالمهمة التي عجز هو عن القيام بها. لكن، وفي مثل هذه الحالات، لاتكفي النوايا الحسنة مهما كانت نبيلة والتي قادت الكثير من البلدان العربية الى جحيم الفتن والتخلف وهدر الطاقات على حد تعبير سارتر. وبعد مرور اكثر من نصف قرن على استقلال اغلبية الدول العربية والاسلامية فهي لاتزال تراوح مكانها ان لم يكن تراجعت الى اسوأ مما كانت عليه زمن الاستعمار خاصة على مستوى المشاركة السياسية وحقوق الانسان والحريات العامة.
امام هذه الوضعية من الاحتقان السياسي والحيف الاقتصادي تجاوزت الشعوب العربية النخب العلمانية الحاكمة (في رأيي ان كل الانظمة العربية علمانية بشكل او باخر بما في ذلك تلك التي تدعي الحكم باسم الدين) من حيث الطموح والتطلع الى البديل الذي يمكنها من الخروج من تلك الوضعية. تمثل هذا البديل في الحركات الاسلامية التي مثلت في العشريات الاخيرة نوعا من الاستقطاب الثنائي بينها وبين الانظمة. واصبحت الساحة السياسية العربية منقسمة بين حركات اسلامية تتمتع بزخم ايديولوجي وشعبية سياسية لافتة وبين انظمة متآكلة داخليا ومفلسة سياسيا ولكنها، وفي نفس الوقت، تتحكم في منوبول القوة وتحكم قبضتها الحديدية على شعوبها. لتحريك وضعية الركود هذه وتجنب المفاجآت على النمط الايراني كان لابد على الغرب من التدخل لتوجيه اي تغيير الى الوجهة التي يرضاها خاصة بعد الانتصار الذي حققه على حساب المعسكر الاشتراكي ونبوؤات فوكوياما حول نهاية التاريخ وسيادة نموذجه السياسي والاقتصادي للعالم. وانسب وسيلة لاحداث هذا التغيير هو ايجاد منطقة للاختراق الثقافي من داخل المنطقة العربية نفسها.
نعني بمنطقة الاختراق الثقافي ايجاد نموذج ثقافي واقتصادي وسياسي ناجح في المنطقة العربية على شرط ان يكون غربيا في اغلب خطوطه العريضة وحتى التفصيلية. الوظيفة الوحيدة لهذه المنطقة هو اعتمادها كنموذج حي وفعلي لاقناع بقية المجتمعات العربية بامكانية التغيير والتحديث على النمط الغربي. لانجاح هذا المشروع في تونس وضع الغرب كل ثقله السياسي والاقتصادي والاعلامي على ذمة نظام الرئيس بن علي. لكن لماذا وقع الاختيار على تونس بالذات دون غيرها من البلدان العربية لتقوم بعملية الاختراق هذه لبنى الامة النفسية والدينية والحضارية؟
تجتمع في تونس مجموعة من الخصائص التي لا تجتمع لغيرها من البلدان العربية والتي تؤهلها في نظر الغرب الى لعب دور منطقة الاختراق الثقافي بامتياز. فتونس من اكثر البلدان العربية تجانسا على مستوى البنية المجتمعية والعرقية والطائفية والمذهبية واللغوية. فالمجتمع التونسي قد تخلص منذ زمن من تأثير الاطر المرجعية التقليدية مثل البنى القبلية والعائلية التي لازالت في اغلب البلدان العربية تعرقل سياسات الدولة وتحد من فاعليتها. بل انها قد تفرض خياراتها على الدولة ذاتها في حين ان ولاء الافراد والجماعات في تونس يتجه الى الدولة دون سواها. وهو ما دفع المواطن التونسي نحو الفردية ونمطها في التفكير مما يعتبر اول الخطوات نحو الحداثة والديمقراطية. نفس الشيء يمكن سحبه على الانتماءات الطائفية والمذهبية واللغوية. فتونس لاتعد اقليات عرقية او طائفية او لغوية تذكر والتجانس فيها يكاد يكون كليا. فالشعب التونسي مسلم سني، مالكي المذهب، عربي الجنس واللغة. يضاف الى هذه العوامل البنيوية وجود بعض المتغيرات الاخرى التي تدفع في نفس اتجاه الحداثة والعصرنة. من هذه المتغيرات نسب التمدرس التي تعتبر من بين الاعلى في المنطقة العربية بما في ذلك نسب الاناث التي فاقت نسب الذكور خاصة في الجامعات والمعاهد العليا. وهو مايقودنا الى الحديث عن المكاسب التي تحققت للمرأة التونسية على كل المستويات خاصة القانونية منها والتشريعية. وهذا لم يكن ليتحقق لولا وجود دولة عصرية دفعت منذ الاستقلال في اتجاه تجاوز البنى التقليدية حتى ولو ادى ذلك الى الدخول معها في صراع علني او ضمني بحسب الظروف مثلما حدث مع مؤسسة جامع الزيتونة والذي انتهى باغلاقها. كان اغلاق مؤسسة الزيتونة اول عمل قام به بورقيبة اثر توليه رئاسة البلاد بعد الاستقلال. فبورقيبة بتكوينه العصري وطموحاته التحديثية كان يعتقد ان مشروعه العلماني لن يكتب له النجاح في ظل وجود مؤسسة في حجم الزيتونة قد تنافس الدولة او تمارس نفوذا موازيا لنفوذها لذلك سارع منذ البداية الى التخلص منها مقتديا في ذلك بسلفه وقدوته اتاتورك.
كان لهذه الخصائص ان تجعل من تونس اول بلد عربي يتوصل الى توليفة اصيلة وغير مسبوقة بين الحداثة الغربية والاصالة الاسلامية لو روعي في هذه التجربة شرطان اساسيان: مراعاة هوية البلاد الثقافية والدينية وايجاد الحد الادنى من الانفتاح السياسي واحترام حقوق الانسان والحريات الاساسية. لكن الذي حدث ان هذه الخصائص يقع الان استغلالها ضد الامة لزعزعة بناها واختراقها من الداخل.
ربما لم يعد خافيا على احد مصدر الوصفة التي اتبعت في بداية التسعينات لضرب الحركة الاسلامية في تونس الممثلة في حركة النهضة. بعد سنوات من تطبيق تلك الوصفة اصبح النظام التونسي يفتخر بانه الوحيد الذي استطاع ان \" يجفف ينابيع \" الاسلام السياسي في البلاد واجتث بالتالي وجوده من جميع مؤسسات المجتمع المدني ناهيك عن مؤسسات الدولة. برغم حجم الانتهاكات التي ارتكبت في حق الاسلاميين في تلك الفترة، من تعذيب وقتل ومحاكمات لاتتوفر فيها الشروط الدنيا للمحاكمة العادلة، فان الاصوات الغربية القليلة التي تعالت للتنديد بهذه الممارسات كانت قليلة وفي اغلبها كانت تابعة لمنظمات حقوقية محلية او دولية. اما على المستوى الرسمي فان جميع الدول الغربية كانت تنظر الى براعة النظام التونسي في تطبيق وصفة \" تجفيف الينابيع\" المقدمة من طرفهم.
بل ان الامر تعدى ذلك الى مكافأة النظام التونسي بمجموعة من الحوافز واشكال المساندة المباشرة وغير المباشرة. تبدأ سلسلة هذه الحوافز بالتغطية الاعلامية والسياسية على الانتهاكات التي كان يرتكبها النظام في حق مناضلي الحركة الاسلامية. ثم اغداق الجوائز والشهادات على النظام وادائه في شتى المجالات حتى الحقوقية منها. تأخذ هذه المحفزات اشكالا متعددة في العادة. فهي تتراوح بين الثناء على التجربة التونسية في مختلف المحافل الدولية والاقليمية، تنظيم الملتقيات العالمية في تونس تدليلا على الامن والسلام الذين تحظى بهما، الشهادات والجوائز الممنوحة للبلاد وبعض المشؤولين من طرف مؤسسات دولية ذات شأن( شهادات تقدير، دكتورا فخرية... الخ)، التصنيف في اعلى القوائم الدولية في المجالات الاقتصادية والاشتثمارية خاصة دون نسيان الاموال التي وقع ضخها في شرايين الاقتصاد الوطني لانجاح هذه التجربة لتؤدي وظيفتها مما حدى بالرئيس الفرنسي الى الحديث عن \"المعجزة التونسية\".
فعلا كان هناك نوع من السحر الذي تمارسه هذه \"المعجزة التونسية\" على زوار البلاد من العالم الثالث خاصة في جزئيه العربي والافريقي. حتى ان المواطن التونسي المطلع نسبيا على خلفية المسألة يحتار من امره وهو يرى شهادات اولائك الزوار وهي تذاع على الهواء ولسان حاله يردد: هل هذه هي فعلا تونس التي نحيا فيها؟ واصبحت الوفود، رسمية وغير رسمية، تتوافد على البلاد للنهل من هذه التجربة الناجحة على امل ان يقع استنساخها وتعميمها في بقية البلدان المعنية. لكن خلال بعض السنوات اتخذت هذه التجربة وجهة اخرى غير التي اريد لها وذلك بسبب خطئين رئيسيين في تعامل النظام مع المسألة وتبعاتهما على المستوى الوطني والدولي.
الخطأ الاول الذي ارتكبه النظام هو في عدم تمييزه بين ينابيع الحركة الاسلامية وينابيع الاسلام الذي يمثل عاملا رئيسيا من هوية البلاد. في خضم حملته المهووسة على الحركة الاسلامية ماهى النظام بينها وبين الاسلام كدين الاغلبية وهو امر لم تدعيه هي بنفسها، على الاقل في ادبياتها، وهو ماادى الى التسييس المفرط والمشطiper politicizzazione لاي مظهر ديني حتى التقليدي منه. هذا الامر ادى الى ارعاب المواطن التونسي الذي تخلى، في كثير من الحالات، عن ممارسة الشعائر الدينية المألوفة مثل الصلاة والصيام ان لم يكن نهائيا ففي العلن على الاقل خوفا من ان يحسب على الاسلاميين او من وشاية الجيران وتصفية حسابات قديمة.
الخطأ الثاني يعتبر من نفس طبيعة الاول وان كان يختلف عنه من جهة الفاعلين والديناميكية التي حكمت آليات فعله وضبطه. وهو خطأ يشترك فيه كل من النخب العلمانية في البلاد والنظام بنسب متساوية اما الاسلاميون فبنسبة اقل او بالاحرى بشكل غير مباشر. يعود اساس هذا الخطأ الى الفهم المنقوص لدى جميع الاطراف لمبادئ الديمقراطية والى سيطرة الفكر الاقصائي لديها. فعندما بدأ النظام التونسي حملته ضد الحركة الاسلامية لتجفيف ينابيعها وقفت الاغلبية الساحقة من النخب العلمانية وبمختلف اتجاهاتها مع النظام على امل ارساء نظام ديمقراطي اصيل بعد التخلص من الاسلاميين باعتبارهم تهديدا لهذا المشروع. لكن لايبدو ان احدا لا استخلص الدرس من ابن المقفع وثوريه.
فبعد ان تخلص النظام التونسي من الاسلاميين (او هكذا ظن) وفي اول مناسبة طالبته فيها نخب المجتمع المدني العلمانية(انصاره بالامس) بالالتزام بتعهداته بالانفتاح والاصلاح السياسي انقلب عليها هي ايضا وهكذا ضرب العلمانيون يوم ضرب الاسلاميون. ولم يكتف النظام بذلك بل سعى الى تدجين منظمات المجتمع المدني من احزاب وجمعيات لجعلها تدور في فلكه. والواقع ان النظام كان منذ فترة قد دخل فيما تسميه حنا ارنت النسق الكليانيil sistema totalitario الذي قد يصل في مرحلة متقدمة من تطوره الى الاستقلال حتى عن ارادة الافراد الذين ارسوا قواعده وهذا ما حصل فعلا في الحالة التونسية.
امام هذه الحالة من انحدار النظام التونسي الى حدود الكليانية التي لا تخدم احدا بما في ذلك الغرب نفسه؛ ليس لانه لا يرضى الاضطهاد للمواطن التونسي او يخشى على حرياته وانما لسببين اساسيين: الاول هو الحرص على تلميع صورة هذه التجربة الموعودة حتى تكون النموذج المنشود لبقية الدول العربية والاسلامية، وهو الهدف الذي من اجله قام الغرب بدعم النظام التونسي تقريبا بدون تحفظات. الثاني هو ان النظام تجاوز احد الخطوط الحمراء التي كان من الواجب ان يتوقف عندها وهو معاداة النخب العلمانية التي يعول عليها الغرب في انجاح هذا النموذج. فكانت النتيجة ان كثر منتقدي النظام التونسي في اواخر التسعينات وبدأ تأييده يتراجع حتى في الاوساط التقليدية المساندة له. بل ان التجربة في حد ذاتها وضعت موضع التساؤل وبداأ ينظر اليها بريبة متزايدة.
لكن الحقيقة ان هناك اسبابا اكثر عمقا هي التي دفعت الغرب الى مراجعة حساباته فيما يخص تأييده اللامشروط للنظام/النموذج التونسي. السبب الاول ويتمثل في ظاهرة العودة الى الدين المسجلة في البلاد والتي اتخذت نسقا تصاعديا منذ نهاية التسعينات. هذه الظاهرة وان سجلت في جميع البلدان الاسلامية وحتى غير الاسلامية فان النظام ينظر اليها تحت تاثير عمى الالوان الذي يجعله يرى في كل متدين اسلاميا وبالتالي فهو لايزال يواصل عملية الخلط التي تحدثنا عنها سابقا. فالنظام يقرا هذه العودة بعيون الحسرة والغيظ على الجهود والامكانات التي سخرت للوصول الى هدف لم يكن احد يشك في امكانية تحققه فاذا بهذا الشعور يتكشف عن خيبة امل كبيرة واذا بالنظام يتدحرج مرة اخرى الى نقطة البداية ولكن بضبابية وحيرة حول السبيل الواجب اتباعها في المرحلة القادمة.
اما السبب الثاني فيعود الى الصحوة التي تمت في صفوف المعارضة العلمانية او الديمقراطية بعد ان تبين لها بما لا يدع مجالا للشك استحالة تنازل النظام عن منهجه الكلياني وافساحه المجال للقوى السياسية الاخرى لتمارس حقها في المشاركة السياسية ولو في حدودها الدنيا. وبالتالي فقد تبين لها ان العدو الحقيقي لها وللديمقراطية ليست الحركة الاسلامية وانما النظام. كان من نتائج عملية المراجعة هذه التقارب بين المعارضتين العلمانية والاسلامية والتي ادت في نهاية المطاف الى عزلة النظام على المستوى الداخلي وانكشافه حتى امام المواطن العادي. لكن هذا الامر ماكان ليزعج النظام كثيرا فمتى كان في حساباته وزن لهذا المسكين المغلوب على امره. انما كان قلقه الشديد من العزلة الدولية التي بدأت تفرض عليه بعد كل تلك المحاولات لتلميع الصورة. فقد رفعت المعارضة التونسية، بشقيها العلماني والاسلامي، من كلفة مساندة النظام على المستوى الغربي. اذ ان الدوائر الغربية التي كانت تدعم النظام بشتى الطرق والوسائل ولكنها لا تظهر في الصورة في الغالب. لكن الذي حدث هو ان المجتمع المدني التونسي استطاع ان يخترق الحصار المضروب حوله ليصل الى المنظمات الحقوقية الاوروبية والدولية لفضح ممارسات النظام وبالتالي وجدت الحكومات الغربية نفسها مكشوفة امام شعوبها. وبدأت هذه الحكومات تحس ان النظام التونسي لم يعد في مستوى الثمن الذي يدفع من اجل مساندته والتغطية عليه.
في هذا الظرف الخانق جاءت احداث الحادي عشر من سبتمبر لانقاذ االنظام من الازمة التي كان يتخبط فيها او على الاقل لصرف الانظار عنه. تزامنت احداث الحادي عشر من سبتمبر مع توصل الغرب الى شبه قناعة حول فشل الاعتماد على النموذج التونسي نظرا للانحرافات التي شابته والى ارتفاع كلفة مساندته. ولان منابع الغرب لاتنضب وقع الالتجاء الى خيار آخر كان يقع التحضير له منذ زمن والمتمثل في استقطاع رقعة جغراسياسية في المنطقة العربية لانشاء نظام ديمقراطي يؤدي الوظيفة التي عجزت تونس عن ادائها: اي النموذج الناجح الذي يغري البقية باتباعه. استعملت في هذا المقام كلمتي الاستقطاع والانشاء للتدليل على مدى الجهل الذي يميز انصار مثل هذه النظريات ليس بطبيعة المنطقة العربية وتركيبة الفاعلين فيها وانما الجهل ايضا بالمبادئ الاساسية لعلم الاجتماع الخاصة بتكوين النظم السياسية وطبيعة تغير المجتمعات وحراكها في مختلف المجالات. في كل الحالات فان هذا المشروع قد اصبح على مشارف الانهيار باعتراف المشرفين عليه انفسهم.
ومرة اخرى يجد الغرب نفسه حيال مفارقة الرغبة في احداث تغيير جذري في المنطقة العربية عن طريق الاختراق لبناه الفكرية والنفسية مرة بالطرق السلمية ومرة بالطرق العسكرية وبين المقاومة التي تبديها هذه المجتمعات لتقبل نماذج وافدة من فضاء حضاري يختلف كثيرا في المنطلقات والتصورات. ومع ذلك فان هذا الغرب لا يفتأ يغتنم الفرص لصدم الوعي العربي والاسلامي عسى ان تؤدي هذه الصدمات الى رفع الغشاوة عن اعين هذه المجتمعات حتى ترى اخيرا نور التقدم والديمقراطية. وحتى ان لم تكن هناك مثل هذه الفرص فهناك من هو مستعد لخلقها والترويج لها من مثل ازمة الصور الكاريكاتورية المسيئة للرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم الى تصريحات البابا الاخيرة ( والتي وجدت من يركب موجتها برغم التوضيحات) وصولا الى ازمة الحجاب والتي لاتزال تتفاعل الى الان. وفي هذا الوقت بالذات يقع تفيعل ورقة النظام التونسي مرة اخرى ولاكثر من غاية هذه المرة.
الهدف الاول، ويخص الجبهة الداخلية على الاغلب، وهو تصفية آخر ما تبقى من المظاهر الاسلامية في البلاد. والواقع ان معاودة انتشار الحجاب في البلاد وبهذه الكثافة يمثل خيبة امل كبيرة بالنسبة الى النظام التونسي الذي ظن لسنوات انه قضى على مظاهر التدين (ماعدى الشعائري والمناسباتي منها) في البلاد مما يعني ضياع كل تلك المجهودات والطاقات. ومع ذلك فان النظام بتصديه لظاهرة الحجاب بهذا الشكل انما هو يحدث فعلا عكسيا لما يريد التوصل اليه. فضرب الحركة الاسلامية في بداية التسعينات وامتداداتها المدنية غيبها على الساحة الوطنية ومن ثم عن مخيلة الناس، اما هذه الاجيال التي تناضل من اجل التمسك بخيارها في ارتداء الزي الذي امرها الله به فانها، على الاغلب، لم تسمع بهذا التيار الاسلامي وان سمعت فهي لا تميز طروحاتها في مختلف المجالات الا بضبابية شديدة. ومع ذالك فان النظام يصر على تقديم خدمة مجانية للتعريف بالحركة الاسلامية بتسييسه لمسألة الحجاب وتسليطه كل هذا الضغط على مرتديه. فالحملة التي يشنها النظام الان على الحجاب وبالتعاون والتنسيق مع بعض الدوائر الغربية انما هدفها صدم الوعي الاسلامي ليغير تصوراته الدينية بغير رجعة.
فالنظام في هذه الحملة يتبع وصفة علماء النفس الاجتماعي التي تقول ان تصورات الناس عن شيئ ما لا تتغير الا اذا ادركت انه سيكون تغييرا بغير رجعة irreversibile. فعن طريق آلته القمعية يريد النظام ان يصل الى هذه المرحلة من فك الارتباط بين الناس وتصوراتهم عن دينهم وهويتهم ليستعيض عن ذلك باسلام شعائري يغلب عليه الخرافية العجائبية وهو مانشهده منذ مدة من تجديد الزوايا والمقامات واحياء الحفلات والمهرجانات الخاصة بها الولي اوذاك. ولان النظام يدرك انها المعركة الفاصلة او هو يريدها كذلك فانه يلقي فيها بكل ثقله ومسخرا لها كل الوسائل المتاحة اضافة الى الغطاء الغربي الذي تتقاطع مصالحه معه في هذه النقطة كما في غيرها.
هذا التقاطع يترجم في تزامن الحملات على الحجاب في تونس وفي اغلب البلدان الغربية وهذا هو الهدف الثاني. فمن خلال النقاشات الدائرة الان في هذه البلدان حول الحجاب يحتج خصومه بالحالة التونسية لمنعه. فتلعب تونس في هذا المقام دور الطابور الخامس الذي يعمل ضد مصالح الامة ومقوماتها. ويقع الترويج لتونس هنا على انها البلد المسلم الاكثر حداثة في وسط محيط تعمه الظلامية والفكر الديني التقليدي غير القابل لاي تغيير او تطوير. ومما يغذي هذه الحملات الظهور المتزايد للرموز الاسلامية في الفضاء العام الغربي. هذا الظهور تستغله بعض الجهات الاعلامية والسياسية المتطرفة للتحذير من الخطر الاسلامي الداهم على هوية الغرب ورموزه. وللاسف فان هذا التيار التصادمي يجد، من هذا الطرف او ذاك، من يصب الوقود على ناره الملتهبة اصلا والمرشحة الى مزيد التآكل في المستقبل مادامت هذه الحرب المزعومة على الارهاب متواصلة ومادامت قنوات الحوار بين الطرفين منعدمة او قليلة الجدوى.
• باحث اجتماعي تونسي مقيم في إيطاليا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.