على رغم عودة الهدوء إلى مدينة بنقردان في أعقاب وصول تعزيزات كبيرة من قوات الشرطة إليها في الأيام الأخيرة، مازال التوتر يُخيم على الوضع والمواطنون يطالبون بحلول تضمن لهم مورد رزق بعد وقف التجارة الموازية مع ليبيا. وكان منطلق الأحداث قرار الجمارك الليبية يوم 9 أوت الجاري بمنع التجار التونسيين من إدخال البضائع المحملة على شاحناتهم وسياراتهم إلى تونس، إذ طلبت منهم تفريغها في الجانب الليبي من الحدود لكي تسمح لهم بالعبور، مما أثار غضبا واحتجاجات جماعية. غير أن السلطات الليبية أفهمت التجار أن القرار ليس قرارها وإنما هو بطلب من الجانب التونسي. ونظرا للإنعكاسات المصيرية لهذا القرار على آلاف العائلات في بنقردان والمدن المجاورة، قرر التجار التجمع في المدينة وتنادوا بواسطة الهواتف الجوالة إلى مسيرة احتجاجية بدأت سلمية، واتجهت إلى الطريق الرئيسية رقم 1 الرابطة بين بنقردان وراس جدير، مما أدى إلى تعطيل الجولان على هذه الطريق. وكانت مطالب المتظاهرين مركزة على إعادة فتح الحدود أمام تدفق السلع وضمان العيش الكريم لأهالي هذه المنطقة الحدودية، الذين اضطرتهم البطالة للعمل في التجارة الموازية. لكن إصرار الشرطة على تفريق المتظاهرين باستعمال القنابل المسيلة للدموع، جعل عددا منهم يستخدمون الحجارة ويرشقون بها عناصر الشرطة، مما أدى إلى حدوث إصابات. كما جرت إيقافات في صفوف المتظاهرين، إلا أنهم أطلقوا بعد حوالي أربع ساعات من انتهاء المظاهرة. عودة المظاهرات وما لبثت أن وصلت تعزيزات كبيرة من أسلاك الأمن المختلفة من الولايات المجاورة يوم الثلاثاء 10 أوت لضمان السيطرة على الوضع، وفعلا استمر الهدوء المتوتر ثلاثة أيام قبل أن يعود الوضع إلى الإنفجار مجددا مع خروج شبان بنقردان في مظاهرة يوم الجمعة 13 أوت، واتجهوا مجددا إلى الطريق الرئيسية رقم 1 لكن في اتجاه تونس هذه المرة، فواجهتم قوات الشرطة والأمن العام بالقوة. غير أنهم أحرقوا عجلات سيارات وهياكل سيارات قديمة وكل ما وقعت عليه أياديهم من مواد قابلة للإحراق. وتعرضت بعض السيارات الخاصة إلى أضرار أثناء تلك الأحداث وهاجم المتظاهرون مركزا للحرس الوطني، ولجأت السلطات إلى تهيئة طرقات تلتف على المدينة لتمكين السيارات الليبية العابرة إلى تونس من تفادي الدخول إلى مناطق التوتر. وطالب الشبان المتظاهرون بإيجاد مشاريع تنموية في الجهة وتوفير موارد رزق قارة، كي لا يبقوا تحت رحمة القرارات الليبية المتغيرة من فترة إلى أخرى. واستمرت المظاهرات والمواجهات العنيفة مع الشرطة إلى فجر السبت، ولم تتسن السيطرة على الوضع إلا باستدعاء مزيد من التعزيزات. وجرت حملة اعتقالات جديدة، فيما دعا المعتمد ممثلي بعض المنظمات والأحزاب البرلمانية إلى اجتماع للتحاور حول سبل الخروج من المأزق، بيد أن الإجتماع لم يُسفر عن أي قرار يُذكر. والملاحظ أن الإعلام الرسمي والخاص على السواء لم ينبسا ببنت شفة عن تلك الأحداث الخطرة وواصلا سياسة التعتيم الإعلامي، مع الإستمرار في حملات الدعاية للحكومة لتغطية الواقع بالمساحيق. من أوعز به؟ واضح أن هذا الإجراء اللاشعبي يمس مصالح عشرات الآلاف من العائلات التي ترتزق بصفه مباشرة أو غير مباشرة من التجارة الموازية مع ليبيا، والتي كانت السلطات في البلدين تغض عنها الطرف دائما. ولذلك تساءل كثير من الملاحظين عمن يقف وراء قرار منع استيراد السلع من ليبيا، وخاصة عما إذا كانت بعض العائلات المتنفذة هي التي أوعزت به. ويكتسي الأمر بعدا مأسويا مع انطلاق شهر رمضان المعظم، فهذه الفترة هي فترة خصبة للمتعاطين التجارة الموازية، نظرا لزيادة الإستهلاك وإقبال المواطن على اقتناء السلع المتوفرة في الأسواق الموازية لأنها تباع بأسعار أقل من أسعار السوق الرسمية. ويُطلق على هذه الأسواق الموازية اسم "أسواق ليبيا" وهي تسمية تُغني عن أي شرح. وتُقدر بعض الإحصاءات غير الرسمية عدد المشتغلين في هذه الأسواق بصفة مباشرة أو غير مباشرة بأكثر من مليون مواطن. يتطلب مثل هذا الملف الضخم والعويص أن تنكب عليه الحكومة بجدية وأن تخطط لبعث مشاريع في هذه المناطق المحرومة لكي يجد التونسي، وخاصة الشاب العاطل عن العمل، شغلا مشرفا يحفظ له كرامته فيساهم في تنمية بلاده، عوض اللجوء إلى التجارة الموازية، وهي نشاط هامشي لا إنتاجية من ورائه. كما يطرح هذا الموضوع قضية التكامل الإقتصادي بين بلدين شقيقين، إذ أن شلل اتحاد المغرب العربي لا يمكن أن يمنع من إيجاد سرعات مختلفة في البناء المغاربي. وفي هذا الإطار تبدو تونس وليبيا مهيأتين أكثر من غيرهما لإقامة وحدة جمركية تمهيدا لتوحيد السوق. ولامناص بالنسبة لنا من فتح حوار وطني لإيجاد حلول لهذه المسائل تشارك فيه مكونات المجتمع المدني، كما أشار إلى ذلك البيان الصادر أمس عن الإتحاد الجهوي للشغل ببنقردان، وهي حلول لا يمكن أن تعتمد الخيار الأمني وإنما الخيار التنموي والنهج الديمقراطي.