في عهد القنوات التلفزيونية المحلية والفضائيات المحدودة، كانت المسلسلات الدينية والتاريخية العلامة المميزة للدراما الرمضانية، إلا أن هذه الأعمال اليوم لم تعد الوجبة الرئيسية على خارطة الدراما التلفزيونية بعد أن اتسعت رقعة الفضاء الإعلامي وتغيّرت صفاته وتوجّهاته وتحوَّل من إعلام فكري ثقافي إلى إعلام تجاري يستهدف الربح. وفي الوقت الذي تحظى فيه الأعمال ذات الخلفية الدينية باهتمام واسع في العالم، قاطع منتجو الدراما العربية هذا النوع من المسلسلات التي تحكي عن سير أبطال وشخصيات كان لها دور هام في صياغة التاريخ الإسلامي بمختلف أبعاده الدينية والاجتماعية والتراثية والثقافية... والتي كان شهر رمضان، شهر الفتوحات، فرصة لتسويقها واستحضارها. رمضان هذا العام يعود والفضاء العربي يملك من القنوات ما يتعدى الستمائة، جندت كل طاقاتها وجهودها للدخول في منافسة موسمية غاب فيها المسلسل التاريخي والديني والتراثي لصالح ما يسمى بالدراما الاجتماعية ومسلسلات الكوميديا والتي تجاوز عددها المائة وخمسين مسلسلا، عدد المسلسلات ذات البعد التاريخي الديني لا يتعدّى أصابع اليد. أسباب كثيرة قد يسوقها المنتجون وأهل الاختصاص حول غياب هذه الأعمال عن الدراما الرمضانية، منها الحجة التقليدية التي تقول إن مثل هذه الأعمال الفنية تتطلّب ميزانيات ضخمة، وهي حجة ربما كانت مقنعة في العهود الماضية، أما اليوم فإنها باتت واهية مع ما تطالعنا به التقارير عن أرقام وملايين تصرف على الدراما الرمضانية. البعض يتعلل بأن غياب المسلسلات الدينية يأتي بناء على رغبة الحكومات حتى لا تساهم هذه المسلسلات في إيقاظ الروح الدينية والقومية في الشعب العربي، وحتى تنفي عنها صفة التعصّب، غير أن هذا الأمر مشكوك فيه لأننا لم ننجح إلى الآن في تقديم عمل درامي قويّ ومؤثّر يمكن أن يجعل الساسة يخشون من أن تحدث انقلابا، فما تقدّمه الفضائيات أعمال غارقة في اللهو تزيد من حالة الاغتراب الثقافي والفكري التي يعيشها السواد الأعظم من المجتمعات العربية. البعض الآخر يبرّر غياب هذه الأعمال بقدسية الشخصيات الدينية التي تحرّم المؤسسات الاسلامية تشخيصها، أو بعدم جماهيرية مثل هذه الأعمال، لكنها تبقى تبريرات ضعيفة، فالحجة الأولى يمكن تجاوزها مثلا بالتقنيات الفنية الإخراجية دون المساس بحرمة الرموز الدينية. أما العذر الثاني فلا طائل منه أيضا، فمثل هذه الأعمال يقبل عليها المشاهدون إذا تضمّنت عناصر النجاح والامتاع، وجولة قصيرة في عالم الانترنت تكشف الاقبال الكبير على تنزيل أعمال من قبيل "محمد رسول الله" بمختلف أجزائه و"قمر بني هاشم"، و"عمر ابن عبد العزيز" و"إمام الدعاة"... وفي الوقت الذي أصبحنا فيه في حاجة ملحة إلى تدارك الأخطاء التي وقعت فيها الدراما التاريخية والدينية "القديمة"، قررت الفضائيات العربية تجاهلها تماما وفضّلت عدم المغامرة بإنتاجها وتقديمها.. ولكن أحيانا ربّ ضارة نافعة، فبالنظر إلى أغلبية الأعمال التي قدّمت في السابق والمستوحاة من التاريخ الإسلامي، قد يكون غياب الدراما التاريخية ذات البعد الديني، في هذه الفترة الزمنية، أفضل.. فلو فرضنا أن فضائية غربية أمريكية أو أوروبية أو حتى تركية أعجبت بالمستوى الفني لمسلسل "القعقاع"، وهو أمر لا بد من الإشادة به، مثلا، وتمّ عرضه على مشاهديها، فماذا ستكون ردّة فعلهم على مشاهد الدماء والرؤوس المتطايرة.. مشاهد تقدم التاريخ الإسلامي بصور خاطئة يراها الآخر بعيونه ويفسّرها وفق خلفيته عن المسلمين والإسلام؟ فهل بمناظر السيوف والدماء والخيول في ساحات الوغى يدافع الإعلام العربي عن الإسلام...؟ ونحن خير من يعلم أن تاريخنا العربي الإسلامي ليس قرقعة سيوف ورؤوسا مقطوعة ونساء سبايا ولا شعرا؛ ومؤكّد أن "الحجاج"، و"هارون الرشيد" و"خالد ابن الوليد" و"عمرو بن العاص" جزء مهم ومضيء من هذا التاريخ.. لكن حين يسرف العمل الفني في التركيز على الوقائع التاريخية المشبعة بالحروب متباهيا ببسالة "جيوش الفتح"، وفي ظلّ تنامي ما يعرف في الغرب ب "الإسلاموفوبيا"، فإنه يقدّم بذلك حججا يلتقطها مروجو الفتنة في العالم ليقولوا هؤلاء هم المسلمون والعرب وهذا دينهم وتاريخهم وهذه هي ثقافتهم، وما يحملونه للعالم، وهذه المواقف نسمعها في كل مكان في الغرب، ونحن عوض أن نصحح الصورة نكرس الخطأ، ونستمر على نفس النهج الدرامي المؤذي. تاريخنا الإسلامي أوسع من أن ينحصر في خيمة وخيل وضربة سيف؛ إنه تاريخ أرقى من ذلك وفيه من علامات العظمة والقوة ما يمكّن من استنباط أسلحة حقيقية للوقوف في وجه رسّامي الكاريكاتور المسيئين للرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، وفي وجه كنيسة أمريكية تريد أن تجعل من يوم 11 سبتمبر يوما عالميا لاحراق القرآن.. تاريخ قادر على أن يكون، وفي هذا الوقت بالذات، ردّا على "فتنة" الهولندي المتطرّف فيلدرز وحجة تدحض ما صرّح به بابا الفاتيكان بنديكت السادس عشر بأن "الإسلام انتشر بحد السيف وهو دين عنف". الإعلام اليوم، سلاح مزدوج بل ومتعدّد الوسائط لا غنى عنه في استراتيجيات أي مخطط سياسيا كان أو حربيا أو تجاريا.. الكلّ يوظّف الإعلام لخدمة مصالحه ولضرب أعدائه إلا "العرب" فإنهم يوظّفونه للتسلية والترويح عن أنفسهم، هم يتسلون بفضائياتهم والعالم الخارجي، الذي يسخر منهم، يشتغل ليصدّر لهم العلوم والاختراعات.. وإن حاول الإساءة إليهم فسيكون نصيبه مظاهرات وأعلاما محروقة وتنديدات سرعان ما يخبو تأثيرها. عند ظهور قضية الرسوم المتحركة وفيلم "فتنة" وغيرها من الأعمال الغربية المسيئة للدين الإسلامي تعالت أصوات كثيرة متوعدة بأنها سترد على هذه الإساءات بأعمال "ضخمة" توجّه إلى العالم الغربي، تظهر له الصورة الحقيقية للمسلمين والعرب، ومع مرور الوقت وبعد أن خفت وهج الأزمة لم يخرج إلى النور من كلّ هذه الوعود سوى بضعة اجتهادات شخصية ومحدودة التأثير منها مسلسل "سقف العالم" للمخرج السوري نجدت أنزور، المسلسل الذي مرّ مرور الكرام رغم أهمية المادة التي عالجها وجمالية الصورة التي طرحت بها، وفيلم "الرحلة إلى مكة" وهو فيلم غربي أكثر منه عربيا.. فيما كانت بقية الأعمال التي تناولت الإسلام بشكل معاصر أعمالا بلمسات غربية لا علاقة للمسلمين والعرب بها. إن تجربتنا مع الأعمال الدينية أو التاريخية الإسلامية يشوبها الكثير من التقصير، وفي هذه الفترة الحساسة من تاريخ العلاقات بين الحضارات والدول، يتطلّب المشهد الإعلامي العربي والإسلامي شكلا جديدا من الأعمال غير تلك التي تعودنا على مشاهدتها، في كل عيد وكل مناسبة دينية.. أعمال تقدّم تاريخنا الإسلامي المشرق والمشرّف وتصحّح الأحكام المغلوطة التي يمرّرها الإعلام الغربي عن كل ما له صلة بالإسلام وبرموزه السامية.