أسألك يا صديقي ، هل تعرف الفرح ؟ هناك فرح اجوف ، باهت لا لون له ولا طعم ...هذا منثور اينما ذهبت في وطني .. يفرح الكثيرون فيه ، بوجبة دسمة مع فتاة فاتنة سرقها من اهلها و نفسها ليخلو بها على الشاطيء ، فيقضي وقته يلتفت يمنة و يسرة ، علَّ احدا ممن يعرف زوجه يلحظه ... يفرح كثيرون أيضا لارتقاءهم في سلم القِوادة ، وحيازتهم لنياشين العار الملطخة بدموع المساكين في هذا البلد ... كما يفرح القطط السمان ، عندما يعقدون صفقة في الظلام لبيع ما تبقى من الوطن المغدور ... قل لي يا صديق ، اين شركات الإسمنت ؟ بيعت كلها للمافيا العابرة للحدود .... اين و اين و اين ؟ حتى التراب باعوه ليكون مقبرة للنفايات النووية المجهولة المصدر ، وليذوق اهلنا ويلات المرض الخبيث الذي استشرى ينسف الاعمار بلا هوادة.. و مع ذلك يفرحون ، فيغمسون خبزهم بالدم ، ويجرعون (المرناق) في زهو فاجر ... أما انا فأعرف طعم الفرح ، لانني جربت ضده ..كلما امعنتَ في الحزن ، ازداد إحساسك بالفرح لما ياتي ... ذات يوم رايت سمير ، شاب اشقر ، ابيضَّ صدغاه من الايام ، سلم علي بابتسامة صافية ... كان صوته يزقزق ... أعلمني انه تزوج اخيرا ... هنا فرحت ..اغرورقت عيناي من الفرح... ومن الفرح ما ابكى ..تذكرت ايام كان معنا بين الحياة والموت في إضراب الجوع .. وما اكثرها في هذا البلد ، الذي حطم بلا شك الرقم القياسي على وجه البسيطة ...في إضرابات المجاعات ..كان سمير آنذاك مصرا على الموت ، يطلبه حثيثا..ولان الكتابة ممنوعة ، اوصانا مشافهة : (موعدنا الحوض إن شاء الله ، و قولي للوالدين يسامحوني)...كنت ارقبه يذوي كزهرة اواخر الربيع ، جلده يتغير ، لتحيا طبقة إذ تنشف طبقة ...حتى نقلوه ، ولم اره حتى اليوم ... كيف هزم الموت ؟ لم اسأله عن الحكاية... فقط في لحظة تماه بين الماضي القريب والحاضر المتفلت ، دمعت عيني من الفرح ..أرى بعيني إرادة الحياة وكيف تنتصر على الموت ... هل رأيت صديقي ، فرحا صافيا كذاك الذي يشع من عينيْ شيخ يفتح ذراعيه لضم ولده المظلوم ، العائد لتوّه من مقابر الأحياء ...أم هل رأيت بنتا عاشت تنتظر وتنتظر إلى أن أطل أبوها من مدخل الشارع متجها إلى البيت ؟...في هذا البلد يا صديقي ، تفرح الام مرتين ، مرة عندما تنجب مولودها و مرة عندما تستقبله عائدا من البرزخ... كان العسكر و بأزياء شتى ورائي ورائي ...سمعت مرة أحد المجانين في المسجد يقول: إن هناك من احتل موقعا بين السماء و الأرض ، ليحول بين الله و عباده... كان قوله دقيقا لدرجة أن شككت في صحة جنونه ...هؤلاء السفلة ، يلاحقونني اينما كنت و حيثما حللت .. جعلوا رزقهم قطع الارزاق ... إنهم يدفعون بي إلى حافة الجنون ..لا تستغرب يا أخي حادثة دوز الشهيرة ، التي دفعت بأحد الصالحين ان يعرض اولاده للبيع امام كاميرات السياح الاجانب ... لم تكن لديه وسيلة اخرى لفضح سياسة التجويع الصامت التي تمارس ضده ... لقد أفلح ذلك الرجل في فك مظلمته ، ولكن الحل ظل فرديا ... آلاف من الشباب و الكهول ، يعيشون سمفونية جنائزية ، يحدها القهر من اعلى و الفقر من اسفل ، هم شهود الحقيقة في عصر البهتان ، كنت و سأظل منهم و بينهم ، حتى يدير التاريخ خده الايمن ، فنصفعه ... هنا باق ، في ارضي لن ارحل ... ستظل رائحتي العطرة ، تزكم انوفهم النتنة ، وسأظل شاهدا على الدمار الرمادي لأغرس بعده شجرة ... سأظل ذلك الشبح المؤرق على ضعفه ، يسفه احلامهم بمحوي من ارضي ارض الزيتونة و الزيتون .. إلى اللقاء في الجزء الثالث من صبغة خاصة بإذن الله .