من خلال مطالعاتي المتواضعة لبعض كتب السيرة و مصنفات التاريخ العربي الإسلامي أحصيت ما يربو على خمسة عشر واقعة انتصار للمسلمين كلها في شهر رمضان بدءا بغزوة بدر وصولا إلى معركة العبور. كل هذه الإنتصارات قام بها أناس مثلنا ،بشر يأكلون ويمشون في الأسواق. رمضان عند الأولين شهر انتصارات على النفس وعلى الصادّين الذين حالوا دون انتشار الدعوة الإسلامية التي أخرجت " من شاء من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد ، ومن ضيق الدنيا إلى سعةالآخرة ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام". وقد تحقق لهم ذلك بالعقول التي تشكلت وفق منهج الفهم الواعي والمعمق للإسلام فتحمّلوا الأمانة التي عُرضت عليهم فصاروا -على قول المؤرخ الدكتور عماد الدين خليل- " أجيالا من العدائين الذين عرفوا كيف يحطّمون الأرقام القياسية وهم يجتازون الموانع." إنه الدين الذي مثّل تقابلا شاملا بين علم الله الذي لا تحدّه حدود وبين قدرة الدماغ البشري الذي تفاعل معه فاقتبس منه جملة معارف بنَت دولة بل أسست حضارة انبنت على المعرفة التي لم ينكرها إلاّ مكابر. ذاك هو رمضانهم فصاموه صيام الحركة والإشتغال الدائم في اتجاه الكدح نحو الله الواحد فبلغوا به الأفاق شرقا وغربا. وأما رمضاننا فقد صمنا نهاره وأقمنا ليله ونسأل الله فيه القبول ولكن لم نعد إليه التوافق الذي حصل عند الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان في العلاقة مع الكون وربّ الكون وفق سننه المبثوثة، فبهت عندنا الحس وضمر منا الشعور الإجتماعي والقيمي الذي يدفعنا إلى الفعل فكثر فينا الهرج والمرج باسم الصيام و"الترمضين" وكأن الشهر صار مناسبة للعراك والتباغض والتنافر يصل حتى التقاتل وفق لفهومات قاصرة للمعاني التي فهمها الأوائل فتحول الشهر عندهم إلى انتصار وعزّة وانتاج وتحوّل عندنا إلى عطالة . فإذا ألقيت نظرة بسيطة على الواقع الرسمي والشعبى ألفيت العجب العجاب !! وخذ مثلا تونس إذ تشاهد على المستوى الرسمي إحياء للمناسبات الإسلامية في المساجد لا تتجاوز السرد التاريخي مع بعض الإسقاطات الغريبة ما قال بها أولون ولا متأخرون لتتلاءم مع مع يسوّق له من إنجازات لصانع التغيير ،ومن المضحكات المبكيات أن أحد الأصدقاء ذكر لي أنه أحصى لهج إسم "صانع التغيير " الذي كان أكثر من ذكر إسم الرسول صلى الله عليه فجاءت المناسبة مفرغة من مضمونها وأبعادها العقدية والسلوكية إلا من تسبيح وتحميد ل "ولي النعمة". هذا رمضاننا كما تصوره لوحتنا يظهر فيه الحاكم صائما ،ولكنه يمسك عصاه التي لا تفتأ تضرب "العصاة" من الشباب المتدين عساه يكسر شوكة صحوة انتشرت في الأفاق على اختلاف في تقييمها تشكلا وطبيعة وفهما وسلوكا، ولكن حسبنا أن نقول أن رمضان لم يكن رادعا أن تنزل العصا ويؤوب الحاكم إلى ربه . رمضاننا يعلن فيه الحاكم عن دخول الشهر ليتهيأ المسلمون لذلك وفي نفس الوقت لا ينفك يلاحق كل من تحدثه نفسه أن يحيد عن الركب أو حتى مجرد التفكير في رسم صورة مغايرة لا تتماشى مع هو مبرمج حتى أصاب العقول الصدأ و صار الحديث يدور إلاّ همسا فهو "هو" الكل في الكل ويجب أن يحل الكل في كليانيّته حلول المريد في شيخه بعبارة الصوفية المنحرفة فلا تستهجن إذا أن تكون "الحضرة" في حضرته متساوقة مع عشقه في التخمير فأصيب الجميع بالنشوة وامتلأت قرطاج بكل ألوان الطيف التخديري كانت أول شطحاتها "الحضرة "في نسختها الجديدة التي تتواءم مع "السنة الدولية للشباب" !! رمضاننا في هذا الزمن حلّ وال"محكوم" يئن تحت وطأة الغلاء الفاحش والإستغلال من قبل أباطرة التجارة الذين لم يرقبوا فيه إلاّ ولا ذمة فأغرقوه في الديون وكبلته البنوك ومن ورائها عصابات حاكمة متنفذة بتقسيطات تعجيزية لتسديد ديونه التي لا يعرف إلى أين تخرت به ؟ فأفقدوا في فهمه وخلده الحقيقة الأزلية أن القبض والبسط بيد الله ،وأنّى لفقير معدم أن يتحقق من هذه المعاني وغيرها في رمضاننا من أن يستوعبها لتتحوّل إلى سلوك وتطبيق . رمضاننا يصومه الفقير وأبواب الخير كلها مغلٌقة في وجهه إلاّ من أرقام أربع أصبح يحفظها عن ظهر قلب وهي الرقم السري للحصول على فتات مما يجمعه أعضاء "الحزب الدولة " من غيره من المستضعفين علّه يظفر بما يعيل به أهله، فلم يأمن المسكين على سربه ما لم يسلك طريق الدعاية لموائد الإفطار التي لا يحوز على القيام بها إلاّ جماعة "الحزب الدولة" والمستفيدين منها فهلا سمعت عن جهة أخرى تقوم بذلك ؟ نبؤوني إن كنتم للخبر من المشككين؟!! هذه هي اللوحة التي ارتسمت أمام ناظري بمناسبة رمضان : - سلف كانوا رهبانا بالليل فرسانا بالنهار!! - وخلف- إلاّ من رحم ربي – صاروا تيهانا في الليل تيهانا في النهار!! وعند مراجعة عناصر لوحتي وجدتني قد رسمت رقعة سوداء وكأنّ اللوحة لن تكتمل دون تلك إضافتها ،ولكنك إذا أنعمت النظر ألفيت بقعة في الرقعة بيضاء يطل منها شيخ وضيء المحيّا قد برقت عيناه وقد جلس مهيبا خاشعا وركبتاه تنبئ عن "صاد" تؤنسها "ألف" تستشرف السيرورة وتلاطفهما ،و"دال" دالّة على مستقبل كله أمل في الله وحده ،وأراه يحمل "قافا" تحرّك قفل "الحبس" تسرع الخطا نحو "حرف "الشين" ليستضيء بنور الشمس ، وتلاحق "واوا" تملأ القلب بوعد الله بلقاء الأحبة بعد طول انتظار ،كلها يستحثّ بعضُها بعضا نحو "راء" رأى من خلالها كلها أن الوصل مع الله أولا ومع بني وطنه ثانيا ضرورة ملحة، مبتغيا أن يساهم في النهوض معهم بوطن مهموم مثقل بالتحديات ،عسى ربّك أن يجعل له مخرجا ويكون آخر رمضان تحيط به الرقعة السوداء فينطلق الطائر إلى موطنه الذي يليق به. فحذار من يكسر اللوحة لأنها تصور في إحدى زواياها مظهرا آخر من رمضان يصوم فيه الجلاّد عن الطعام والشراب ولكنه لا يفطر إلا على صب العذاب في حق كل حرّ أبيّ مثل شيخنا صاحب الوجه الوضّاء المكونة حروفه من معاني عدّة لا تسطيع أن تجد لها حدّا. كي لا تُكسر اللوحة النابعة من واقع حياتنا ادعوا الله الواحد أن يفرّج الكرب ويزيل الهمّ ويطلق سراح سجين العشريتين وكل مظلوم على طول الوطن وعرضه ونحن نتحرى ليلة القدر، نسأل الله أن يكرمنا بها. وإلى لقاء مع لوحة قادمة تنبع من واقعنا المعيش. تقبّل الله الصلاة والصيام والقيام للجميع. عبدالله النوري \ ألمانيا