رمضانيات 1431 ... على أنْ تَأجُرني ثماني حِجَج ...( 25) الدكتور عثمان قدري مكانسي أتلو قوله تعالى في صورة القصص على لسان الرجل الصالح في ( مدين ) يخاطب أو يخطِب الشاب موسى عليه السلام لابنته " قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) " أقف عند هذه الآية الكريمة فأرى فيها السياسة والاقتصاد والحالة الاجتماعية والحاجات الإنسانية مجتمعة بشكل متناسق ، فقد وصل هذا الشاب المتميز إلى مدين هارباً من بطش فرعون وجَوره ورأى فتاتين تنتظران أن ينتهي الرجال من سقي أنعامهم ليبدأ دورهما في ذلك ، فهما عفيفتان لا تختلطان بالرجال ، ولعل أسرتهما ليس فيها رجال يقومون بهذه المهمة (الرعي ) فاضطرتا إلى هذا العمل المرهق . فيسقي لهما ، وتأبى أخلاقه العظيمة أن يستغل عمله في الحديث معهما ، فيتولّى إلى الظل ويسأل الله أن يحفظه في غربته ويجد له من فضله الكبير مخرجاً . فيدعو بهذا الدعاء الذي سرعان ما وصل فكانت الإجابة فورية " ربّ إني لما أنزلت إليّ من خير فقير ( 24)" . وينطلق هذا الشاب خلف الفتاة إلى أبيها – ولعلك أخي الحبيب تقرأ مقالي " تأملات تربوية في سورة القصص " فتضح الصورة أكثر – ويقص الشاب على أبيها قصته مع طاغوت مصر ، فيطمئنه أن سلطان هذا الفرعون لا يصل إلى مدين ، فهو الآن في أمان . وحين يتعرف الأب القصة ويجد في ملامح هذا الشاب المؤمن الجريء الخيرّ ، وهو بحاجة إلى شاب يقوم على خدمة الأسرة ، ولن يجد خيراً منه يعرض عليه عرضاً يجعله من أركان أسرته . إنه يخطبه لإحدى بنتيه ، وليس من العيب أن يتخير الأب لابنته زوجاً صالحاً كما يتخير لولده زوجة صالحة ، بل إن تخيّر بعل الزوجة أهم وأفضل من البحث عن زوجة للابن ، فللزوج القوامة ، وهو المسيطر على البيت وسيده ، فإن كان صالحاً ارتاحت الزوجة وإن لم يكن عاشت في ضنك وتعاسة ، فطلب المرأة الطلاق عزيز وصعب . وتعجبني كلمة " إني أريد " فقد ألقى في هذه الكلمة بكل ثقله . ومن يرغب عن زوج لإحدى ابنتيه فيه مثل صفات موسى عليه الصلاة والسلام ؟! وكأنه بهذه الكلمة يفتح الباب أمام موسى على مصراعيه ليختار إحداهما دون حرج ، فهناك بيت يسكنه وزوجة طيبة وعمل يكسب منه قُوته وشيخ صالح يستفيد من حنكته وخبرته في الحياة . واختار الصغرى كما ذكر المفسرون ، وكان قولها لأبيها " يا بت استأجره ، إن خير من استأجرت القوي الأمين " دليل على رضاها عن صفتين رأتهما فيه ( القوة والأمانة ) وهذا ما تريده المرأة في الرجل زوجاً وأباً وأخاً وولداً .والنكاح سنة النبي صلى الله عليه وسلم " ... وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني " وما أودع الله رغبة الرجال في النساء ورغبة النساء في الرجال إلا لتستمر الحياة في الأرض ويَعَْمُر الكونُ إلى قيام الساعة . ولا بد من المهر ، فهو ركن في الزواج وتوثيقٌ لعراه ، والشاب فقير لا يملك مالاً ، وقانون فرعون فيمن هرب من سطوته ولم يقدر عليه ثماني سنين أن يسقط الحكم ، فإن عاد الغائب بعد هذه السنين فلن تطاله يد القانون ، هذا عند (فرعون الجائر) ، (فرعون الظالم )، (فرعون المستبد ) ، ( فرعون الطاغية ) . مثال الظلم في القرآن الكريم ، فماذ يقول المظلومون والمقهورون والمطاردون في عالم الظلم والقهر في أيامنا هذه ؟! وقد مرّ على سنّ القانون الجائر ( 49) الصادر عام 1980 في سورية الحبيبة الذي يحكم بالإعدام على الإخوان ومن شايعهم وأعانهم ، أكثر من ثلاثين سنة ، قتل بسببه أكثر من عشرين الفاً في سجون الظالمين وأكثر من ثلاثين ألفاً في مدينة حماة عام 1982 وأكثر من عشرين ألفاً في بقية المدن السورية المنكوبة ، وما زال الحكم بهذا القانون مستمراً ، ألا ترى – أخي القارئ – فراعنة العصر أشدّ لؤماً وخسة من فرعون موسى ؟! وأكمل موسى عليه السلام عشرة أعوام ، والأنبياء يحبون الكمال ويعملون به وهم قدوتنا بذلك صلوات الله عليه وسلامه . لقد كان عند حسن ظن عمّه به ، وكان زوجاً صالحاً في بناء أسرة مسلمة طيبة نقية . وتعجبني مقالة الشيخ " وما أريد أن أشق عليك " فهو حريص على رضاء الشاب ، ولعله إن اعترض فسيخفف عنه المهر، ولا بأس أن يأخذ زوجته ويعمل في مكان آخر إن أراد ، فلن يشق عليه والدها ، ولعل الله تعالى يرزق ابنته الأخرى زوجاً صالحاً مثل موسى فيكمل العمل . لكنّ الشاب موسى الذي وجد المأوى والزوجة الصالحة والرجل الذي احتضنه في أشد الساعات قسوة ، هذا الشابّ أهلٌ للرضا بما ناله من خير ، وأهلٌ لحسن الظنّ فيه . وانطبق المثل العربي (إن الطيور على أشكالها تقع ) على هذه الأسرة الجديدة ، وصدق فيهم قوله تعالى في سورة النور " .....وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ۚ .....(26) " الهم ارزق شبابنا وشاباتنا نصفهم الآخر الطيب ، وأنشئ منهم بيوتاً طيبة طاهرة يُذكر فيها اسمك الكريم ، .. واكلأهم برعايتك وعنايتك وفضلك العميم .. اللهم آمين .