ظهرت الفتنة جلية باندلاع حرب الخليج الأولى بين العراق والثورة الإسلامية في إيران في عام 1979م واستأنف السير في مشوار ضعف الأمة الإسلامية الكبيرة والذي بدأ منذ معاهدة سايس بيكو في الحرب العالمية الأولى وما نتج عن الحرب قبل قرن من الزمان تقريبا، ورغم مواطن القوة المتعددة في الأمة إلا أن معالم ومظاهر ضعفها وتشرذم وحداتها وعناصرها يكبر ويتسع يوما بعد يوم مع أن الأمة يزيد تعدادها كل يوم وتتطور علومها وتكبر حاجتها ولكن خلافاتها تزداد ووجهات نظرها متعددة ومختلفة ولا اتفاق على وحدتها وإعادة قوتها، وهذا ما زاد في أطماع الآخرين بخيرات الأمة وسلب إرادتها وثنيها عن نصرة قضاياها والاستهتار بدستورها وتطلعاتها وآمالها وعرقلة تطورها ومنعها من تحقيق أهدافها وغاياتها، ومن أسباب ذلك ابتعاد قسم كبير من الأمة عن تعاليم الدستور القويم الذي هو عصمت أمرنا وجلاء همنا وطريق الهداية والنور وهو جامع لكل شيء ودستور حياة وصمام أمان للآخرة لمن ابتغى العزة والرشاد ، وللأسف لا يتذكرون كتابنا القويم المحمي من العبث والتغيير بقدرة رب العالمين وإخلاص المؤمنين إلا في رمضان وفي المآتم والأحزان فقط، وبالرغم من مؤتمرات حوار الأديان المتعددة واللقاءات التي جمعت بعض زعماء الأمة الإسلامية مع زعماء سياسيين ودينيين للمذاهب الأخرى وما جرى من حوارات وتطبيع وكسر قاعدة المحرمات إلا أن ذلك لم يحل دون التطاول على الديانة الإسلامية وأتباعها ورموزها وكتابها المقدس، ولقد بلغ الاستهتار بأمة الإسلام ورموزها وكتابها الشريف في السنوات العشرين الماضية حدا لا يستطيع الإنسان المسلم السكوت عليه أو تمريره دون التوقف والسؤال حول الأسباب والأهداف من وراء تطاول واستهتار الغير بالإساءة لمعتقدنا وكتابنا المنير (المصحف الشريف) دستور الأمة ومنارة نصرها وعزتها وهدايتها وفلاحها، فإعلان أكثر من كنيسة أمريكية سابقا على لسان كبار قساوستها النية على حرق نسخة من القرآن الكريم يعبر عن استهتار في معتقدات الآخرين ورغم أن ذلك يأتي من فئة محدودة من المجتمع الأمريكي ، إلا أنه يشكل ناقوسا للخطر يهدد العلاقة والتسامح بين أتباع الديانات المختلفة ويشكل بذرة خلاف في المجتمع الأمريكي وغيره من المجتمعات الغربية ستكبر نواتها مع الزمن إن لم يكن هناك رادع لهؤلاء المتطاولين على معتقدات الآخرين من خلال تشريعات عقابية في دولهم وأنظمتهم تجرم الإساءة للأديان والمعتقدات الأخرى في العالم، وما يشجع هؤلاء المتعصبين و المهووسين هو ما جرى في الماضي من حرق لنسخ من القرآن الكريم في أكثر من موقع في العالم وأيضا ما جرى من هدم مساجد وتدنيس حرماتها وحرق ما موجود فيها من مصاحف وكتب دينية خلال الحروب والاعتداءات التي جرت على دور العبادة في أفغانستان والعراق وفلسطين والبوسنة وغيرها من بلاد المسلمين، ودون عقاب لهؤلاء المعتدين من قبل المسلمين أو من القائمين على الأممالمتحدة والراعين للقانون الدولي أو من قبل أنظمتهم وقوانينهم، وإن عبر ذلك عن شيء فإنه يعبر عن حقد دفين ومتواصل على الشريعة الإسلامية وأتباعها من قبل مجموعات متعددة وأفراد من معتنقي الديانات والمذاهب الأخرى ، وتأتي الإساءة أو دفع الآخرين للاستمرار بها بتشجيع من قبل بعض السياسيين والمسئولين في بعض المجتمعات الغربية والذين يفرش لهم السجاد الأحمر عندما يزوروا بلاد المسلمين، وأقرب مثال ما قامت به المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل مؤخرا من تكريم للرسام الدنمركي (كورت فيسترغارد) الذي أثارت رسوماته المسيئة إلى نبي الهدى محمد عليه أفضل الصلاة والسلام احتجاجات كبيرة في العالم الإسلامي في عام 2005م، وهذا التكريم هو أكبر إساءة للمسلمين كافة في أنحاء العالم ويتناقض كليا مع ما جرى في مؤتمرات حوار الأديان ويتناقض مع أبسط مفاهيم الدبلوماسية ومراعاة شعور الآخرين، حيث وصفت ميركل هذا الرسام بأنه شجاع وأشادت بشجاعته وقالت أن ما قام به يندرج تحت حق حرية التعبير ، ولا أدري ما هو موقفها لو أن هذا الرسام بعينه رسم رسومات مسيئة لسيدنا المسيح عليه الصلاة والسلام أو رسومات مسيئة لمعتقدات اليهود فهل ستكرمه السيدة ميركل أو هل ستصف ما قام به من عمل بالشجاعة أو هل ستقول أن ما عمله هو مجرد حق له في حرية التعبير، لا أعتقد ذلك أبدا بل سيلاحق وينبذ ويوصف بالشذوذ ويقبضون عليه ويحاكم بتهمة اللاسامية وتهمة الإساءة لمشاعر المسيحيين واليهود في العالم وستقوم الدنيا ولا تقعد، ولذلك أرى من واجب الدول الإسلامية على الأقل استدعاء السفير الألماني لديها وتسليمه رسالة احتجاج على ما قامت به ميركل وإفهامهم أن العلاقات مهددة بينهما ما لم تعتذر المستشارة الألمانية على ما بدر منها من تشجيع على الإساءة لرمز الإسلام وقدوة الأمة والإساءة أيضا للمعتقد الإسلامي وأتباعه في العالم وذلك أضعف الإيمان، أيضا بالرغم من أن الرئيس الأمريكي أوباما غير الإستراتيجية الأمنية سابقا من محاربة الإرهاب (الذي ألصق بالمسلمين زورا) إلى محاربة القاعدة كهدف استراتيجي ، وذكر في تصريحاته مؤخرا أنه يجب أن لا تكون الحرب على الإسلام بل على القاعدة ، إلا أنه في أول تعليق له سابق على إعلان كنيسة (دوف وورلد وتريش سنتر الأمريكية في فلوريدا) عزمها إحراق نسخ من القرآن الكريم في ذكرى هجمات11سبتمبر 2001م، حيث كان رد فعله على الموضوع بدافع الخوف على جنود الولاياتالمتحدةالأمريكية في أفغانستان وباكستان ووصف الخطوة بأنها غير مسئولة وعدائية ستجلب المزيد من العداوة للولايات المتحدة وتعطي المتشددين الإسلاميين ستارا لعملياتهم الإرهابية (وفقا لوصفه) لتشويه صورة أميركا، والمتفحص لهذه الكلمات المنمقة للسيد أوباما يجد أن رئيس الولاياتالمتحدة كان دافعه في انتقاد الخطوة التي كانت تنوي الكنيسة القيام بها هو خوفه وحرصه على الجنود الأمريكيين وخوفه من تبعات زيادة العمليات المناوئة لأميركا، ولم يكن دافعه الرئيسي احترام مشاعر الأمة الإسلامية والعربية الكبيرة ولا مشاعر قادة هذه الأمة، وهذا يأتي نقيضا لما ذكره السيد أوباما في خطابه في جامعة القاهرة في ربيع عام 2009م عندما ذكر أن علاقات بلاده مع العالم العربي والإسلامي ستبنى وتقوم على مبدأ الاحترام المتبادل وأول بنود الاحترام المتبادل هو احترام معتقدات ومشاعر الآخرين، ويأتي نقيضا أيضا لما ورد في مؤتمرات حوار الأديان التي عقدت في أمريكا بين الشيوخ والرهبان والأحبار وبعض السياسيين لكسر الجليد والتقارب ، وكل ذلك يأتي والأمة مشغولة بأمور كثيرة طفت عليها الخلافات وليس لها علاقة بنصرة الأمة ونصرة قضاياها وإعادة عزها ومجدها التليد حتى أصبحت الإهانة اليوم موجهة لكل المؤمنين والأفراد من أمة الإسلام، ومن المفروض أن لا تمس حرية التعبير للأفراد في الدول الغير إسلامية الحرية الدينية للجماعات والأشخاص الآخرين غير أتباع ملتهم ، وتعاليم الشريعة الإسلامية تحض المسلمين بعدم مجادلة أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ولا أدل على ذلك ما قام به الخليفة العادل الفاروق عمر بن الخطاب عندما استلم مفاتيح القدس حيث رفض أن يصلي في موقع كنيسة القيامة في القدس بل صلى في موقع آخر قريب منها وذلك حفاظا واحتراما لمشاعر أتباع الكنيسة وخوفا من النزاع على الموقع مستقبلا، ويأمل المسلمون في هذا العالم أن يحترم الغير مشاعر المسلمين ودستورهم ومعتقدهم كما يحترم المسلمون معتقدات ومشاعر الغير ، ولهذا بات واجبا على الأمة الإسلامية إعداد تشريع موحد لكافة أقطار الأمة لحماية الدستور الإسلامي ومشاعر معتنقيه من عبث العابثين والمستهترين لجلب ومساءلة ومعاقبة أي شخص يسيء للديانة الحنيفة ولرموزها ومشاعر أتباعها، ويجب أن يذكر في كل معاهدة لتسليم المجرمين أو أية اتفاقية ثنائية أو أكثر من الأطراف تعقدها أي دولة إسلامية مع دولة أو دول غير إسلامية بضرورة تسليم أي مسيء للديانات والمعتقدات، والطلب في المؤتمرات العالمية والثنائية من الدول التي تفتح بابا واسعا للديمقراطية أو التي تلصق التهمة بالديمقراطية وحرية التعبير مع أن من أبسط مباديء الحرية انتهاءها عندما تصطدم مع حرية الآخرين، الطلب منها تجريم من يسيء لمعتقدات الآخرين لأن هذا الأمر يعرض للخطر العلاقات بين الدول ويسيء العلاقات بين الشعوب، لأنه كفانا لا مبالاة وكفانا إغلاق العيون وصم الآذان عما يجري من إهانة لشريعتنا الغراء ورموزنا ومشاعرنا كمسلمين ويجب وضع كل مسيء ومشجع على الإساءة لطائلة العقاب، وباستطاعة الأمة رد اعتبارها بوسائل سلمية من خلال إعادة دراسة العلاقات الاقتصادية مع دول العالم وخاصة مقاطعة ومنع عملية استيراد المنتجات الأجنبية من الدول المسيئة للأمة ومن خلال توظيف مصالح الغير عند الأمة لخدمة قضايا الأمة ونصرة الدين والمعتقد، وقال نبينا وشفيعنا رسول الله عليه الصلاة والسلام (نصرت بالرعب مسيرة شهر) لأن الاستكانة الآتية من المهادنة وغض الطرف على ما يجري حبا في عدم الرغبة في المشاحنة وعدم تعكير صفو العلاقات لا طائل منها ولن يكون مردودها خيرا أبدا، ولذلك لن تعاد كرامة الأمة وتنهض وتقوم إلا ببناء جيد ومخلص لقوتها العسكرية والاقتصادية والعمل على وحدتها ومساءلة كل مسيء لها في هذا العالم وتعاليم القرآن والسنة النبوية واضحة في بيان هذا الأمر ، وكما يقول المثل الشعبي ( اللي ما بحميه شره ما بحميه خيره).