شرفني سي الباجي قايد السبسي طيلة الأشهر الماضية بلقائه الودي عديد المرات، و قد حزمت أمري بعد تفكر وتردد و تدبر و قررت الالتحاق بحركة نداء تونس يوم الجمعة 5 أفريل 2013، بعد ما يناهز التسعة أشهر من تأسيس الحزب، و هي تقريبا الفترة نفسها التي قضيتها في التأمل منذ غادرت مسؤوليتي على رأس الأمانة العامة للاتحاد الوطني الحر. لبيت النداء الذي أطلقه سي الباجي دون أي شروط مسبقة أو نقاشات ممكنة حول الموقع و المكانة و سواها من التفاصيل التي يراها البعض هامة، و سأتشرف بأن أكون عضوا قاعديا في حزب يتطلع إلى إعادة بناء الحركة الوطنية التونسية، و إكساب الديمقراطية التونسية الناشئة التوازن المطلوب و الذي من دونه قد تغرق السفينة في بحر الاستبداد من جديد. و كان التحدي الذي واجهته طيلة الفترة السابقة أن لا أشعر باليأس من نجاح تجربتنا الديمقراطية التي وهبتنا نعمة خوضها ثورة 17 ديسمبر 2010 المجيدة، فقد تردت الأوضاع السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية إلى درجة جعلتني أتشكك لوهلة في جدوى العودة إلى بلدي بعد رحلة المنفى التي ناهزت العقدين، و التي قررتها حتى أظل محترما أمام نفسي أولا، إذ طالما بررت عيشي خارج وطني بحالة الاستبداد السياسي التي كانت قائمة، و عللت النفس بالعودة مباشرة متى ما زال العقبة. و خلافا لما ذهب إليه البعض محتكما إلى قوالب ظاهرية جاهزة في تقييم الأمور الطارئة، فإن انتمائي لحركة نداء تونس هو انتماء طبيعي جدا لمشروع سياسي احتكم إلى ذات المرجعية الفكرية التي وصلت إليها و نظرت فيها لسنوات طويلة، و هي المرجعية الوطنية البورقيبية الوسطية الداعية إلى برنامج تنموي يمزج بين الأصالة و المعاصرة و الهوية و الحداثة و الإيمان بأن تونس أمة و دولة و ليست خطأ في التاريخ و الجغرافيا يستحى منه و يسعى لتصحيحه. و قد انخرطت قبل نشأة نداء تونس في مشاريع سياسية مبنية على نفس الأرضية الفكرية و السياسية التي بني عليها النداء، غير أن الله أراد أن يبارك في عمل سي الباجي دون غيره من الشخصيات الوطنية البارزة التي حاولت أن تطلق تجارب مماثلة لمواجهة محاولات حركة النهضة للاستفراد بالحكم و البلاد، و يجعل حركته مباركة ذات جماهيرية واسعة و تأثير بالغ و طموحات كبيرة. و لو استشارني كل من انتمى إلى هذا الخط الوطني الوسطي ماذا أفعل، لنصحته بالانضمام فورا إلى هذا الحزب الذي ولد كبيرا، ليكبر أكثر و أكثر، و ليكون القوة الضامنة لأي انتكاس لديمقراطيتنا الناشئة، فعندما يجعل بعض قادة النهضة الكبار "نداء تونس" عدوهم الأول تحت شعارات الحق المراد به باطل، فإنهم يسعون إلى إقصاء القوة السياسية الوحيدة القادرة حاليا على مواجهة استفرادهم بالسلطة، تماما كما خطط التجمع أواخر الثمانينيات لإقصاء النهضة للاستفراد بالسلطة أيضا. و ما استيقنت منه فعلا، أن نجاح النهضة لا قدر الله في التخلص من نداء تونس، بحجج يعلم كل متأمل عادل فيها أنها مغرضة متهافتة متداعية، سيفضي لا محالة إلى جعل الحياة السياسية و المشروع الديمقراطي الوطني الناشئ تحت كلكل حزب واحد اجتهد في إنشاء مجموعة من الأحزاب الصغيرة التابعة التي لن تتردد في لعب دور "الكومبارس الديمقراطي"، و إجبار مجموعة أخرى من الأحزاب الصغيرة أيضا على الاختيار بين مغانم الدوران في فلك السلطة أو مغارم عصيانها. و ما خلصت إليه أن مستقبل البلاد و برنامجها الديمقراطي و التنموي هو في أمس الحاجة إلى استمرار مشروع "النداء" ليجمع شتات الوطنيين التوانسة على اختلاف مشاربهم و أطيافهم و مدارسهم و تجاربهم، و يقف ضامنا للحفاظ على المكتسبات و عدم انحراف قواعد اللعبة فيصير الشأن العام رهينة الاستفراد بالرأي و القرار مجددا. و كنت قد نصحت عددا من الأصدقاء في حركة النهضة أن يشجعوا قيادتهم على التفكير بطريقة مختلفة و أن ينظروا إلى حركة نداء تونس باعتبارها "الآخر" الذي لا يمكن ل"أنا" صالحة الاستغناء عنه، و باعتبارها الشريك الرئيسي الممكن الذي تتقاسم معه عددا من الأسس الفكرية و السياسية المشتركة، و بمقدوره كذلك أن يعوضها باقتدار متى ما كتب لها الشعب بطاقة خروج من دائرة القرار، في إطار التداول على السلطة المطلوب طبعا. و قد حرصت بانتمائي المتواضع للنداء أن أساهم في تثبيت "القطعة الغائبة" في لوحة "البيزل" البديعة المعلنة، و أن لا يغيب خط الإسلام المستنير و العروبة المعتدلة و التأويل "البورقيبي" الاجتهادي، عن ساحة الفعل و الممارسة، في مشروع وطني كبير من حجم "النداء" الذي عليه كما أعلن مؤسسه أن يكون مرآة حقيقية عاكسة لتنوع التونسيين البناء، تنوع الثراء و التكامل بين الأبناء، لا تنوع الصراع و الفناء. كما أدركت دائما أنه لن يكون بمقدورنا بناء الديمقراطية الموعودة و تحقيق التنمية المستدامة المطلوبة إلا ببناء أحزاب سياسية ديمقراطية حقيقية، لا جماعات دينية أو ايديولوجية مغلقة، و لا مجرد "دكاكين" فردية يقودها أشخاص مصابون بهوس القيادة الأنانية المطلقة، فالأحزاب في أي ديمقراطية هي المدارس التي تخرج رجال الدولة الوطنيين و تؤطر طموحات الراغبين في خدمة أوطانهم و أنفسهم بكل إخلاص و وفاء. و تبقى تونس الجميلة هي المقدسة، أما "النداء" فيجب أن يستمر دائما وسيلة لخدمة الوطن و المواطنين، المصالح الوطنية عنده مقدسة و مقدمة و أولى بالرعاية.