سوف لا أحاول أن أقنعكم بقوة الحجة بقدر ما أقنعكم بقوة الحقيقة المتشخّصة في حياتي . لا أعتبر نفسي فيلسوفا أو عالما اجتماعيا فذّا أو مؤرّخا علاّمة أو ناقدا بارعا. إن جذور نقدي تكمن في تجربتي الشخصية وفي اعتقادي الديني وهذا ما يفسر طابع نقدي وعيوبه ،وقوته رغم هذه العيوب . إنها تجربة خيبة الظن وانفلات في التطفل الشديد ،وانجذاب لا يقاوم ،وإعجاب يعود إلى ينابيع الذكريات الأولى وزمن الكفاح الحق ضد الاستعمار والإصلاح للأجداد والأسلاف. إن الحوار الذي أجراه الأستاذ الباجي قائد السبسي على قناة نسمة إبّان ثورة الكرامة ،وقبل توليه منصب رئاسة الحكومة رأيت فيه القدرة والحرية إذ كان ينطوي على السخاء والتسامح ونضارة الفكر والجرأة على الاكتشاف والمبادرة والإصلاح. ويمثل العقل المتزن والعدالة في الأفعال والعلم في الأفكار .إني كنت أرى فيه نموذجا يحتذى بإنكار للذات. و عاهدت نفسي إثر ذلك اللقاء على أن أخدم وطني بكل حبّ وصدق لو كان الباجي قائد السبسي على رأس الحكومة المؤقتة وناضلت بطريقتي المعهودة اللاعنفية بإسقاط حكومة الغنوشي وشرحت ذلك في كتاباتي وإثر اللقاء الذي دام أربع ساعات على شاشة التلفزة الوطنية وكنت من اوائل منظمي اعتصام القصبة اثنين. وأذكر جيّدا انه كان ذلك يوم أحد وتعالت الأصوات تنادي بإسقاط حكومة الغنوشي والقطع نهائيا مع الماضي الأليم. وفي الأثناء بدأ زحف الحلزون زحفا مريعا سريعا وآنقض على الشباب إنقضاض البلايا .الكلّ بمذهبه والكل بأسلوبه وبطريقته يدسّ أفكاره الحزبية السامة وذلك لتأطيرهم في مرحلة أولى ثم محاولة جذبهم نحو أحزابهم والجمعيات والمنظمات المزمع إنشاؤها في مرحلة لاحقة ودماء الشهداء لم تجف بعد . حينها أدركت أن الانقضاض على الثورة قد بدأ فقاومت بكتاباتي وتصديت و سأظل أقاوم إلى آخر رمق في حياتي . هذا ما وقع بين القصبة 2 و القصبة 3 ،مما تولد عنه إسهال حزبي وجمعياتي فهل هذه غاية الديمقراطية ؟التي اتخذت شكل فرّق تسد فكانت تداعيات اليوم هي نتيجة ضبابية المرحلة الماضية . وما غاب عن أصحاب القرار ان طريق الديمقراطية الحقيقية الذي يقرّ بها التاريخ لا يكمن لا في القوانين ولا في الوصايا ولكن فقط في المغزى الذي نعطيه للحياة. فمذهب الحقيقة والعدالة يتجلى كليا في هذه الكلمات و في هذه القاعدة "أحبّ الله وقريبك كما تحبّ نفسك" يستحيل تفسير هذه النظرة : فهي تكتفي بذاتها لأنها تختزل كل شيء. إن المحبة هي أعظم قوة في هذا العالم ومع ذلك فهي أكثر القوى هشاشة . إن "اللاعنف" ليس عزوفا عن كل مقاومة فعلية ضد الشر والطغيان والقمع بل على العكس فاللاعنف في رأيي هو أكثر فعالية كسلاح من فعالية الثأر الذي يسبب بطبيعته تنامي الشر وإحداث الدمار . لذا يجب علينا ان لا نسعى إلى مجابهة حدّ سيف الطغاة والدكتاتوريين وبقايا النظام السابق بحد سيف أمضى من سيفهم بل بتخييب ظنهم بامتناعنا عن مقاومتهم جسديا أو حتى لفظيا . يجب علينا أن نعي أن " اللاعنف" في حالته الديناميكية يعني المعاناة الواعية ولا يعني الاستسلام الذليل لإرادة فاعل الشر والقهر والقمع إنما يعني وقوف المرء بإرادته كاملة ضدّ إرادة الطغاة والمتجبّرين ، وإذ نعمل في ظل قانون وجودنا هذا فإن فردا واحدا يستطيع أن يتحدى القوة الكاملة لإمبراطورية ظالمة من أجل أنّ زعزعة أسس تلك الإمبراطورية وآنحلالها . إن "اللاعنف" هو فضيلة القوي وليس فضيلة الضعيف ،فهو ينطوي ضمنيا على القدرة على الضرب والامتناع عن مزاولة هذه القدرة ومع السيطرة على الرغبة في الثأر والرد بالمثل . إني أعتقد أن كل حركة إصلاحية تمرّ عبر خمس مراحل هي اللامبالاة والتهزؤ والإساءة والقمع وأخيرا الاحترام . لذا تمت مجابهة بعض الاعتصامات والمطالب باللامبالاة عدّة أشهر ثم تعاطفت الحكومة المؤقتة الثانية وسخر البعض من هذه المطالب وحولت بعض الجهات الإساءة إلى هذه الوقفات والاعتصامات بتشويه حقائقها وحاول البعض قمع هذه التحركات السلمية . إن كل حركة اصلاحية صادقة تصمد أمام القمع سواء كان بسيطا أو قاسيا فإنها تفرض حتما احترامها الذي هو سمة من سمات النجاح . وإنني لا أستطيع أن أفسر القمع إذا كنت صادقا في نضالي بل في نضالنا بأنه يبشر بالنصر القريب لعملية الإصلاح الجاد . وإذا كنا صادقين في المطالبة بحقوقنا وكرامتنا والتعبير عن آرائنا فإن القمع لن يثبط همتنا ، ويجب أن لا يدفعنا إلى المبادرة الغاضبة ، بمجابهة العنف بالعنف ذلك ان العنف يؤدي إلى الانتحار . وهنا علينا بل على شبابنا ومفكرّينا ومثقّفينا وإعلاميينا وكل فئات المجتمع المدني من جمعيات حقوقية واجتماعية وقانونية أن القوة الحاكمة من بقايا النظام السابق وخاصة جل رموزه الفعالة لا تسلم الروح ولن تستسلم بسهولة . ولذا فإنه من الطبيعي أن تقوم هذه البقايا بمحاولات إلى آخر رمق لكي تحافظ على حياتها وبقائها ضمن منظومة دواليب الحكومة المؤقتة وكلّ دواليب نظام الدولة حتى ولو بأسلوب القمع. إن ضبط النفس من جانب الجماهير والشباب المناضلين ضبطا كاملا والابتعاد عن التخريب وتعطيل الحركة الاقتصادية وشلّها وعدم استعمال العنف ولو لفظيا هو أسرع السبل للنصر وتحقيق أهداف الثورة . وحينما يستيقظ الإنسان يتمطى ويتحرك ، وهو في حاجة إلى فترة من الزمن ريثما ينتبه تماما . وثورة 14 جانفي أيضا .رغم أنها قد سببت هزّة للبلاد واعتقتها من الدكتاتور السابق . لكن لم تخرج بعد تماما من غفوتها . نحن في حالة التمطي والحركة ويمكننا أن نعتبر هذه الحال ضرورية وبالتالي طبيعية مثل الحال التي تسبق اليقظة التامة من النوم . إن وعينا بأهمية هذه الثورة سيساعدنا ،دون شك على مجاوزة هذه المرحلة . فحينما نخرج من النوم لا نبقى مخدرين وإنما نستعيد حواسنا بسرعة متفاوتة بحسب أمزجتنا وهكذا ستكون الحال مع الحركات الحالية التي لا تسرّ أحدا .فالناس حاليا لا يتحدثون إلا عن الاستياء ومن الضروري لبلادنا أن تعرف الاستياء لأنه بالفعل مفيد جدا لأن الانسان ما دام راضيا عن وضعه فلا يمكن إقناعه بالإصلاح أو بالتغيير.لذلك يكون كل إصلاح مسبوقا بالتذمر . أما في ما يخص موضوع الصحافة فحسب اعتقادي أريد أن أتوجه بكلامي هذا إلى الأستاذ الباجي قائد السبسي لأذكر هدف الصحافة الوحيد يجب أن يكون الخدمة وأن من أهداف أي وسيلة إعلامية أن تدرك الشعور الشعبي وتعبّر عنه. كما انه عليها الكشف دون خوف عن العيوب. واعود وأؤكد أنّ الانضباط مطلوب في إستراتيجية " اللاعنف " ولكن اللاعنف يتطلب شيئا أكثر إنه يتطلب من كل فرد من أفراد الشعب أن يكون جنديا وخادما . وعليه أن يكون عند الضرورة قائد نفسه فالانضباط وحده لا يعوّض القيادة لأن القيادة تتطلب مزيدا من الإيمان وكثيرا من الذكاء.وإذا أردنا أن نتحرر من بقايا النظام الدكتاتوري ونحقق أهداف ثورة الحرية والكرامة أولا وأخيرا يجب أن يكون اللاعنف هو قانون الجنس الإنساني وهو في المجال الأخير لا يكون في متناول الذين لا يؤمنون بالله والمحبّة . وإني أعترض على العنف لأنه حين يبدو صالحا فإن صلاحه مؤقت أما الشر الذي ينجم عنه فهو دائم وخطير . وأقول أخيرا للسيد الباجي قائد السبسي فإن كنت حقوقيا في تكوينك وفي دراستك و في بعض الفترات من حياتك المهنية باعتبارك محاميا فأملي أن لا تكون محامي الأفراد والشركات والمؤسسات بل أن تكون حقا محاميا لشعبك ووطنك.