استيقظنا يوم عيد الفطر على اندلاع مواجهات بين المواطنين و الشرطة و صراعات بين بطون قبلية و عرائش قروية.. و الجميع يتهم بقايا النظام السابق بنشر الفوضى والعنف وإشعال نار الفتنة بين أفراد الشعب الواحد إن لم نقل بين أفراد الأسرة الواحدة في بعض المناطق داخل البلاد.. بقايا النظام السابق هم من يطلق عليهم بتسمية " RC Diste " التجمعيون.. قيل بأنّ عددهم يفوق المليونين، أي تقريبا نصف عدد السكان الراشدين.. وأنا أستبعد هذا الرقم لما يحويه من مبالغة ومغالطة استعملهما النّظام السابق لإحكام الانتشار والتأثير على أصحاب العقول البيسطة.. ولكن لماذا لم نتساءل عن الأسباب التي تدفعهم لارتكاب تلك الجرائم و بهذا البرود الفضيع ؟.. أنا لا أصدق أنهم يرفضون قطعيا فكرة تكريس مبدئ الديمقراطية في تونس، و الانتقال من ديمقراطية الشعارات، إلى ديمقراطية الأفكار و الأعمال.. من ديمقراطية الحاكم إلى ديمقراطية الشعب.. ومن ديمقراطية الرّاعي الباغي إلى ديمقراطية الرعيّة المغلوبة على أمرها.. هناك أسباب أخرى تجبرهم على القتال.. إنّه الخوف.. الخوف ممّاذا ؟.. من ما يطلق عليها بالعدالة الانتقالية هم ينظرون إليها بأنها عدالة انتقامية.. هي تطالب بالمسائلة و المحاسبة ثم المصالحة.. إذا الجميع مقتنع أن المصالحة ضرورية إذا أردنا بناء مستقبل بعيد عن الفوضى والعنف والصراعات الدموية الداخلية.. ولكن حينما تقول لهم مبادرة جريدة " الخبير ": " سوف تعترفون، ثمّ تعتذرون، و بعد ذلك تحاسبون أمام القضاء الوطني و كذلك القضاء الدولي، ثم نترك القرار للشعب إن شاء عفا عنكم و إن شاء جرّدكم من كلّ ما تملكون ".. كيف ستكون ردّة فعل التجمعيّون ؟.. بالتأكيد لن يستسلموا من دون مقاومة فكلمة " ثمّ " لن تنزع الخوف من قلوبهم.. نعم الخوف من المحاسبة، الخوف على ممتلكاتهم و رزقهم، الخوف على مستقبلهم و مستقبل ذرّياتهم.. كل هذه الهواجس لم تترك لهم خيار أخر غير عرقلة المسيرة الديمقراطية في سبيل تكريس الفوضى للهروب من الخوف و المحاسبة و العقاب.. فماهي الطريقة الممكن توظيفها لنوقف سفك دماء أبناء و بنات شعبنا ونعيد بلادنا إلى مدارها الصحيح ؟.. لنا خياران إما أن ندخل في صراعات و نزاعات مسلحة طويلة الأمد وستكون مصحوبة بخسائر شتّى، منها البشرية ( الأطفال و النساء و الشيوخ الأبرياء هم أول الضحايا ) ومنها الخسائر المادية ( سيكون لها تأثير معاكس على اقتصاد البلاد الهش بطبعه)، فساعة من الحروب و الاقتتال توخّر اقتصاديات الشعوب عشرات الأعوام.. أو أن نقول بلسان رجل واحد " عفى الله عمّا سلف ".. وبيننا وبينكم الصندوق الوحيد القادر على إفراز من يتمتع بأحقية الدفاع وتسيير هذا الشعب الذي عرف كيف يفتك حريته ويعي متى وكيف يكرسها ليحقق تطوره ورقيه المرجو.. فهذه الجملة التي كانت السبب الأول في نجاح الفتوحات الإسلامية و في بناء أعظم وأكبر حضارة في تاريخ الإنسانية.. حضارة نشأت بعد أن حطّم سيّد الخلق دولة الأوثان والأصنام وبنى دولة الإسلام.. فلماذا لا نتفادى أخطاء اقترفها غيرنا في العراق ؟.. و ها نحن نشاهد يوميا نتائجها.. لما لا ندعوا إلى المصالحة التي تحسّسنا طريقها من المبادرات التي أطلقتها مكوّنات المجتمع المدني والتي انطلقت بالمبادرة الأنموذج لجريدة " الخبير " لكي نبني مستقبلا أفضل للجميع.. صحيح أنّ غريزة الانتقام تراودنا جميعا ولكن يجب أن نتحلّى بقوّة الإرادة و الشجاعة وخاصة بالإيمان لنتغلب على هذه الغريزة التي شلّت حركة الشعوب و قضت على كلّ ما هو جميل فوق الأرض.. يجب أن تعلم أن القبائل العربية في الجاهلية تتقاتل بشكل دائم و بدون انقطاع فيما بينها وأغلبية هذه الحروب هي للثأر أو للفوز بعمل يدعّم الشرف و يعلي المكانة.. فعقلية الانتقام متكرسة بينهم بشكل كبير و من لم يثأر لا قيمة له بنسبة إليهم.. ولكن حينما فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة عفى عن أهل قريش بالرغم من أنهم أذاقوا المسلمين من الويلات ما يصعب وصفه، فاغتصبوا نسائهم، وقتلوا أطفالهم و نهبوا أرزاقهم وممتلكاتهم الخ.. حتى هند بنت عتبة التي مثّلت بجثّة أبي عبد الله حمزة عمّ الرسول صلى الله عليه وسلم وأكلت كبده، عفا عنها وتجاوز عمّا كان سيلحقه بها من عقاب..إذ قال لهم اذهبوا فأنتم طلقاء وذلك لأنه يعرف أهمية المسامحة والمصالحة وخطورة المحاسبة و الثأر.. مختصر القول صحيح أن أشخاص مثل المنصف المرزوقي و سهام بن سدرين و راشد الغنوشي أو مصطفى بن جعفر عانوا الويلات في ظلّ النظام السابق، لكن لا يمكن أن تقارن بمعانات المسلمين في مقاومتهم لكفر قريش و تجبّر قريش و ظلم قريش.. لذا لا يجب أن نسمح لأيّ كان بنشر ثقافة الأخذ بالثأر و تصفية الحسابات و المحاسبة من أجل التشفّي .. وخاصة لا يجب على الشعب التّونسي أن ينسى بأنّه ساهم بصمته و تخاذله و ضعفه وخوفه في تكريس دكتاتورية بورقيبة و من بعده دموية بن علي الذي أسّس عصابات متخصّصة في النّهب و القرصنة و ابتلاع الثروات.. و الجميع يصفّق و يهتف و يناشد و ينتظر.. و من أكبر المناشدين الرئيس الوقتي الحالي فؤاد المبزّع.. لم يعد لنا مزيد و غدا هناك جديد