اليسار تائه بين التأسيس و الذكرى إيديولوجيات متناحرة...حنين إلى ماض لا علاقة له مع الواقع ومتطلبات ثورة الحرية و الكرامة... أظهرت النتائج النهائية لانتخابات 23 أكتوبر حول المجلس الوطني التأسيسي، هزيمة التيار اليساري بشكل يدعو للتساؤل والاستغراب ، في أول انتخابات نزيهة، بعد سقوط نظام بن علي. وقد أجمع العديد من نشطاء المجتمع المدني والنخبة السياسية على أن النتائج تؤكد أن اليسار التونسي، فشل في إدارة التعبئة الجماهيرية حول برامجه الانتخابية، ومن ثم فعلى أقطاب هذا التيار عدم الانزلاق في انتقاد الشعب لعدم التصويت لهم، ويجب عليهم مراجعة خطابهم، للوصول إلى توصيات تنير لهم السبيل للنجاح في المستقبل. المحلل السياسي والناشط في مجال حقوق الإنسان، عدنان الحسناوي، قال :" إن هزيمة اليساريين في أول انتخابات ديمقراطية، تعود إلى نقاط رئيسية تتمثل في تناولهم لقضية حرية المعتقد على مستوى الدال والمدلول، بطريقة تستفز أغلبية الرأي العام الذي يؤمن بحرية المعتقد، لكن ولأسباب تاريخية خاصة بالتونسيين فإن غالبية الشعب يعتبرون أن الشيوعية واللائكية كفرًا". ويضيف الحسناوي: " إن حرية المعتقد، والمطالبة بها، تضمن الأسس التي تقوم عليها الدولة اللائكية، بل تفسخ الصورة النمطية لدى الشعب، والتي تركز على أن الشيوعي عدو للإسلام وللأديان بصفة عامة، وخاصة أن تطور الإسلاميين في تونس أفرز قبولهم بالمدنية وبالتالي كان على اليساريين التركيز، خلال حملتهم الانتخابية، على الضمانات القانونية، للفصل بين السلطات وضمان الحريات وتجاهل مواقفهم من مسائل جوهرية أفلحت الحركة الإسلامية في تناولها بامتياز". غياب اليساريين على الساحة السياسية و الإعلامية بعد نتائج الانتخابات أثارت تساؤلات و استفهامات عديدة أهمها ما سبب تراجع القوى اليسارية؟ وهل استسلم اليساريون للفشل السياسي أم هي إستراتيجية سياسية لمراجعة خطابهم السياسي؟ هذه الأسئلة و غيرها يطرحها الرأي العم التونسي بمختلف مستوياته و الذي يستغرب هذا الغياب الفعلي لقوى اليسار اثر الإعلان النهائي للانتخابات ؛غياب فسره البعض بضعف و انحراف الخطاب السياسي لديهم و البعض الآخر برره بقطيعة الفكر الشيوعي مع المعطيات السياسية و الفكرية للشعب التونسي. اليسار بين تحديات الماضي و تداعيات الثورة خلال فترة الاستعمار الفرنسي ومع تصاعد المد الوطني من خلال الحركة الوطنية المطالبة باستقلال البلاد تزعّم ثلة من ذوي التوجه اليساري الحركة النقابية من أمثال محمد علي الحامي والشهيد فرحات حشاد وغيرهم، بل واعتمدوها كأرضية قادرة على استيعاب كل القوى والتيارات، وذلك لوحدة مطالبهم المهمشة آنذاك من طرف أرباب الأعمال، ولم يأخذ نضالهم طابعا إيديولوجيا أو سياسيا بل اكتفى بالصراع المستميت مع كل أشكال العبودية والاستغلال الفاحش والاستلاب، وحتى تكتسب هذه الحركة طابع الاتحاد والتعاون والتعاضد، فتح المجال لمجموعة من شيوخ الزيتونة لحضور جلسة تأسيس اتحاد النّقابات وعلى رأسهم الشيخ العالم الفاضل بن عاشور الذي تولى الرئاسة الشرفية آنذاك. وبعد استقلال البلاد، واثر تنامي المد اليساري في العالم في ستينات وسبعينات القرن الماضي سلك اليسار سبيل النضال على جبهتين أساسيتين وهما العمالية والطلابية، وقد اتسمت هذه الفترة بتفاقم الخلافات داخل البيت اليساري مما ولد بداية الانقسام والتشرذم، والجدير بالذكر هنا أن النظام البورقيبي قد تبنى التجربة الاشتراكية متمثلة في منظومة التعاضد خلال الستينات، وهذا طبعا يفسر التقاء اليسار بالفكر البورقيبي في مسالة إقامة دولة الحداثة والعلمانية. لكن هذا لم يمنع الزعيم بورقيبة من توجيه ضربة قاسية الى الشيوعيين في بداية الستينات على اثر المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قام بها بعض العسكريين والمدنيين، ولم يكتف بورقيبة بذلك بل رسخ منظومة الحزب الواحد منذ بداية عهده بالحكم، فصادر كل الصحف وسلط رقابة خانقة على المنظمات النقابية، وقد اتسمت الفترة بظهور ما يسمى بالحركات الماوية والتروتسكية والتي تعتبر تجديدية في الفكر الشيوعي، تميزت أساسا بعدائها للبلدان الاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي الذي أصبح يوصف بدولة الامبريالية الاشتراكية، وهذا طبعا يعتبر عاملا أساسيا في ظهور الأفكار المادية والتروتسكية في صفوف الشباب التونسي الممثل في فئة الطلبة أساسا. وتمخض عن ذلك ميلاد منظمات يسارية مثل آفاق ومنظمة العامل التونسي وتجمع الدراسات والعمل الاشتراكي في تونس والتي ضمت في غالبها كوادر تونسية من المقيمين في فرنسا ومنظمات مختلفة الاتجاهات من بعثيين وتروتسكيين وشيوعيين وماويين، والملفت للنظر هنا ان هذه المنظمات لم يكن لها طموحات سياسية، وانما الغاية كانت منحصرة في تكثيف جهودها من أجل إعداد مشاريع ودراسات تهتم بحاضر تونس ومستقبلها، إلا أن فترة الستينات بما حملته معها من تغييرات على المستوى الاقليمي كنكسة 1967 وضعت هذه المنظمات في صدامات مباشرة مع النظام من خلال المظاهرات المندّدة بالعدوان الصهيوني على الدول العربية، والمناهضة لموقف الحكومة التونسية تجاه القضية الفلسطينية والذي يبدو منحازا إلى الفلك الأمريكي الامبريالي. وثمة من يرى أن هذه المنظمات قد سقطت في مأزق التناقضات المتباينة بين مختلف المشارب الإيديولوجية التي كانت تسكن نفس البيت الفكري حيث أن هذه الإيديولوجية المبنية أساسا على الماركسية اللينينية قد تبنت مواقف مؤيدة للثورات العربية آنذاك ضد الهجمة الصهيونية الأمريكية في إطار الدعوة للوحدة العربية ولكن لم يكن ذلك من أولويات عملها النضالي بل أن العمل من أجل بناء النظام الإشتراكي هو الهدف الذي يتصدر ورقة أعمالها، والملاحظ أنه في هذه الفترة خرج من "رحم" الوسط العمالي والمهاجرين التونسيين عدة تنظيمات يسارية ذات التوجه الماركسي اللينيني، والتي لم تكن تدور في فلك باقي الأحزاب الشيوعية، أمثال "التجمع الماركسي اللينيني" ،"الحركة الديمقراطية الجماهيرية"، "حزب الشعب الثوري التونسي" و"منظمة الحقيقة". لكن عين النظام البورقيبي لم تكن نائمة بل كانت متابعة لكل هذا الحراك، مما جعل ضربته هذه المرة قاسية جدا على مناظلي هذه المنظمات اليسارية فزج بهم في محاكمات جائرة ومضخمة مما أدى إلى اندثارها بسرعة وبسهولة، وهذا طبعا راجع بالأساس الى كون المنظمات اليسارية العربية عموما غير مرتبطة بالجماهير، بل كانت استراتيجيتها مرتكزة على نظرية "اطلق المبادرة وسوف تصل الى الجماهير"، وهو السبب الرئيسي في فشل الحركات اليسارية عموما، ومن أسباب النكسة داخل البيت اليساري هو غياب النقد الذاتي وآليات المناقشة والمعارضة، وبدلا من ان تتوجه حراب جميع اليساريين للوقوف بوجه النظام البورقيبي ومشاريعه التي اتسمت بالتبعية للامبريالية الامريكية، توجهت الى صدور بعضهم بعضا بتبني مبادئ التخوين والتحريف بين شيوعي واشتراكي ديمقراطي، بين قومي وأممي، والغاية في الأخير تكذيب وتسفيه طرف للآخر من أجل إثبات صحة أفكاره وتوجهاته. ثم جاءت مرحلة السبعينات والتي تميزت بدخول الدولة التونسية في أزمة اقتصادية خانقة، مسك على إثرها بزمام الدولة ثلة من البيرقراطيين المتشددين والذين تعتمد سياستهم على التمسك بالحكم بقوة السلاح، فكانت الحملة البوليسية التي شنها النظام غير المسبوقة من أجل تصفية نشطاء "منظمة العامل التونسي" الذين كثفوا نشاطهم المعادي لسياسة الدولة، فكان مصيرها الانشقاق الداخلي وبالتالي الانقسام فتحولت من أعتى منظمة يسارية معارضة في تونس إلى تنظيم هزيل في الثمانينات وقد نتج عن ذلك طبعا خروجها من الساحة السياسية التونسية، والملفت للنظر أن الحركات اليسارية في الثمانينات رجعت إلى حضن الاتحاد العام التونسي للشغل الذي ترعرعت فيه ونضجت خلال الخمسينات والستينات، ولم يبق فعليا سوى "منظمة العامل التونسي" و"الحزب الشيوعي" كما عرفت هذه الفترة بظهور أعتي التنظيمات المعارضة وهم الإسلاميون الذين سلكوا منذ بداية السبعينات طريق العمل السري حيث توغل هؤلاء بكل ثقلهم في الساحة النقابية والطلابية والجماهيرية أيضا، فكان التنظيم ذو وجهين أحدهما دعوي والثاني سياسي فزاحموا اليساريين على كل الأصعدة مما جعل النظام يستفيق عل خارطة سياسية جديدة. فكانت بداية الثمانينات والتي حاول فيها النظام البورقيبي انتهاج منهج إصلاحي ديمقراطي عمد من خلاله المرحوم محمد مزالي الوزير الأول آنذاك الدخول بتونس لمرحلة جديدة، وفتح المجال لكل التيارات لدخول معترك الانتخابات التشريعية وتمكن حينها بعض الأحزاب من الحصول على التأشيرة ما عدا الإسلاميين الذين أدخلوا السجون أفواجا أفواجا بعدما كشفوا للنظام عن هياكلهم وقياداتهم، لكن هذا لم يمنع الأحزاب اليسارية من الدخول إلى الانتخابات، ولست أدري هنا أكان القضاء على الإسلاميين هو أمر دبر للنيل من بين بقية الأحزاب والسلطة أم أن اليساريين راق لهم اختفاء الإسلاميين من الساحة السياسية، وكانت الصدمة للجميع، زورت الانتخابات وضل بورقيبة وحكمه بلا منافس، وهنا اضطر اليساريون لإعادة حساباتهم من فكرة ممارسة النشاط السياسي العلني. قوى اليسار و سياسة الاختفاء و الظهور ومع نظام بن علي عايش اليساريون أقصى مستويات التشرذم السياسي بين التأييد و التنديد والمثير للانتباه أن هذه القوى لم تكن تتمتع بأرضية شعبية واسعة وكان مؤيدوها يمثلون نسبة محتشمة إن لم نقل ضئيلة.وبعد ما جاءت ثورة الكرامة التي قادها شباب هذا البلد الجريح، الذين خرجوا من ديارهم بلا قائد ولا منظّر، بلا خطط ولا استراتيجيات، بلا سلاح ولا كتائب، هو فقط التوق للحرية وللانعتاق الذي كان يدفعهمكان سلاحهم الوحيد، وبدأ يتبلور في تونس المشهد السياسي ما بعد بن علي، والمتابع لهذا المشهد يمكن له أن يلاحظ أن قادة اليسار قد ساروا من جديد في طريق التفرقة والانقسام، في الوقت الذي تحتاج فيه البلاد الى تكثيف الجهود من أجل تجنيب البلاد أخطار الانقلاب على الثورة، فقد اتجه فريق منهم للبحث عن مكان في السلطة المؤقتة دون أي قيد أو شرط وكأنهم يبحثون عن أقصر طريق للوصول إلى الحكم حتى ولو كان ذلك على حساب إرادة الشعب في التغيير الجذري حيث أنهم ارتضوا لأنفسهم أن يجلسوا في حكومة لا ينقصها إلا كرسي بن علي، وعندما أعلن الشعب من خلال اعتصامات القصبة انه يرفض هذه الحومة البنعلوية، خرجوا منها ليعلنوا انطلاق حملتهم الانتخابية الاستباقية، أما الفريق الثاني فقد اختار الزهد في هذه الحكومة وتشبث بمواقفه المتمثلة في قيام حكومة توافق، بل والدعوة إلى محاسبة كل أزلام النظام السابق وعلى رأسهم بن علي ووزرائه. ما نرغب في تسجيله بإلحاح وبإجماع كبير هو أنّ اليسار التونسيّ اختزل وجوده كلّه في الجانب السياسيّ الميدانيّ الجماهيريّ. وفي المقابل أغفل الجانبين الثقافيّ والنقديّ إغفالا تامّا. ولا نستطيع أن نجزم بالداعي إلى إهمال الفعلين الثقافيّ والنقديّ؛ هل كان ذلك نتيجة ل "شروط المرحلة" كما يحبّ أن يعبّر اليسار السياسيّ؟ أم نتيجة لخيارات إستراتيجية تُقدِّم الميدان على الفكر؟ أم نتيجة لرؤية نفعيّة براغماتيّة آنيّة تستعجل الصراع الاجتماعيّ ضدّ قوى الردّة والصراع السياسيّ ضدّ السّلطة بعيدا عن السجال الفكريّ؟ غياب اليسار على الساحة السياسية في المرحلة الراهنة اخذ أبعادا مختلفة و اختلفت حوله التفسيرات ولكن يبقى السيد حمة الهمامي من ابرز الوجوه اليسارية الفاعلة إلى حد ما في المتغيرات السياسية بعد الانتخابات رغم ما اعترضه من تنديد و مناهضة شعبية لحزب العمال الشيوعي الذي قدم برنامجا انتخابيا إصلاحيا لكل المنظومات المجتمعية. اليساريون في قطيعة مع معطيات الثورة التونسية في منظور النخب السياسية التونسية القوى اليسارية لم تجدد منظورها و خطابها السياسي و اقتصرت على فكرها القديم كما أنها لم تقف وقفة تأمّل. اليسار على حد تعبير السياسيين التونسيين لم يلملم جراحه؛ لم يستدع كلّ مناضليه في الدّاخل وفي الخارج ممّن شرّدهم ونفاهم نظام المخلوع. لم ينادي اليسار إلى الحوار والنقاش بين أطيافه. بل إنّه أصرّ على خلافاته التي ورث أغلبها من الحياة الطلابيّة في مختلف الأجزاء الجامعيّة منذ سبعينيّات القرن الماضي. نرصد هذه الحال ونحن نراقب الدعوات الفاترة التي يتبادلها زعماء اليسار السياسيّ لتكوين جبهات سياسيّة استعدادا لخوض المحطّات الانتخابيّة القادمة. منذ انتصار الثورة الشعبيّة التونسيّة في خلع النظام النوفمبريّ الفاشي وفي طرد الجنرال الحاكم من الوطن، لفتتنا أمور كثيرة. من أهمّها مرور اليسار السياسيّ التونسيّ مباشرة إلى أبواب وزارة الداخليّة يدقّها فرقا فِرقًا فرادى طلبا للإذن في ممارسة السياسة الميدانيّة العلنيّة الشرعيّة بعد أن أفنى عقودا في العمل السريّ. أمّا مشاكل اليسار وانقساماته وخلافاته فبقيت عالقة ومؤجّلة بل مهملة متروكة. كما لاحظنا، ككلّ المتابعين للمشهد السياسيّ التونسيّ، تراكض أبناء اليسار جميعا إلى التلفزات والإذاعات يكتشفون بريقها وكواليسها وماكياجها ذاهلين مذهولين، متأنّقين بربطات أعناقهم، متحدّثين عن "شروط المرحلة" مأخوذين بالصورة المسيحيّة التي ترسم للرموز منهم في هذا الإعلام المصاب باللوثة النوفمبريّة المزمنة. يبدو ان إبقاء اليساريون على نفس الخطاب السياسي و عدم تطويعه مع مجريات ثورة 14 جانفي هو ما يفسر فشلها في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي حسب ما أجمعت عليه النخب السياسية المحايدة.كما يعتبر غيابهم عن المشهد السياسي و الإعلامي في الفترة الراهنة يعود إلى ضعف الإيديولوجيات السياسية لهذه الأحزاب اليسارية و اعتمادهم على نمطية سياسية لا تتوازى مع متطلبات الشعب التونسي ؛ كما أن البعد الديني لهذه الأحزاب و الصورة المعتمة الراسخة في قناعات الشارع التونسي بشان شيوعية هذه الأحزاب وابتعادها عن نقطة ضعف التونسيين و هو وازع الدين الإسلامي الذي تغيبه هذه الأحزاب و تنفيه من خارطتها السياسية.