بمناسبة اليوم العالمي للامتناع عن التدخين، نظّمت منصة Med.tn مائدةً مستديرة جمعت نخبة من المختصين في أمراض القلب والصحة النفسية، من بينهم الدكتور ذاكر لهيدب، أخصائي في أمراض القلب، والسيد أنس العويني، أخصائي في العلاج السلوكي. وقد أسفر النقاش عن نتيجة مقلقة: حملات مكافحة التدخين في تونس تفتقر اليوم إلى الفعالية، مما يستدعي وبشكل عاجل الاستفادة من التجارب والاستراتيجيات الناجحة في بلدان أخرى لقلب المعادلة. تونس بين الصمت والتحدي: أزمة التدخين تتعمق تُظهر الأرقام واقعًا لا يمكن تجاهله: حوالي 30% من التونسيين يدخنون يوميًا، وقرابة 18% من المراهقين الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و17 سنة هم بالفعل من المدخنين. الأخطر من ذلك أن نسبة النساء المدخنات قد تضاعفت خلال السنوات العشر الأخيرة، منتقلة من 5% إلى 10%. أمام هذه المعطيات المقلقة، عبّر الدكتور ذاكر لهيدب عن أسفه من محدودية الحملات التوعوية الحالية، التي غالبًا ما تقتصر على المناسبات الرمزية، دون أن تتمتع بالاستمرارية أو التأثير الفعلي. والأدهى من ذلك أنها تفتقر إلى حلول عملية ترافق المدخنين الراغبين في الإقلاع وتدعمهم بشكل فعّال. روّاد الإقلاع عن التدخين في العالم من خلال النقاش، تبيّن أن عدّة دول نجحت في خفض معدلات التدخين بفضل استراتيجيات صحية متقدمة ومبنية على الواقع. من بين هذه التجارب الرائدة، تجربة المملكة المتحدة، التي اختارت أن تواجه الظاهرة بمزيج من الحزم والابتكار. فبدل الاكتفاء بمنع المنتجات أو التحذير من مخاطرها، وضعت خطة مزدوجة: من جهة، ستُمنع السجائر الإلكترونية ذات الاستخدام الواحد (Puffs) على المراهقين ابتداءً من 1 جوان 2025، ومن جهة أخرى، شجّعت على استعمال ال Vape كوسيلة للإقلاع، باعتبارها أداة أقل ضررًا وفعالة إذا استُخدمت بشكل موجه. لم تُبنى هذه السياسة على فرضيات، بل على بيانات واقعية ومثبتة: بين عامي 2020 و2021، أظهرت الإحصائيات أن أكثر من 60% من المدخنين الذين نجحوا في الإقلاع فعليًا، استخدموا السجائر الإلكترونية ضمن برنامج دعم متكامل تقدمه خدمات محلية متخصصة. الجوهر في النموذج البريطاني هو عدم ترك المدخن يواجه معركته بمفرده، بل توفير بدائل واقعية مدعومة بمنظومة طبية وتوعوية شاملة تعتمد على الأدلة العلمية وليس على الشعارات فقط. في مواجهة التحديات المتزايدة للتدخين، اختارت بعض الدول تغيير المعادلة عبر تبني مقاربات واقعية وجريئة. فقد وضعت نيوزيلندا، على سبيل المثال، هدفًا واضحًا يتمثل في أن تصبح "دولة خالية من التدخين" بحلول عام 2025. لتحقيق هذا الهدف، اعتمدت الحكومة السجائر الإلكترونية كأداة رئيسية ضمن استراتيجيتها، مع إطلاق برامج ترويجية موجهة، وفرض حظر على بيعها للفئات العمرية المعينة، إلى جانب تعزيز التوعية الصحية منذ المراحل الدراسية الأولى، في إطار رؤية شاملة ترتكز على الشفافية والمعلومة العلمية. كندا بدورها لم تغفل عن هذا التوجه. رغم أن البحث العلمي حول السجائر الإلكترونية لا يزال في تطور، تشير الدلائل المتوفرة إلى أنها قد تساهم بشكل فعّال في مساعدة المدخنين البالغين على الإقلاع، خاصة حين تكون جزءًا من مقاربة صحية شاملة. في السويد، بلغ معدل التدخين أقل من 5%، وهو من أدنى المعدلات على مستوى أوروبا. ويرجع ذلك إلى اعتماد منتج يُعرف باسم "السنويس" (Snus)، وهو تبغ يُستخدم فمويًا ويُعتبر بديلاً أقل ضررًا من السجائر التقليدية، حيث تم تنظيم استخدامه بدلاً من منعه، مما ساهم في تقليل انتشار التدخين بشكل كبير. أما اليابان، فقد اعتمدت التبغ المُسخن كبديل مبتكر للسجائر. هذا الخيار ساهم في تراجع نسبة المدخنين من 19.6% سنة 2014 إلى 10.6%، بفضل منتج لا يحترق بل يُسخَّن، مما يقلل بشكل كبير من المواد السامة. وأشار الدكتور ذاكر لهيدب إلى أن هذا البديل قد يكون أقل ضررًا بنسبة تصل إلى 90% مقارنة بالسجائر التقليدية. ما يجمع بين هذه النماذج هو الجرأة في التغيير، والثقة في العلم، والرهان على أدوات بديلة تُقدَّم في إطار منظّم، مدعوم بسياسات صحية واضحة. تجارب تؤكد أن الحل لا يكمن في المنع وحده، بل في فهم سلوك المدخنين وتقديم حلول ملموسة تُحترم فيها خياراتهم وتُوجّه نحو بدائل أقل ضررًا. مكافحة التدخين في تونس: ضرورة الانتقال إلى رؤية جديدة وشاملة رغم التجارب العالمية الناجحة، تونس لا تزال محاصرة بمنطق المنع الذي يفتقر إلى توفير حلول حقيقية للمدخنين. يشير والسيد أنس العويني إلى أن خطاب التوعية لا يزال قائماً على التوبيخ واللوم متجاهلاً الأبعاد النفسية والسلوكية للإدمان، ما يجعل من الضروري تبني نهج جديد يعتمد على التفهّم والمرافقة الفردية بدل المنع الصارم. ودعا المشاركون إلى إعادة تصميم حملات التوعية لتكون مستمرة وموجهة ومبنية على بيانات قابلة للقياس، مع إدماج بدائل أقل ضررًا مثل السجائر الإلكترونية والتبغ المُسخّن و"السنويس" ضمن برامج منظمة لتقليل المخاطر. كما شددوا على أهمية تدريب العاملين في القطاع الصحي لتقديم دعم شخصي فعال، إلى جانب إشراك الأسرة، المدارس، وسائل الإعلام والمؤثرين في إعادة بناء الصورة المجتمعية للتدخين. وفي ختام المائدة المستديرة، أكد الخبراء أن تونس لن تتجاوز هذه الأزمة إلا عبر تبني رؤية صحية حديثة وعملية، ترتكز على الفهم والوقاية والمرافقة والابتكار. فالنجاح لا يكمن في التقليد الأعمى، بل في التكييف الذكي للاستراتيجيات التي أثبتت فاعليتها عالميًا، وصولاً إلى تغيير أكثر إنسانية وعلمية.