تنطلق مساء غد السبت 19 جويلية فعاليات الدورة التاسعة والخمسين لمهرجان قرطاج الدولي في المسرح الروماني بقرطاج لتتواصل إلى غاية 21 أوت المقبل، وسط جدل واسع وانتقادات تطال خيارات البرمجة وآليات التنظيم. ارتباك تنظيمي اتسم بسحب معلقات، وإلغاء عروض بعيد الكشف عن البرمجة الرسمية، ونفاد تذاكر عديد العروض بعد وقت قصير من الإعلان عنها وطرح بيع تذاكرها في السوق السوداء على شبكات التواصل الاجتماعي مما يسيء إلى صورة هذا المهرجان العريق الذي شكل منذ تأسيسه سنة 1964 منصة هامة للترويج للثقافة والأعمال الإبداعية والفنية المتنوعة من تونس ومختلف بلدان العالم. وقوبل الإعلان عن برمجة هذه الدورة بردود فعل متباينة هيمنت عليها الانتقادات للخيارات الفنية التي رآها البعض من فنانين وفاعلين ثقافيين وحتى الجمهور لا تتماشى مع التوجهات الاستراتيجية لهذه التظاهرة العريقة والاستراتيجية الوطنية للثقافة عموما. وفي هذا السياق، أكد رئيس الجمهورية قيس سعيد لدى لقائه بوزيرة الشؤون الثقافية أمينة الصرارفي، يوم 9 جويلية الجاري بقصر قرطاج، على أن الثقافة من قطاعات السيادة وليست مهرجانات ولا معارض موسمية لمدة أيام أو أسابيع، بل ينبغي أن تكون كل تظاهرة ثقافية أو فنية جزءًا من معركة أوسع من أجل الحرية والتحرّر، في تونس وفي العالم كلّه. وذكر رئيس الدولة بالمناسبة، بأن عديد المهرجانات الثقافية الدولية في تونس عند تأسيسها ساهمت لا في الارتقاء بالفن وبسائر أشكال الإبداع الأخرى بل كانت مناسبة يلتقي فيها المناضلون من أجل الفن والارتقاء بالفكر والذوق، فضلا عن أن عددا منها كانت تتويجا لمسيرة العديد من الفنانين والمبدعين. كما شدد رئيس الجمهورية على أن المهرجانات كلها يجب أن تتنزل في إطار المواقف المبدئية للدولة التونسية النابعة من الإرادة الحرة للشعب التونسي ولا مجال فيها لمن لا يقاسمه مواقفه المبدئية. وللمرة الأولى في تاريخ المهرجان منذ تأسيسه، تقام هذه الدورة دون مدير فني حيث اكتفت وزارة الشؤون الثقافية هذا العام بتكليف لجنة مختصة لتنظيم الدورة 59، وهو ما أثار تساؤلات عديدة عن أسباب هذا التوجه. ومنذ الكشف عن البرمجة الرسمية للدورة، أثير الجدل حول مجموعة من النقاط التي أثارت تساؤلات تعلقت بسحب معلقة عرض الفنان الفلسطيني مروان عبد الحميد المعروف ب«سانت ليفانت» قبل تعويضها بأخرى في اليوم التالي، فضلا عن إعلان هيئة التنظيم العدول عن برمجة عرض الفنانة الفرنسية "هيلين سيغارا" وسحب معلقته بعد حملة منددة بتوجهاتها المعادية للقضية الفلسطينية. وفي المقابل نفت الفنانة، في تصريح لوسائل الإعلام الدولية، ارتباطها بأي التزام مع إدارة المهرجان. وأكدت الهيئة في المقابل "التزامها بموقف تونس الثابت في نصرة الشعب الفلسطيني"، وبينت في هذا السياق أن البرمجة تضمنت عديد العروض الداعمة للقضية الفلسطينية من بينها عرض الافتتاح للمايسترو محمد القرفي الذي يتضمن مشهدا يؤرخ دعم تونس لفلسطيني منذ الاستقلال، كما يحتفي عرض الفنان رياض الفهري (بساط أحمر 2) بأطفال رام الله، كما يصدح صوت الفنانة الفلسطينية ناي البرغوثي في عرض "تخيل روحك تسمع" للفنان كريم الثليبي، بالإضافة إلى برمجة عرضين لفنانين فلسطينيين وهما الفنان "سانت ليفانت" والفنان محمد عساف الذي يعود إلى ركح قرطاج بعد أن اعتلى ركح هذا المسرح الروماني في الدورة الواحدة والخمسين (دورة 2015). ويُقام مهرجان قرطاج في موقع أثري مسجل ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو منذ سنة 1979، ويمثّل المهرجان منذ تأسيسه سنة 1964 أحد أبرز المنصات الثقافية والفنية في المنطقة العربية، جامعًا بين أصوات كبار الفنانين وأسماء فنية جديدة من مختلف أنحاء العالم، مما يجعل الاقبال على سهراته الصيفية كبيرا حيث يحضره جمهور لا فقط من العاصمة بل من عديد المدن داخل الجمهورية، فضلا عن ضيوف من عديد البلدان العربية والأجنبية، هذا الإقبال الكبير قابله نفاد سريع للتذاكر وانتعاش للسوق السوداء التي تباع فيها التذاكر بأسعار مضاعفة مما أثار استياء الجمهور الواسع وعلت أصوات كثيرة، وصلت إلى قبة البرلمان، إذ دعت نائبة إلى محاسبة المسؤولين عن هذه الممارسات والتصدي لظاهرة احتكار التذاكر وبيعها في سوق سوداء وهي ظاهرة طالت عدة مهرجانات. ويتضمن برنامج هذه الدورة عشرين عرضا لفنانين وفرق موسيقية من تونس وبلدان عربية وأجنبية. وقد غابت القارة الإفريقية تقريبا عن برمجة هذه السنة، لأول مرة، رغم الدور التاريخي للمهرجان في مدّ جسور التعاون الثقافي والفني بين شمال القارة وعمقها الإفريقي، في حين تستأثر العروض العربية بنصيب الأسد ضمن البرمجة حيث تسجل الدورة حضورا لافتا لأصوات فنية من لبنان من أجيال مختلفة، من ذلك نجوى كرم ونانسي عجرم وناصيف زيتون وآدم والموسيقار إبراهيم معلوف، إلى جانب الفنانة المصرية مي فاروق والإماراتية أحلام التي ستختتم عروض الدورة. ويحضر الفن التونسي في ثماني سهرات بإمضاء الموسيقار محمد القرفي ورياض الفهري ولطيفة العرفاوي وصوفية صادق وكريم الثليبي وعديد الفنانين الآخرين الذين يشاركون في سهرة "من قاع الخابية"، عرض الافتتاح، وسهرة "قائدي الاوركسترا" و "سهرة تونسية" بإمضاء المايسترو يوسف بالهاني،إلى جانب عرض مسرحي لعزيز الجبالي. وبخصوص العروض الأجنبية يتابع جمهور هذه الدورة سهرة لفرق فلكلورية من أنحاء العالم وعرض للفنان كيماني مارلي (نجل الفنان العالمي بوب مارلي)، إلى جانب سهرة للأطفال بإمضاء الفنانة الفرنسية شونتال غويا. ويبقى تطلع الجمهور وأهل الموسيقى والثقافة والفن عموما كبيرا، لمدى قدرة هذه الدورة على تدارك عثراتها التنظيمية واستعادة ثقة المتابعين لهذا المهرجان الدولي العريق، بما ينسجم مع السياسة الوطنية الرامية إلى جعل الثقافة والفنون في قلب مشروع وطني سيادي يؤكد مكانة تونس الثقافية إقليميا ودوليا.