تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ريمون آرون فيلسوف مقاتل من أجل الحرية
نشر في الوسط التونسية يوم 12 - 03 - 2008

ولد ريمون آرون في باريس يوم 14 مارس 1905، وحصل على الأغريغاسيون في الفلسفة من مدرسة المعلمين العليا عام 1928، واحتل المرتبة الأولى في دورته، بينما رسب سارتر في العام عينه، وتظهر لنا صورة مجموعة من المتخرجين من الجامعة عام 1924، ريمون آرون وإلى جانبه جان بول سارتر، وبول نيزان، والفيلسوف جورج كانغيهان، وعالم النفس دانيال لا غاش.. وكان معظم زملائه في الجامعة، مثله من مؤيدي النزعة السلمية..‏
كان أساتذته المفضلين ليون برونشفيغ وآلان، قبل أن يكتشف ماكس فيبر, وكانت الفلسفة تستهويه، لكن هناك شيئاً ما لا يرضيه، وعندما تخرج من مدرسة المعلمين العليا صرح في إحدى محاوراته مع جان لويس ميسيكا ودومينيك وولتون (المشاهد الملتزم، جوليارد، 1981): "أعرف الشيء القليل عن العالم، والواقع الاجتماعي، والعلوم الحديثة. حينئذٍ ما جدوى ذلك؟ وعلى ماذا ممارسة الفلسفة؟(...) عندئذ هربت بطريقة ما، تركت فرنسا، ووجدت شيئاً آخر".‏
في بداية عام 1930 سافر آرون إلى ألمانيا لدراسة الفلسفة، وشهد لبضعة أشهر الانتصار الأول للاشتراكيين القوميين في سبتمبر 1930. ووجد أن النازية ليست جنوناً مؤقتاً فقط، بل إنها يمكن أن تقود إلى معانقة أوروبا. ولم يكن حدسه واضحاً، حسب قول رفيقه الصغير سارتر الذي أقام في ألمانيا في نهاية 1930، عندما استلم النازيون السلطة، والذي عبر عن اللامبالاة، التي حملها هذا النظام القائم على الإرهاب والقتل.‏
لقد كتب ريمون آرون في مذكراته ميوله العاطفية للثقافة الألمانية، ويمكن القول أيضاً عن ميول عاطفية خطيرة، لأن معرفته للثقافة الألمانية فاجأت العديد من زملائه، الذين صدموا أيضاً، ويمكن أن نذكر مثالين، الأول وقع في بداية دراسته الجامعية، والثاني في قمته: عندما قدم رسالة الدكتوراه عام 1938، ودرسه الافتتاحي في الكوليج دو فرنسا عام 1970.‏
في عام 1938، كان عمر آرون 33 عاماً، عندما قدم أطروحة الدكتوراة تحت عنوان: مدخل إلى فلسفة التاريخ، وهو حدث غير عادي، بوصفه العارف بألمانيا وتاريخها، وقد حصل مابين 1930 إلى 1931 على منصب أستاذ مساعد لتدريس اللغة الفرنسية في جامعة كولونيا، بالقرب من الأستاذ الشهير ليو سبيتزر. وفي كولونيا قرأ (آرون) رأس المال لكارل ماركس لأول مرة، ومن سنة 1931 إلى 1933، كان آرون طالباً داخلياً في دار أكاديمية برلين، وأعطى دروساً باللغة الفرنسية للمخرج السينمائي الشهير ماكس رينهارد، وشهد صعود هتلر إلى قمة السلطة، وكان شاهداً أيضاً مع غولدمان على إعلان حكم صادر عن غوبليس لتفتيش الكتب، أمام الأوبرا، في مايو 1933.‏
لقد جعل صعود القومية الاشتراكية ريمون آرون حذراً من السياسة وبرر موقفه الذي حمله طيلة حياته عن الإيديولوجيا وبنية الأنظمة التوتاليتارية، ففي تلك الفترة، أثار آرون اكتشافه لعلم الاجتماع الألماني "كعجب". وأصدر كتاباً بهذا الصدد في عام 1935. وما اكتشفه ريمون آرون في ألمانيا التوتاليتارية الناشئة هذه، تهوده الخاص. فقد ولد آرون في كنف عائلة برجوازية يهودية فرنسية مندمجة كلياً ومتحررة من يهوديتها، بيد أنه وعى فجأة أصوله اليهودية. ومنذئذٍ، قرر أن يقدم نفسه على أنه يهودي، ولاحقاً، أسهمت حرب حزيران عام 1967، التي شكلت له صدمة من طبيعة مختلفة، تمتين روابطه ب"إسرائيل" التي لم يشتبه بها: حرب الأيام الستة، وهناك تلك المقولة الشهيرة للجنرال ديغول حول: "شعب الله المختار هذا، الواثق من نفسه، والمسيطر"، وقبل هذه المقولة، التهديد الذي كان جاثماً على الدولة اليهودية حسب وجهة نظره. آنذاك، كتب آرون في كتاب "ديغول، إسرائيل واليهود"، الصادر عن (بلون 1968"نما فينا شعور التضامن الذي لا يقاوم، لا يهم من أين يأتي، إذا تركت القوى العظمى(...)، تتحطم دولة إسرائيل الصغيرة التي ليست دولتي، هذه الجريمة البسيطة على الصعيد العالمي تخطف مني قوة الحياة".‏
عقب عودته من ألمانيا، في عام 1933، كان آرون مصدوماً من حادثة، ظاهرياً لا قيمة لها، فقد عبر له صديق عن القلق الذي انتابه من "عنف القومية الاشتراكية الذي بات يكتسح الشعب كله"، وطلب منه تحذير وكيل وزارة الخارجية الفرنسية. وبعد أن سمع منه هذا الأخير أجابه: "أنت الذي حدثتني كثيراً عن ألمانيا والمخاطر التي تلوح في الأفق، ماذا يمكن أن تفعل لو كنت في مكاني؟". انذهل آرون من الإجابة. واستخلص الدرس إلى الأبد". في مواجهة هتلر، الفلسفة لا تشكل وزناً"، والفكر السياسي لايقتصر على طرح الأسئلة فقط.‏
وبشكل موازي بدأت تظهر تباشير الطلاق بينه وبين "عائلته" من اليسار، ففي عام 1936، كان آرون دائماً "اشتراكياً بغموض"، و"بالقلب"، مع الجبهة الشعبية التي صوت لها، ولكنه انتقد في الوقت عينه لا معقولية برنامجها الاقتصادي. ويقول آرون: "إن شعوراً متناقضاً كان هو الذي يحدد دائماً شخصيتي وموقفي من الأحداث"، ففي حديثه لابنته دومينيك، يفسر لها آرون أن البرود الأسطوري، الذي نشأ معه فعلياً في تحولات عقد الثلاثينات من القرن الماضي، يترجم مجهوداً مستمراً ضد نفسه.‏
ولذلك أيضاً قاده ذلك الوضع ( ضد نفسه) إلى تجسيد القطيعة مع سارتر، والتقى الزميلان بعد الحرب، وكان آرون نشر أول كتاب كبير له"، "مدخل إلى فلسفة التاريخ"، (1938)، وعاد إلى لندن، والتحق بالجنرال ديغول-من دون أن يكون ديغولياً- وبدأ بكتابة مقالاته الصحافية. وفي باريس أصبح كاتب الافتتاحيات في صحيفة "المعركة" وأسهم مع سارتر وسيمون دي بوفوار، وأندريه مارلو في تأسيس "الأزمنة الحديثة" ثم ترك.‏
واشترك في تجربة وزارية قصيرة في ديوان مارلو، وانضم إلى صفوف تجمع شعب فرنسا، الذي كان يقاوم الشيوعية ودستور الجمهورية الرابعة، وفي 29 حزيران عام 1947، التزم بالعمل مع صحيفة لوفيغارو اليمينية كمعلق عن الأحداث السياسية، وظل يعمل فيها لمدة ثلاثين عاماً، قبل أن يلتحق بمجلة الإكسبريس الأسبوعية.‏
وكانت الحرب الباردة التي قسمت عالم المثقفين مصدر انفلاق بين آرون وسارتر. ونظر آرون إلى حقيقة الاتحاد السوفياتي بالمرونة المباشرة عينها التى توقع بها نتائج النازية. وساند آرون منظمة الحلف الأطلسي في إطار الصراع بين "المعسكرين": وكتب سارتر "كل المعادين للشيوعية هم كلاب"، في معرض تعليقه على حكم آرون عن بلد ستالين الذي اعتبره لا يطاق أخلاقياً.‏
بالنسبة لآرون كانت بداية الوحدة. فقد تم رفضه من قبل اليسار، وهو غير مفهوم من جانب قسم من اليمين المحافظ، المصدوم من التزام آرون منذ الساعات الأولى بمصلحة استقلال الجزائر، ولما كان في حالة ارتباك مع صحيفة الفيغارو، نشر في صحيفة لوموند، الأوراق الجيدة لتجربة ثورية بنقاء المأساة الجزائرية (1958 ).
وبين أفيون المثقفين (1955)، الذي حلل فيه أساطير مثقفي اليسار، والمأساة الجزائرية (1958)، أزعج ريمون آرون كل العالم في قليل من الوقت، فهو غير رجعي، وغير ثوري، لكنه إصلاحي، وكان قرن الإيديولوجيات موضوع دراسته. فهو يحلل التوتاليتارية، ويواجه الماركسية، وجرائم الثورات، ويفكر في الحرب، والاستراتيجية، وضرورة موازين القوى. وكان هذا الموقف غير مقبول في محيط ثقافي وجامعي مسيطر عليه من قبل الماركسية، وسلطة ألتوسير، ورمز سارتر.‏
ومع ذلك كان يتمتع بسلطة معنوية في قسم العلوم السياسية بجامعة السوربون، وفي مدرسة الدراسات العليا (قسم العلوم الاجتماعية)، قبل أن يدخل إلى الكوليج دو فرنسا عام 1970، وكانت جماعة من أتباعه الأوفياء تحضر منتداه في شارع تورنون، وهنا نجد جان كلود كاسانوفا، المؤسس المشترك مع آرون لمجلة "commentaire": تعليق: "بيار هاسنير، فرانسوا فوريت، دومينيك شنابير، آلان بيسانسون أو بيار مانيت، ومن ألمع المهاجرين من أوروبا الشرقية مثل فرانسوا فيجتو، بيار كيندي أو ألكسندر سمولار، وكلهم "آرونيون": ليسوا حاملين إيديولوجيا –فأستاذهم لم يكن كذلك –إنما كانوا يعملون من أجل فكرة معينة عن العدالة السياسية: "بدلاً من الانفعال، الحقيقة والدقة".‏
لم تكن مفاجأة الطلاب الباريسيين المستمعين كبيرة في عام 1970، عندما رنن آرون درسه الإفتتاحي في الكوليج دو فرنسا" من الشرط التاريخي لعلم الاجتماع". فقد سمح لعالم اجتماع فرنسا الأول بوجه خاص بشرعنة توجه، كان في أساس جوهر آثار كتاباته، مؤسس على أعمال عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، لا على أعمال إيميل دور كهايم، على الرغم من أن هذا الأخير كان مؤسس المدرسة الفرنسية لعلم الاجتماع، وبما أن آرون حاسم في هذه المسألة، فقد كان "حساساً لعلم اجتماع دور كهايم"، منتقداً هذا الأخير وأتباعه بسوء تقديرهم لدور السياسي، خاصة نضالات الأحزاب والصراعات الطبقية، اللذين عرفهما القرن العشرين، المطبوع بالتوتاليتارية.‏
أية سذاجة في أقوال إيميل دور كهايم الذي وصف الثورات السياسية بالأحداث السطحية والمسرحية لحوادث عابرة غير جديرة بلفتة انتباه علماء الاجتماع! لقد علمت تجارب آرون في ألمانيا شيئاً آخر، إذ جعلت منه "مشاهداً ملتزماً"، ومحللاً سياسياً بارداً، ولقد اختبر آرون قرابته الروحية مع فاكس فيبر، ميكيافيلي هايدلبرغ "الجاهز والوحيد"، الذي كان يتمتع بشجاعة قل نظيرها في التحليل برؤية ثاقبة "لخيبة أمل" العالم.‏
لقد شكلت أحداث أيار 1968 نقطة الأوج في المواجهة مع اليسار، وكان آرون مغتاظاً جداً من موت الجامعة وتفكك الدولة، وشجب الثورة الطلابية التي أصبح عدوها اللدود، وكان أحد طلابه القدامى، الذي كان قائداً لحركة مايو 68، الفيلسوف أندريه غلوكسمان، قد تجنب كرهه، عندما ذهب يتفاوض مع بعض الثوريين المسلحين بقارورات البنزين، والذين قرروا "حرق منتدى آرون" في شارع تورنون.‏
وكان أحد طلابه الأوفياء جان كلود كاسانوفا، اعترف على مضض: "أن آرون لم يفهم مايو 68"، هذه هي حدوده. "إنه مرتاح عندما يحلل المسائل السياسية، والاقتصادية، والدبلوماسية والاستراتيجية. لكنه يكون أقل ارتياحاَ حين يتعلق الأمر بأزمة اجتماعية، تتطلب التحليل وفق محددات الأجيال والثقافة". ويقول أحد قادة ثورة 68 دانيال كوهن بنديت: "لم يفهم آرون هذه القوة التحررية والإرادوية، الضرورية للسياسة. ولكن حول مايو 68، لامس آرون أشياء حقيقية، تتعلق بالتيارات التوليتارية داخل الحركة. وكان الدفاع عن الديمقراطية المتعلقة بالمؤسسات، التي انبثقت لاحقاً، مرتبطة بفكر آرون".‏
وبدأت المناهضة للتوتاليتارية تسيطر تدريجياً على اليسار، وجاء صدور كتاب المنشق السوفياتي ألكسندر سولجنستين، أرخبيل الغولاغ، في عام 1974، ليجعل تحاليل ريمون آرون حول إيديولوجيات القرن، طبيعية، وكان آرون أوضح لابنته دومينيك شنابير، مايلي: "لقد قلتها، ولكن هل يجب إعادة قولها بطريقة أخرى. على الجيل الجديد أن يبلورها، بكلماته الخاصة به".‏
وكان يجب انتظار بعض الوقت لإمكانية التلاقي مجدداً مع صديقه الصغير بولو، واستنفر مثقفون من اليسار لنجدة قوارب المهاجرين الفيتناميين الفارين من المعتقلات. وفي 26 يونيو عام 1979، ذهبوا إلى البحث عن سارتر وآرون، المتنافرين، لكي يدافعا عن قضية الفيتناميين في قصر الإليزيه. ولم يتمنع أي منهما عن تلبية الطلب، ويتذكر أندريه غلوكسمان: "أن آرون كان متأثراً أكثر من سارتر، واستقبل بحفاوة أكبر، أما سارتر الذي كان فاقد البصر لم يعط أهمية كبيرة للقاء".‏
لقد طالب الرئيس فاليري جيسكار ديستان بمنح 3000 تأشيرة، ويذكر غلوكسمان أنه بعد أن أدمعت عيناه، منح هذا الأخير 1000 تأشيرة، وبعد هذا اللقاء غادر سارتر وآرون القصر جنباً إلى جنب مثلما جاءا. إن استعادة هذا الشعور بضرورة التحرك في مواجهة ارتجاج العالم الذي وحدهما في بداية الأزمنة الحديثة. كان سارتر ساخطاً. بينما حلل آرون القضية بجملة: "لقد نسوا أن التاريخ هو تراجيديا".‏
لقد شهد ريمون آرون مرحلة نشر مذكراته في سبتمبر عام 1983، قبل أن يموت بشهر واحد، وقبل ست سنوات من سقوط جدار برلين تقول ابنته دومينيك شنابير: "إنها حسرتي. لقد كان يستحق أن يرى سقوط الجدار، وهو الذي آمن بالحرية الإنسانية".‏
إن ريمون آرون، عالم الاجتماع والفيلسوف، والمترجم، وكاتب الافتتاحيات، هو قبل كل شيء أستاذ كبير للمرونة. وفي هذه الذكرى المئوية الأولى لولادته هناك كثيرون يكتشفون أو يعيدون اكتشاف نوعية تحليلاته، والقدرة التي يتوصل بها إلى التجريد من المعارك الثانوية لتحديد الرهانات الكبيرة. ففي مواجهته للهذيان الإيديولوجي الذي اجتاح القرن العشرين، من القومية-الاشتراكية الغازية، إلى الشيوعية المنتصرة، كان آرون من بين المثقفين الفرنسيين النادرين –الوارث بإنصاف لمونتسكيو وطوكافيل-الذي لم يخضع للإنزلاقات الحزبية، وحافظ على رؤية باردة.‏
ولأن آرون درس الفلسفة وعلم الاجتماع في ألمانيا في الثلاثينيات من القرن الماضي، فقد قدر نتائج فساد النظام الهتلري مبكراً. ولأنه قرأ ودرس بتمعن أطروحات كارل ماركس في الرأسمال، فقد تخلص من القداسة الماركسية قبل الأوان، ولأنه التحق بالجنرال ديغول بلندن في خضم الحرب، فقد أحب المقاومة، إن لم نقل الديغولية، وكان شغله الشاغل بالحرية وضماناتها يقوده، إلى أن تتجاوز رؤيته بكثير التناقض التقليدي بين اليمين واليسار، بين الرجعية والثورة. إنه يحمل في نفسه فكرة الإصلاح، إلى درجة أنه أرعب أصدقاءه، كما في نهاية الخمسينات 1950، عندما أصبح يطالب باستقلال الجزائر في حين كان اليسار في ذلك الوقت لم يتحرر بعد من الغل الثقافي الكولونيالي.‏
كانت قوة آرون في قلمه، إنه قلم باحث مستنير، ومبسط منقطع النظير، لكاتب افتتاحيات محترم. إننا ننتقده، ونغطي ذلك بالتهكم، لكننا نقرأه. وهو يتوصل في المحصلة النهائية إلى تلقيح جماعة من المثقفين الشبان ضد الأفكار المتسرعة المحبذة للشيوعية، في الوقت الذي كانت فيه الجماعة خاضعة لسيطرة الماركسية. ولما كان آرون مرهقاً بسبب مواقفه وسباحته ضد التيار، فقد عمل لإزالة الانسمام من العقول.‏
ولم يكن تشاؤمه نوعاً من القدرية، إذ إن بروده الظاهري لم يكن يعدل تهكمه، وكان متلهفاً للتقرب إلى أقرب نقطة من قلب الواقع. فقد كان دائماً يحب القول: "بدلاً من الانفعال، الحقيقة والدقة"، وأصبح هذا نوعاً من الحكمة الشخصية. وهكذا، كان آرون "مشاهداً ملتزماً" في القرن العشرين.‏
ولكن قد ينقصنا الجوهري، إذا لم نشدد على ماهو باق راهن عند آرون، فمن خلال التفكير في الاستراتيجية العسكرية والردع النووي، وعبر إصراره على أولوية السياسي، من خلال التذكير بالتراجيديا في التاريخ، جمع هذا الفيلسوف بطريقة استباقية عناصر التفكير لمرحلة مابعد 11 سبتمبر مع بداية القرن الواحد والعشرين.‏
عند ملتقى فلسفة الأنوار، المرتبطة عضوياً بفكرة معينة عن العقل، بالمعنى الإدراكي لكانط، والتقاليد الليبرالية الفرنسية المنبثقة عن مونتسكيو وكوندورسي، وتوكافيل، وإيلي هاليفي، مع الفلسفة الألمانية للتاريخ الممثلة بماكس فيبر، يظل آرون المؤرخ لقرن الإيديولوجيات والحروب الكبيرة المتولدة عنه، الذي لا مثيل له، إذ ظهر كشخصية كبيرة في المعركة بين الديمقراطية والتوتاليتاريات.‏
وتكمن أصالة آرون في العلاقة الحميمية بين المرونة في التحاليل، وعدالة الحكم، ومسؤولية الإلتزام، الناجمة عن مفهومه للإنسان الفاتح لحريته بوساطة مجهود مستمر لفهم التاريخ والتأثير فيه، والموضحة في أطروحته. وقد سمحت له هذه المزاوجة بين التفكير والفعل في آن معاً بالتأمل في الإنقلابات الكبيرة التي شهدها القرن العشرين، وانتحار الحضارة الليبرالية لأوروبا عن طريق الحرب الكبيرة ونزع الكولونيالية مروراً بصعود النازية والحرب الباردة، مع التموقع على نسق واحد في الوقت عينه، في معسكر الحرية السياسية، الذي شكل له قيمة عليا.‏
القدر لم يسعف آرون لكي يشاهد سقوط جدار برلين وانهيار الشيوعية، لكن التفكير التاريخي والسياسي لآرون، ووعيه الحاد بالشرط التاريخي للإنسان، وحدود الموضوعية والمعرفة، وقابلية الديمقراطيات للإنجراح، جعلته يرسم الخطوط العريضة للقرن الواحد والعشرين منذ عام 1960 في محاضرة مخصصة "لفجر التاريخ الكوني"، المفهوم كولادة لمجتمع إنساني يعيش تاريخاً واحداً.‏
وليس ديالكتيك العولمة، الموجودة في مبدأ القرن الواحد والعشرين، الممزق بين جاذبية الاقتصاد المفتوح وانتشار العنف المسلح، سوى هذا الانبثاق لمجتمع –عالم، حيث يختلط فيه الوعي بالارتباطات المتبادلة والانتماء إلى إنسانية عينها مع احتداد المطالب المتعلقة بالهويات.‏
وبعد عقد التسعينات المجنون، الذي توقع فيه دعاة الليبرالية الأمريكية المنتصرة نهاية التاريخ، والدورات الاقتصادية والعمل، هاهو القرن الحادي والعشرين يسجل العودة التراجيدية للواقع التاريخي، أي للأزمات، والحروب، والثورات، التي تشكل النسيج الأساسي لمغامرة الرجال، وبالتالي العودة إلى السياسة. ويطرح علينا هذا الوضع محاولة التفكير في آن معاً، في التحولات الكبيرة والجديدة للديمقراطية وللرأسمالية المتعينة حالياً، والمؤسسات والقواعد للسيطرة على مجرى الأحداث درءاً للمخاطر.‏
وإذا كانت بنيات النظام العالمي ثنائي القطبية قد اختفت بكل تأكيد، إلا أن طريقة آرون تظل راهنية. ذلك أن تسارع وتيرة الأحداث منذ 11 سبتمبر 2001، أجبرت الديمقراطيات على طرح الأسئلة الجوهرية التي بحث آرون في إضاءتها طيلة: حياته: التناقضات بين الحرية الحديثة، الممزقة بين عقلانية مشروطة دائماً بتقنيات، وسلوكيات، ومؤسسات، من جهة، وتفجر الانفعالات الجماعية، والارتداد إلى المشاعر المتعلقة بالهويات من جهة أخرى. وبين تناقضات الديمقراطيات، المنقسمة بين صعود النزعة الفردية وتذرر الجسم الاجتماعي من ناحية، والرغبة في المساواة والحاجة إلى التضامن من ناحية أخرى. والتناقضات بين صعوبة تمفصل مختلف مستويات المواطنية وبالتالي الشعور بالانتماء على الصعيد المحلي، والوطني، والقاري بل العالمي، ونمط تنظيم الرأسمالية العالمية، آخذين بعين الاعتبار الإخفاق المزدوج للاقتصاديات المرعية أو الأنظمة الحرفية ونموذج التنظيم الذاتي للأسواق، وبين الاختيار الرئيسي للحرب أو السلم، المفروض من قبل دورة مسلسل النزاعات التي فجرتها أحداث 11 سبتمبر، التي قسمت ديمقراطيات أوروبا، وفرضت إعادة تعريف استراتيجية الإندماج لمكافحة ما يسمى الإرهاب.‏
إن الليبرالية السياسية التي كان آرون ممثلها الأكبر في فرنسا في القرن العشرين، تبقى مفتاح المستقبل للديمقراطيات. فالنتيجة التي توصل إليها آرون في كتابه "أفيون المثقفين" لم تفقد شيئاً من حدتها: "الحرية هي جوهر الثقافة الغربية، وأساس نجاحها، وسر توسعها وتأثيرها"، هذه الحرية هي هشة لأنها ترتكز فقط على الإرادة والشجاعة للرجال، وعلى طرد لكل مبدأ متعال ومعقد، ولأنها مجسدة مادياً من خلال نسيج من القواعد المجردة.‏
وإذا كان آرون لم يترك خلفه أية نظرية، وبشكل أقل دوغما، إلا أنه ترك لأتباعه وطلابه، طريقة تركز على الصرامة و الدقة. إن شخصية آرون الرزينة والثرية تظل حاضرة على الساحة الثقافية الفرنسية. ثم إن إرث آرون، هو عقلية تكمن في إرادة الفهم قبل الحكم، وفي التفكير في العالم كما هو لا كما نحلم به، وإرث آرون أيضاً هو العنوان الثقافي الذي يمر عبر احترام الوقائع والنزاهة في النقاشات. فالموقف يمزج بلا فكاك بين العالم والمجاهد من أجل الحرية السياسية، التي: "تساهم في جعل الرجال جديرين بها، وتجعل منهم مواطنين، لا امتثاليين، ولا متمردين، بل نقديين ومسؤولين".‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.