كلما تحدثت للناس في الشارع أو في المقهى أو في المكتب، وكلما جالستهم من كل المستويات وفي كل الأماكن في المدن والأرياف هذه الأيام إلا وكان موضوع ارتفاع الأسعار حاضرا بقوة. الكل يشكو من هذا الارتفاع الذي شمل كل شيء تقريبا : المحروقات ومواد الطاقة ، المنتوجات الفلاحية من حبوب وأعلاف وخضر وغلال وأسماك، مواد البناء والأراضي المعدة للسكن والمساكن الجاهزة، الملابس والأحذية التي لم تتأثر بشهر التسوق إلى آخر القائمة من المواد والخدمات التي يستهلكها المواطن وخاصة الشرائح الفقيرة والمتوسطة. المعهد الوطني للإحصاء قدر نسبة الزيادة في مؤشر الأسعار منذ بداية سنة 2008 ب5.7 في المائة وهو أعلى مستوى منذ 6 سنوات تقريبا. وقد سجلت المواد الغذائية ارتفاع بنسبة 9 في المائة على سبيل المثال أما مواد الطاقة فكانت الزيادة ب8.1 في المائة وفق ما نشره المعهد. جريدة الشرق القطرية نشرت ملخصا لدراسة أعدها "جورج عدّة" ذكر فيها أن الطبقة الوسطى في تونس فقدت 25 في المائة من مقدرتها الشرائية على امتداد 24 سنة أي من 1983 إلى 2007 رغم أن الأجر الأدنى للعامل قد سجل زيادة 27 مرة خلال نفس الفترة. وقد أرجع الباحث ذلك إلى عدد من الأسباب أهمها عدم التكافؤ بين زيادة الأجور والأسعار. وخلصت الدراسة إلى أنّ المستهلك التونسي "أصبح غير قادر على الشراء لأنّه لم يعد لديه وفرة مالية تمكّنه من الاستهلاك، ذلك أنّ التجار الصغار أصبحوا على حافة الإفلاس من ذلك أنّ 10 آلاف صناعي صغير ومتوسّط ممن ينتجون للسوق الداخلية أصبحوا في حيرة واضطراب". موقع إيلاف تطرق بدوره إلى ارتفاع أسعار الأراضي المعدة للبناء والمساكن الجاهزة فذكر أن سعر المتر المربع قد قفز من 300 دولار السنة الماضية بمدينة الحمامات إلى أكثر من 600 دولار هذه السنة. كما قدر الثمن الأدنى للمساكن ب800 دينارا للمتر أي ما يعادل 80 ألف دينارا لمساحة 100 مربع. وأكد معد التقرير على ارتفاع أسعار مواد البناء وأشار إلى تراجع السكن الاجتماعي وتطرق إلى الصعوبات الجمة للحصول على سكن. إنّ موجة ارتفاع الأسعار حديث كل الناس وكل الأوساط ونحن على أبواب مفاوضات اجتماعية لتعديل الأجور. وممثلو الأجراء سيحاولون التركيز على تدهور المقدرة الشرائية للأجراء طيلة الفترة السابقة مع التذكير بما يسجله الاقتصاد التونسي من نسب نمو محترمة وفق البيانات الرسمية وهو نتاج مجهود مشترك لكل الأطراف ومن العدل أن يتمتع الكل بمردود النمو. الأطراف الأخرى بما فيها الحكومة ستركز على الصعوبات التي يمر بها الوضع الاقتصادي وما تشهده الأسواق العالمية من اضطراب وارتفاع مشط وغير مسبوق لأسعار كل المواد الأولية. ومهما كانت التعديلات التي يقع الاتفاق عليها فإنها لا يمكن أن تعوض التدهور في الدخل والقدرة الشرائية كما أن المؤسسة التونسية والحكومة لا تستطيع أن تمنح، وفق التمشي الحالي والمعطيات الحالية،بدون حساب ولا ضابط. إن استمرار التعديل الدوري للأجور مع ترك تحرير الأسعار وربطها بالأسعار في السوق العالمية والبحث عن صيغ للتخلي عن سياسة التعويض وصندوق التعويض ليست بالخيار الأسلم للاقتصاد لأنها عنصر أساسي للتضخم. إنها بالمنطق الشعبي"زيد الماء زيد الدقيق" لا غير. إننا في حاجة للبحث عن آليات أخرى وأساليب أخرى أكثر واقعية وأكثر جدوى. ومع ذلك فإن التعديل إذا حصل لا يشمل إلا الأجراء، أما البقية ممن ليس لهم دخل على غرار صغار الفلاحين والتجار والصناعيين والحرفيين فإنهم يتحملون الزيادة في الأسعار بدون مقابل ثابت وحقيقي. إنهم يمثلون جزءا مهما من المجتمع. إنّ ارتفاع الأسعار حديث كل الناس وكل المجالس فالبعض يشكو العجز وقلة ذات اليد أمام متطلبات الحياة والبعض يتهم سياسة اقتصاد السوق ومجتمع الاستهلاك ويؤكد أن ما يجري هو إفراز طبيعي لهذه السياسة وللفرز الطبقي الذي ستنتجه والبعض الآخر يؤكد أننا مقبلون على مرحلة تقسيط في العديد من المواد باسم ترشيد الاستهلاك كما حصل إبان أزمة الحليب. أما الحكومة والجهات الرسمية فإنها تجد في ارتفاع الأسعار في السوق العالمية مادة لتبرير كل ما يحصل كما أنها تؤكد دائما على استمرار سياسة التعويض للكثير من المواد والخدمات مع إمكانية ترشيدها حتى يقوم التعويض بدوره. غير أن هذا الخطاب لم يعد يقنع الكثير من الناس الذين يتابعون من خلال الفضائيات ما حصل في مصر من أزمة خبز وغيره ويخافون تكرارها في أكثر من بلد عربي بما فيها تونس. لا أحد يشكك في ارتفاع الأسعار في السوق العالمية ولا أحد يشكك في أن الحكومة تعالج وضعا صعبا نسبيا ولكن على عاتقها تقع مسؤولية الحفاظ على السلم الاجتماعي من خلال الحفاظ على المقدرة الشرائية للمواطن. لا يمكن أن يستمر ارتفاع الأسعار الداخلية باسم ارتباطها بالسوق العالمية مع الحفاظ على السلم الاجتماعي لأن المواطن يمكن أن يتخلى عن كل حقوق المواطنة لكنه لا يقبل أن يكون كذلك إذا هدد بالجوع أو الفقر. إنها مرحلة صعبة ودقيقة لا يفيد معها الخطاب السياسي والشعبوي أحيانا تستوجب حلولا وخيارات صعبة وتضحيات جساما حتى لا يشعر الناس بأنهم مدفوعون للفقر. على الحكومة أن تبحث عن حلول وأن تضع سقوفا معقولة للأسعار الداخلية عند الاستهلاك لكي تتفادى ما لا يحمد عقباه ولكي تستعد للفترات الصعبة قبل فوات الأوان. الموضوع ليس خطابا سياسيا أجوف ولا وضعا يمكن ركوبه للمزايدة أو الهرسلة ولكنه موضوع مجتمعي يستوجب إعطاءه ما يستحق من أهمية ومواجهته مواجهة صحيحة بعيدة عن التقارير الأمنية والحزبية الضيقة. قيل قديما : كاد الفقر أن يكون كفرا. وكما قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه "لو كان الفقر رجلا لقتلته بسيفي". كل هذا للتدليل على خطورة الفقر الذي يدفع صاحبه للقيام بأي شيء فهو في منزلة الكفر بالله. والفقر في عصرنا وفي ظروفنا مرتبط بالقدرة الشرائية للمواطن أمام ارتفاع الأسعار. إن الأمر ليس أمر مؤشرات تصاغ في مكاتب مغلقة واعتمادا على معادلات نظرية جامدة... المصدر :