لا تعرف الأجيال العربية الشابة اليوم، بل والتي بلغت سن الكهولة أيضا، من الثورات سوي ثورات علي شاكلة ثورة آذار (مارس) في سورية وما يرتبط بها من حركات تصحيحية، هناك أيضا ثورة يوليو (تموز) في مصر وحركة مايو (ايار) التصحيحية، وثورات البعث العراقي، ولأن هذه الثورات هي في حقيقتها تحركات وانقلابات عسكرية أو انقلابات داخل القصور، رغم آثارها العميقة التي لا شك فيها علي المجتمع، فإنها قد عرفت بتواريخها فقط. ان الأنظمة التي تمخضت عن هذه الثورات (وسواها التي تشكلت في سياقات مشابهة في دول الاعتدال العربي الموالي صراحة لأمريكا ومن قبلها للاستعمار الأوروبي) تمكنت من شل الشعوب وسلبها حتي قدرتها علي الدفاع عن النفس وحتي صوتها المستقل أمام الحضور الأحادي للأنظمة. هناك أجيال لم تعرف عملا احتجاجيا واحدا طوال حياتها، رغم وفرة الأزمات في حياتها والقضايا الكفيلة بتفجير ثورة شاملة لا مجرد عمل احتجاجي بسيط.. هذه الأجيال العربية اعتبرت، طبقا لخطابات الأنظمة وإعلامها وقمعها المتعسف الهمجي عند الضرورة، أن الاحتجاج المباشر وبصوت عال إنما هو أقرب ما يكون إلي مغامرة محسومة العاقبة، ستتسبب بوقوع أسوأ النتائج علي هذا الإنسان المسكين. يقوم هذا الواقع أساسا علي حالة قمع شاملة أدت إلي خلق حالة من الرقابة الذاتية التي يمارسها الفرد ضد أي نوازع داخلية للثورة أو التمرد علي الوضع القائم.. يرتبط هذا الواقع أيضا بشبكة مؤسسات أمنية المضمون بيروقراطية الشكل والممارسة مهمتها الأساسية هي التأكد من التزام كل فرد من أعضائها بالسمع والطاعة والإبلاغ والتصرف السريع والمباشر عند أية بادرة احتجاج. هذا الوضع السائد من القمع والتدجين ينتج ويستفيد في نفس الوقت من حالة عامة من فقدان التضامن بين الناس ضحايا الاستغلال والاغتراب، ومن انتشار الانتهازية والانحطاط كشكل أساسي للحياة والبقاء في ظل الاستبداد والنهب السلطويين، إنه يخلق ويكرس، وفي نفس الوقت يستثمر، الريبة والكراهية بين الطوائف والأقليات والأكثرية (الدينية أو القومية وغير ذلك) لصالحه. وذلك ما يجعل القضية الأساسية أمام الجماهير هي توحيد قواها وتحشيدها بهدف استعادة زمام المبادرة التاريخية من الاستبداد ومواجهة تهميشها وتغييبها الكاملين.. المهمة الأساسية اليوم هي في تنظيم الشارع كقوة أساسية في مواجهة قمع واستغلال واستلاب واغتراب الأنظمة وكل قوي الاستبداد والاستغلال ولفرض مخرج لأزمات المجتمع يقوم علي مصالحها بالتحديد. هذا لا يعني ضرورة القيام بدعاية ضد أنظمة الاستبداد وسائر قوي الاستغلال الأخري الداخلية والخارجية فقط، بل وضرورة تدريب الناس علي المقاومة، وتأسيس شبكة مؤسسات موازية ديمقراطية البنية وفي نفس الوقت جماهيرية، بمعني أنها تعتمد علي التبادل الحر للأفكار ومناقشة السياسات بين أفرادها وعلي إجماعهم الطوعي الحر الذي يعبر عن مصالحهم كمجموعة وأفراد.. هذا التدريب علي المقاومة هو أساس النضال التحضيري الحالي الذي سيؤسس للثورات القادمة.. المطلوب هو استعادة مفردات الصراع الحقيقية، صراع الجماهير من أجل حقوقها وأهدافها في عالم أفضل، في مقابل مفردات الممارسة السلطوية ونظيرتها الأمريكية، مفردات السمع والطاعة والوحدة الوطنية الزائفة خلف الاستبداد أو عبارات التهليل لتغيير تحمله الطائرات والدبابات الأمريكية: الإضراب والعصيان المدني، الانتفاضة الشعبية، والثورة الشعبية في سبيل عالم أفضل. ہ كاتب من سورية