بعد أزمة الكلاسيكو.. هل سيتم جلب "عين الصقر" إلى الدوري الاسباني؟    آخر ملوك مصر يعود لقصره في الإسكندرية!    قرار جديد من القضاء بشأن بيكيه حول صفقة سعودية لاستضافة السوبر الإسباني    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    قيس سعيد يستقبل رئيس المجلس الوطني للجهات والأقاليم    قيس سعيد: الإخلاص للوطن ليس شعارا يُرفع والثورة ليست مجرّد ذكرى    ل 4 أشهر إضافية:تمديد الإيقاف التحفظي في حقّ وديع الجريء    جهّزوا مفاجآت للاحتلال: الفلسطينيون باقون في رفح    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    ماذا في لقاء رئيس الجمهورية بوزيرة الاقتصاد والتخطيط؟    أخبار النادي الصفاقسي .. الكوكي متفائل و10 لاعبين يتهدّدهم الابعاد    القبض على شخص يعمد الى نزع أدباشه والتجاهر بالفحش أمام أحد المبيتات الجامعية..    في معرض الكتاب .. «محمود الماطري رائد تونس الحديثة».. كتاب يكشف حقائق مغيبة من تاريخ الحركة الوطنية    تعزيز الشراكة مع النرويج    بداية من الغد: الخطوط التونسية تغير برنامج 16 رحلة من وإلى فرنسا    وفد من مجلس نواب الشعب يزور معرض تونس الدولي للكتاب    المرسى: القبض على مروج مخدرات بمحيط إحدى المدارس الإعدادية    منوبة: الاحتفاظ بأحد الأطراف الرئيسية الضالعة في أحداث الشغب بالمنيهلة والتضامن    دوري أبطال إفريقيا: الترجي في مواجهة لصنداونز الجنوب إفريقي ...التفاصيل    هذه كلفة إنجاز الربط الكهربائي مع إيطاليا    الليلة: طقس بارد مع تواصل الرياح القوية    انتخابات الجامعة: قبول قائمتي بن تقيّة والتلمساني ورفض قائمة جليّل    QNB تونس يحسّن مؤشرات آداءه خلال سنة 2023    اكتشاف آثار لأنفلونزا الطيور في حليب كامل الدسم بأمريكا    تسليم عقود تمويل المشاريع لفائدة 17 من الباعثين الشبان بالقيروان والمهدية    رئيس الحكومة يدعو الى متابعة نتائج مشاركة تونس في اجتماعات الربيع لسنة 2024    هذه الولاية الأمريكيّة تسمح للمعلمين بحمل الأسلحة!    الاغتصاب وتحويل وجهة فتاة من بين القضايا.. إيقاف شخص صادرة ضده أحكام بالسجن تفوق 21 سنة    فيديو صعود مواطنين للمترو عبر بلّور الباب المكسور: شركة نقل تونس توضّح    تراوحت بين 31 و26 ميلمتر : كميات هامة من الامطار خلال 24 ساعة الماضية    مركز النهوض بالصادرات ينظم بعثة أعمال إلى روسيا يومي 13 و14 جوان 2024    عاجل/ جيش الاحتلال يتأهّب لمهاجمة رفح قريبا    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    سيدي حسين: الاطاحة بمنحرف افتك دراجة نارية تحت التهديد    بنزرت: تفكيك شبكة مختصة في تنظيم عمليات الإبحار خلسة    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    ممثل تركي ينتقم : يشتري مدرسته و يهدمها لأنه تعرض للضرب داخل فصولها    باجة: وفاة كهل في حادث مرور    نابل: الكشف عن المتورطين في سرقة مؤسسة سياحية    اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية    عاجل/ هجوم جديد للحوثيين في البحر الأحمر..    أنس جابر تواجه السلوفاكية أنا كارولينا...متى و أين ؟    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل إلى النهائي رغم خسارته امام لاتسيو    المنستير: افتتاح الدورة السادسة لمهرجان تونس التراث بالمبيت الجامعي الإمام المازري    نحو المزيد تفعيل المنظومة الذكية للتصرف الآلي في ميناء رادس    فاطمة المسدي: 'إزالة مخيّمات المهاجرين الأفارقة ليست حلًّا للمشكل الحقيقي'    تحذير صارم من واشنطن إلى 'تيك توك': طلاق مع بكين أو الحظر!    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حول الحاجة إلي كتلة تاريخية مع إشارة خاصة إلي حالة العراق
نشر في الوسط التونسية يوم 01 - 01 - 2006

تواجه الأمة العربية شعوباً وأنظمةً سياسيةً، مأزقاً شاملاً، لم يعد التغيير فيه ممكناً علي الطريقة السابقة، أي علي طريقة الثورة الشعبية، أو طريقة الانقلاب العسكري. فتكاد تكون الثورة الإيرانية آخر أنماط الثورة الشعبية، بينما لم يكن ممكناً للانتفاضة الشعبية في إندونيسيا وهي حالة خاصة أن ترحّل الجنرال سوهارتو دون تحييد الجيش، ودون الدعم الأمريكي لهذا التحييد. ولكن ما يهمنا هنا الحديث عن الحالة العربية، إذ كانت الحركات الوطنية العربية أحد عوامل التسبب في الانقلابات العسكرية، بسبب قصر نفسها، واعتقادها أن اللجوء إلي مؤسسة الجيش بوصفها مؤسسةً وطنية مركزية، يمكن أن يختصر عملية التغيير. لكن الأنظمة العربية تبدو اليوم في الوضع الراهن، من دون إنكار تفاوت الحالة بين هذا القطر أو ذاك، وكأنها قد أخذت لقاحاً أو اكتسبت مناعةً ضد الأمراض الفتّاكة التي تهددها، أي بصورةٍ رئيسيةٍ ضد الحركات الشعبية وضد الانقلابات العسكرية علي حدٍ سواء. ويعود ذلك إلي أسباب عديدة، يأتي في مقدمتها توسع دور الدولة الاقتصادي، وتكريس السيطرة علي الإعلام، ومضاعفة حجم وقوة الأجهزة الأمنية... إلخ. وبالتالي بات من الصعب تصور قيام ثورة شعبية في الوطن العربي علي طريقة الثورة الإيرانية، بل حتي علي طريقة الحالة الإندونيسية الخاصة، التي لم تنجح لولا الدعم الخارجي الأمريكي لتحييد الجيش، وبالتالي نحن هنا إزاء دور العامل الخارجي.
ففيما يتعلق بالانقلابات العسكرية، ثبت أنه ليس كل ضابط انقلابي يرفع شعاراتٍ كبيرة هو عبد الناصر، بل هناك ملاحظات حتي علي تجربة عبد الناصر وما حصل لها بعد غيابه. ولكن علي الرغم من سوء أداء الأنظمة العربية، وفشلها علي المستوي القطري في تحقيق أي إنجاز حقيقي علي مستوي تحقيق الأهداف الوطنية، فإن مأزق الشعوب بات يكمن علي الأقل في أن الحل إما أن يأتي من الداخل أو يأتي من الخارج. وتجربة العراق تبين لنا نتائج الاستعانة أو الاعتماد علي العنصر الخارجي. فما هو البديل من الاعتماد علي هذا العامل؟
وإذا كانت تجربة موريتانيا الأخيرة تشير إلي حالة جديدة تتم عن طريق انقلاب عسكري يدير مرحلة انتقالية للانتقال إلي وضع ديمقراطي وينسحب بعدها من الحياة السياسية، فإن التجربة لا تزال في مراحلها الأولية الناجحة حتي الآن، إلا أنه من الصعب الحكم النهائي عليها كنموذج يمكن الاقتداء به قبل أن تنتهي المرحلة الانتقالية وتنتقل موريتانيا إلي وضع ديمقراطي سليم، وأن لا تنتكس كما حدث في حالة السودان والرئيس سوار الذهب. وبانتظار النتيجة النهائية للتجربة الموريتانية، فإنه لا يمكن إسقاط هذا النموذج للتغيير كلياً.
وهكذا فإن مأزق الشعوب العربية بات يكمن علي الأقل في أن الحل إما أن يأتي من الداخل أو يأتي من الخارج، بالاستعانة بقوي خارجية في عملية التغيير الداخلي. وتجربة العراق تبين لنا نتائج الاستعانة أو الاعتماد علي العنصر الخارجي. فما هو الحل البديل من الاعتماد علي هذا العامل الخارجي؟
تساعدنا تجربة نلسون مانديلا علي تصور هذا الحل. يروي مانديلا في مذكراته معاناة الأشغال الشاقة الحقيقية التي أمضاها علي مدي سبعة وعشرين عاماً في المعتقل. كانوا يذهبون يومياً منذ الصباح إلي الجبل لنحت الصخر في هذه العقوبة، لكنه توصل بعد ذلك وهو في هذه الظروف إلي نتيجة هي أنه ليس بإمكانهم القضاء علي حكومة التمييز العنصري، كما أن تلك الحكومة غير قادرة علي أن تقضي عليهم. وبالتالي لا بد من حوار واتفاق علي صيغة معينة، دون التنازل عن القضايا المبدئية. ونقرأ في مسيرته الطويلة، أنه بدأ بالكلام مع مدير السجن ثم مع موظفين من الدرجة الثانية والثالثة، إلي أن وصل إلي رئيس الوزراء كليرك الذي اقتنع هو أيضاً بوجهة النظر هذه، وأبرم معه الصفقة التاريخية، لكن من دون أي تنازل عن أي من الثوابت، ليصبح رئيساً للجمهورية، وينتهي النظام العنصري. وللمفارقة وقّع ياسر عرفات في العام نفسه ((1993 اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل مع تنازلات رئيسية في الثوابت. وحدث شيء من ذلك في أنظمة أمريكا اللاتينية التي كانت كلها قبل سنوات التسعينيات دكتاتورية، حيث تحولت أغلبيتها الساحقة من حكم الدبابة إلي حكم صندوق الاقتراع. وتم ذلك في معظم الحالات عبر صفقة تاريخية بين قوي المعارضة الوطنية وبين الأنظمة الحاكمة.
كما أن عملية التحرر الوطني من الاستعمار وتأسيس الدولة القطرية في الوطن العربي، بعد الحرب العالمية الأولي والثانية تحقق بفعل كتلة تاريخية جسّدها تداعي النخب التي اندفعت لعمل وطني شامل وامتزجت عبرها مراحل التحرر الوطني بمتطلبات البناء الاجتماعي.
حدث في بعض أقطار الوطن العربي شيء من هذه الصفقة، وربما كانت التجربة المغربية أكثرها وضوحاً من ناحية البداية، لكننا لا نستطيع الجزم بمستقبلها، بينما حدث تراجع في كل من البحرين والأردن عن مثل هذه البداية. كما تخوض موريتانيا تجربة جديدة، إذاً فكيف نتصور الحل؟ الثورة الشعبية غير ممكنة، والانقلاب العسكري غير مرغوب فيه وغير ممكن في وقت واحد.
وبالمقابل فإنني لا أعتقد أنه يمكن لأي تيار سياسي لوحده، سواء كان قومياً أو إسلامياً أو يسارياً أو ليبرالياً، أن يقوم بعملية التغيير، بسبب وطأة الأنظمة، وعدم قدرة كل تيار وحده علي إحداث عملية التغيير، وكذلك ضرورة عدم تكرار تجربة الصراع الداخلي واستنزافها في مرحلة الخمسينيات والستينيات بين بعض هذه التيارات، حول قضايا لا يمكن التوصل إلي حلها إلا علي المدي البعيد حيث كنا جميعاً، أي أبناء هذه التيارات، ضحايا لها.
ومن هنا تصبح الحاجة للقاء وتعاون هذه التيارات الوطنية الأربعة أكثر إلحاحاً في حالة احتلال أي قطر عربي، نتيجة الاستعانة بالخارج لإحداث التغيير المطلوب أو تعاون بعض القوي الداخلية مع الخارج لتحقيق أهداف خاصة به، مهما كانت الشعارات التي يطرحها. وينطبق ذلك عربياً، في الوقت الراهن، علي حالة العراق بشكل خاص، كما سنري فيما بعد، إذ يعجز أي تيار وطني لوحده عن إخراج الاحتلال وتحرير البلد ناهيك عن الانتقال إلي وضع ديمقراطي.
لم يعد خافياً علي أي مراقب محايد حجم الحملة التي تستهدف القومية العربية والإسلام معاً باعتبارهما إطارين للتوحيد والتواصل الحضاري في منطقة تمتلك حيوية استراتيجية فائقة بالنسبة إلي القوي الطامحة إلي الهيمنة علي مقدرات العالم اليوم. وإذا كانت هذه الحرب لم تتوقف يوماً واحداً، ومنذ قرون، ضد العروبة والإسلام إلا أنها تميزت في هذه المرحلة بأمرين بالغي الخطورة:
الأمر الأول: إنها تأخذ طابعاً بالغ الحدة والشراسة، علي المستويات الأمنية والعسكرية والسياسية والثقافية، حيث تجري باسم الحرب علي الإرهاب حرب استئصال جسدية وفكرية وتربوية ضد الأمة تصل إلي استهداف مباشر للعقيدة الدينية والهوية القومية.
الأمر الثاني: إنها تأخذ حالياً طابع الحرب المباشرة علي التيار القومي العربي والتيار الإسلامي في آن معاً، بعد أن سعت ولعقود خلت لاستخدام الصراع بين التيارين كإحدي الأدوات الرئيسية في حربها علي العروبة والإسلام.
وإذا كانت الشراسة التي تتسم بها هذه الحرب يمكن تفسيرها بمدي الصلابة التي تواجه بها الأمة مخططات أعدائها، وبعمق الروح الجهادية التي تتجلي في كل مواقع المقاومة في الأمة العربية والإسلامية، فإن مرد الاستهداف المزدوج للتيارين القومي العربي والإسلامي يعود إلي أن التيارين قد نجحا في السنوات الأخيرة، وتحديداً مع بداية التسعينيات، في بناء قدر من علاقة تفاعلية وتكاملية بينهما أدت إلي سد الكثير من الثغرات التي طالما نفذ منها أعداء العروبة والإسلام من أجل ضربهما معاً. ولقد وقف وراء هذا التطور الإيجابي في العلاقة بين التيارين الإدراك المشترك لقواهما ورموزهما الأبرز، للمخاطر الجسيمة التي تواجه الأمة، وللتطور الخطير في مستوي المجابهة مع الأعداء، ولا سيما حين بدأت بعض الدوائر الغربية، الفكرية والسياسية والثقافية، تعتبر صراحة أن الخطر القادم، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، هو ذلك المتمثل بالإسلام والعروبة، وتتصرف فعلاً علي هذا الأساس.
وقد واكب هذا التطور دخول إلي دائرة التيار القومي في عملية بدأت في النصف الأول من الستينيات وتعززت كرد علي الهجمة التي تعرضت لها الحقبة الناصرية في مصر، ولم يعد بين التيار القومي العربي و أية خلافات جوهرية تتعلق بالمستقبل، ولكنها، إن وجدت، تتعلق بالإرث التاريخي للتيارين وأحداث التصادم بينهما في الماضي، وهي عقد وترسبات لا يمكن شطبها مهما بُذل من جهد حولها، وكل ما يمكن عمله هو الاستفادة من عبرة تلك الخلافات للمستقبل.
كما ينطبق نفس الأمر علي التيار الليبرالي الوطني العروبي، بغض النظر عن حجم هذا التيار في العراق أو في غيره، طالما اشترك مع التيارات الثلاثة الأخري في رؤية مشتركة للمستقبل.
وقد عزّز هذا الإدراك أيضاً، مبادرات حثيثة قامت بها قوي ورموز قومية وإسلامية مستنيرة رفضت الصدام المفتعل بين العروبة والإسلام، مشددة علي أن الإسلام هو مكوّن رئيسي للمحتوي الحضاري والروحي للحركة القومية العربية، بما يجعل للإسلام موقعاً مميزاً لدي كل عربي، حتي لو كان غير مسلم، باعتباره يري في الإسلام حضارة له وثقافة وتاريخاً يعتز بهما، ومشددة كذلك علي أن لغة القرآن الكريم، وهوية الرسول العربي، وأغلبية رواد الدعوة الأوائل، تجعل للعروبة، كما للعربية، مكانة خاصة لدي كل مسلم، حتي لو كان غير عربي، ولا سيما أن معارك العرب ضد الغزاة هي معارك المسلمين كلهم، وأنهم بدفاعهم عن المقدسات إنما يدافعون عن مقدسات الأمة كلها، بالإضافة إلي مشاركة كل العرب وكل المسلمين في صياغة النسيج الحضاري للأمة.
وقد ارتبط هذا الاهتمام بقراءة مستقبلية للواقع العربي تمثل ب مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي الذي قام به مركز دراسات الوحدة العربية في أواسط الثمانينيات، ونشر تقريره العام في أواخر عام 1988 في كتاب صادر عن المركز بعنوان: مستقبل الأمة العربية: التحديات... والخيارات، حيث دعا المشروع في مشهد (سيناريو) الوحدة الاتحادية الذي اقترحه، إلي قيام حركة قومية جديدة تتفادي الأخطاء والرواسب التي علقت في أذهان الكثيرين، بحق أو بغير حق، حول الحركات القومية التي وصلت إلي السلطة في عدد من الأقطار العربية خلال العقود الخمسة السابقة. لذلك فإن الحركة القومية الجديدة لا بد أن تكون ديمقراطية في منطلقاتها الأيديولوجية وفي ممارساتها العملية قبل الوصول إلي السلطة، وبالقطع أثناء توليها السلطة. كما لا بد لها من أن تجد صيغة أكثر ملاءمة وتعاطفاً ووضوحاً مع المحتوي الحضاري للدين، وبخاصة الإسلام، كقوة حضارية أصيلة متعمقة في الوجدان الشعبي العربي، وأن تتبني المشروع الحضاري القومي العربي الذي دعا المشروع إلي إعداده، بمطالبه الستة المتمثلة في:
الوحدة العربية، في مواجهة التجزئة بكل صورها القطرية والطائفية والقبلية.
الديمقراطية، في مواجهة الاستبداد بكل صوره وأشكاله.
التنمية المستقبلية، في مواجهة التخلف أو النمو المشوّه والتابع.
العدالة الاجتماعية، في مواجهة الظلم والاستغلال بكل صوره ومستوياته.
الاستقلال الوطني والقومي، في مواجهة الهيمنة الأجنبية الإقليمية والدولية.
التجدد الحضاري، في مواجهة التجمد الذاتي من الداخل والمسخ الثقافي من الخارج.
كما أكد المشروع علي أن تكوّن هذه المطالب الستة في ما بينها مشروعاً قومياً، مترابطاً وعضوياً، ومتسقاً منطقياً، وملهماً جماهيرياً، وهو لا يصلح أساساً لإجماع عربي جديد فحسب، ولكن أيضاً كمخرج وحيد من حالة التردّي العربي التي عجزت كل الدول القطرية العربية عن الخروج منها. كما أكد المشروع علي أن تؤخذ مقترحات هذا المشروع الحضاري القومي العربي ككل، ومن دون مقايضات زائفة بين بعض توجهاته علي حساب البعض الآخر.
كما بيّن المشروع أنه لا بد من أن يقوم برنامج عمل وتحالفات هذه الحركة القومية الجديدة علي فهم لحقيقة قوي التغيير والتحول الحالية في الوطن العربي، من منطلق الإبداع في التعامل مع الحقيقة، وليس مجرد التسليم بالامتدادات الخطية لها. ومن هنا تأتي ضرورة الحوار الجاد مع فصائل القوي التقدمية العربية الأخري، وبخاصة مع ، التي حصلت لديها خلال الأربعين سنة الأخيرة تحولات مهمة وأساسية في قناعاتها ومواقفها، وبدرجات مختلفة، من القومية العربية والوحدة العربية. ولم يعد هذا الموضوع مجرد شعار تكتيكي لدي الكثير منها بقدر ما يمثل قناعات أملتها الخبرة التاريخية التي مرت بها. ومما يمكن أن يساعد في بدء نجاح هذا الحوار، هو أن يكون التركيز فيه علي تطلعات وأهداف المستقبل، حيث يتوافر اتفاق كبير حولها، أكثر مما يدور حول تقويم وتفسير أحداث الماضي، حيث هناك اختلافات شديدة حولها. كما أن نجاح هذا الحوار منوط بمدي اقتناع فصائل الحركة التقدمية العربية الأخري هذه بالديمقراطية ومتطلباتها؛ من تعددية سياسية، واحترام الرأي الآخر، وقبول التعايش والصراع السلمي الديمقراطي. ومن دون توفر جو حقيقي من هذه الثقة والاعتراف المتبادل بحقيقة الوجود وحق الاستمرار والتعبير عن الرأي، يصبح الحوار حتي إذا حصل مجرد هدف مرحلي لا يلبث أن تتخلي عنه الجماعات التي تتاح لها فرصة الوصول أو القرب من السلطة.
كما لا بد للحركة القومية الجديدة من أن تتفاعل وتتحاور مع القوي الثورية الإسلامية، كقوي اجتماعية، وكحقيقة موجودة، شرط أن يكون إطارها المرجعي عربياً، وأن تكون ديمقراطية، بما تتضمنه من إقرار للتعددية السياسية والاجتماعية، واحترام هذه التعددية، والتهيؤ للتعايش معها، حتي يمكنها أن تلعب دوراً إيجابياً في هذا المشهد، أي أن تتوجه بصوتها أصلاً إلي كل الوطن العربي، حتي إذا كان في مخططها البعيد أن تتجاوز هذا الإطار إلي ما هو أوسع، ذلك أن حركة إسلامية ثورية معادية للعروبة أو ذات توجهات خارج هذا الإطار، من شأنها أن تثير من الفرقة والانقسام الديني والطائفي والعرقي الشيء الكثير، حتي داخل مجتمع الدولة القطرية نفسه، ناهيك عن المخاوف والهواجس التي يمكن أن تنشأ في الأقطار المجاورة. وهذا يستبعد من الحوار بالضرورة الحركات الإسلامية المذهبية، وكذلك الحركات الدينية السرية التي تلجأ إلي العنف الإرهابي كوسيلة للوصول إلي السلطة، والحركات الدينية الفاشية في تنظيمها الداخلي أو في منطلقاتها في التعامل مع المجتمع ومع القوي السياسية الأخري.
الحوار القومي الديني
ولقد اكتسبت ندوة الحوار القومي الديني ، التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية عام 1989 التي عقدت في القاهرة، أهمية مضاعفة لا لمجرد كونها جمعت قوميين وإسلاميين في إطار تحاوري مثمر، ولا لأنها أتت بعد الحرب العراقية الإيرانية التي حاول الكثيرون تصويرها، عن جهل أو عن قصد، بأنها حرب بين العروبة والإسلام فقط، بل أيضاً لأن رموز كل تيار قاموا خلال الندوة بعملية نقد ذاتي للممارسات الخاطئة التي ارتكبها تيارهم ضد التيار الآخر، مما عزز الثقة بينهم وفتح الباب واسعاً أمام الرغبة المشتركة في الاستمرار في الحوار وترجمته في مؤسسات عمل مشترك أخذت تتشكل علي المستويين القومي وداخل كل قطر.
ولقد أتت توجهات المؤتمر القومي العربي الأول الذي انعقد في تونس عام 1990، لتستكمل هذا المنحي الحواري السليم عبر الدعوة إلي تأسيس مؤتمر قومي عربي إسلامي، فجري بمبادرة من المؤتمر تشكيل لجنة تحضيرية مشتركة من التيارين نجحت بعد ثلاث سنوات في عقد أول مؤتمر قومي إسلامي في بيروت في خريف عام 1994، ليتحول إلي مؤسسة دائمة للتحاور والتشاور والتفاعل والتلاقي حول برنامج سياسي وفكري محدد أقره المؤتمر، وكان أهم ما تضمنه هذا البرنامج ما يلي:
1 رفض التسويات المطروحة لإنهاء الصراع العربي الصهيوني.
2 دعم الانتفاضة المجاهدة في فلسطين والمقاومة الباسلة في لبنان.
3 رفض التطبيع مع العدو الصهيوني.
4 رفض الوجود الأجنبي وأشكال الهيمنة الأجنبية كافة.
5 متابعة النضال والجهاد والكفاح لتحقيق هدف الوحدة العربية، والعمل لإيجاد الحقائق الوحدوية علي أرض الواقع في وطننا العربي الكبير، بما ينعكس علي الحياة اليومية لأبناء أمتنا إقامة وتنقلاً وعملاً في نطاق التعبير عن مبدأ المواطنة العربية .
6 الدعوة إلي مصالحة عربية شاملة تبدأ بمصالحة بين الحكومات العربية وشعوبها، والانتقال مباشرة إلي تفعيل وإحياء مؤسسات العمل العربي المشترك.
7 المطالبة بالرفع الفوري للحصار (الذي كان مفروضاً حينذاك) علي العراق بشكل كامل وكلي.
8 التمسك بالوحدة الوطنية.
9 التأكيد علي حق كل القوي السياسية في مباشرة العمل العام في ظل الشرعية الدستورية، والمشروعية القانونية.
10 إدانة كل انتهاك للحريات وحقوق الإنسان.
11 طرح قضية المدنيين المحتجزين والمعتقلين الإداريين في السجون الإسرائيلية علي الرأي العام العالمي.
12 التأكيد علي خطورة سياسة الخصخصة، وكذا خطورة إنهاء دور الدولة في تأمين التنمية الداخلية، والخضوع لسياسة المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية.
13 العمل علي توثيق العلاقات بين الأمة العربية وشعوب الدائرة الحضارية العربية والإسلامية.
وبالإضافة إلي الاتفاق علي البرنامج السياسي الموحّد، عمل التياران علي استحداث مؤسسات العمل المشترك بينهما، وكان من أبرزها مؤسسة القدس التي ولدت إثر مؤتمر للقدس الذي انعقد في بيروت بعد عام ونيف علي انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية، وهي المؤسسة التي ضمت إلي المشاركين العرب من التيارين مشاركين من دول إسلامية غير عربية أيضاً.
ولقد ساهمت أمور ثلاثة في تعزيز هذا التوجّه: أولها، الاتفاق بين التيارين علي تبني المشروع الحضاري النهضوي العربي بعناصره الستة (الوحدة، الديمقراطية، الاستقلال الوطني القومي، العدالة الاجتماعية، التنمية المستقلة، التجدد الحضاري) واعتبار الالتزام بهذا المشروع شرطاً لعضوية المؤتمر.
أما الأمر الثاني، فكان تنامي الهجمة الأمريكية الصهيونية ضد الأمة بكل تياراتها، وخصوصاً في فلسطين والعراق، مروراً بالحرب علي أفغانستان، والتهديدات المتواصلة لسوريا ولبنان وإيران والعديد من الأقطار العربية والإسلامية، مما وفّر قاعدة عمل مشترك للتيارين تمثلت في هيئات التضامن مع الانتفاضة، ورفض الحصار والعدوان ضد العراق، وصون المقاومة في لبنان، ومقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني، ومقاطعة كل داعمي الكيان الصهيوني من دول ومؤسسات وأفراد.
والأمر الثالث أنه علي الرغم من أن التلاقي بين التيارين لم ينعكس دائماً، وفي كل الساحات، تعاوناً في الانتخابات التشريعية أو المحلية أو النقابية، لكن النتائج كانت تشير بوضوح إلي أنه حيث كان يتم مثل هذا الاتفاق كانت النتيجة تأتي كاسحة لمصلحة التيارين.
وأما بالنسبة للتيار اليساري العروبي، فقد جرت أكثر من محاولة لتنظيم حوار قومي يساري، وتبين أنه لا توجد خلافات فكرية أساسية بين التيارين، بعد أن تبني التيار القومي قضية العدالة الاجتماعية والديمقراطية، وبعد أن تبني معظم التيار اليساري، فكرياً علي الأقل، قضية العروبة والوحدة العربية والديمقراطية، وأن الخلافات التي لا تزال قائمة بينهما تتعلق بالماضي أكثر مما تتعلق بالحاضر والمستقبل وكذلك بالنسبة للنظر والمواقف من بعض التيارات الأخري خارج هذين التيارين. وتم الاتفاق بين بعض قيادات هذين التيارين علي أن يتم الحوار الفكري بينهما من خلال الإعداد ومناقشة وصياغة المشروع الحضاري النهضوي العربي وهو ما يتم فعلياً.
أما بالنسبة للتيار الليبرالي الوطني العربي، فقد حدثت تحولات في قطاع واسع من هذا التيار في اتجاه الاهتمام بقضية العدالة الاجتماعية وكذلك بموضوع التجدد الحضاري بدلاً من الاغتراب والاستلاب الثقافي والحضاري، وهو ما يجعل الحوار والتفاعل واللقاء مع تلك الأطراف من هذا التيار أمراً ممكناً.
لماذا الكتلة التاريخية
إن قيام الكتلة التاريخية بين التيارات الرئيسية في الأمة: التيار القومي العربي، والتيار الإسلامي العروبي، و، والتيار الليبرالي الوطني العروبي، والتي توصّل مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي إلي إدراك أهميتها، لم يعد في اللحظة الراهنة أحد الخيارات المتاحة أمام الأمة فقط، بل بات خيارها الوحيد لمواجهة الهجمة التي تستهدف وجودها وهويتها واستقلالها ومواردها في آن معاً.
فمسيرة التلاقي بين هذه التيارات ينبغي أن تستمر في كل اتجاه، وفي كل ساحة، وعلي كل مستوي، وفي كل إطار عمل، وفي كل انتخابات نيابية أو بلدية أو نقابية، لا كمجرد تعبير عن الإحساس المشترك بالمخاطر التي تواجه الأمة، بل أيضاً كتعبير عن مستوي النضج الذي وصلت إليه قيادات الأمة، ومفكروها، ومناضلوها بعد مسلسل التجارب المريرة التي مرت بالأمة، والتي كان الانقسام والتناحر بين قوي الأمة وتياراتها، بل داخل هذه القوي والتيارات نفسها، هما العنوانين البارزين والسببين المباشرين لتلك النكسات.
واليوم، وأكثر من أي وقت مضي، فإننا نقترب من تحقيق مهمات التحرير والتغيير والتطوير في الأمة بقدر ما نتقدم علي طريق توحيد تيارات الأمة وطاقاتها.
إن الطريق إلي تعميق التحالف بين هذه التيارات، وهذا ما تستدعيه كثيراً اللحظة الراهنة، يستدعي التذكير بالمهام المرحلية التي أقرها المؤتمر القومي الإسلامي الأول وقطع شوطاً في تنفيذ بعضها، وتعثر تنفيذ البعض الآخر، وهي مهام يمكن الاستفادة منها والعمل من أجلها في إطار التيارات الأربعة:
فعلي صعيد التفاعل الفكري:
1 السعي إلي تنظيم سلسلة من الندوات والحوارات علي المستوي القومي بين هذه الأطراف حول القضايا الفكرية التي تهمهما، وفي مقدمتها صياغة المشروع النهضوي العربي بجميع أبعاده الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية، بما في ذلك مواضيع العلمانية و تطبيق الشريعة ، ويعد مركز دراسات الوحدة العربية ندوة فكرية لمواصلة الحوار الفكري بين هذه التيارات خلال خريف عام 2007، في مصر أو لبنان.
2 السعي إلي تنظيم حوارات علي المستوي القطري بين هذه التيارات الأربعة للخروج بتصورات مشتركة منبثقة من حاجات المواجهة للتحديات المطروحة في كل قطر.
3 بذل كل الجهود للارتقاء بمستوي الخطاب، خاصة في أجهزة الإعلام، بما يساعد علي دفع الحوار وإثرائه، وتركيزه علي القضايا والمصالح الأساسية للأمة مع العمل علي فتح المنابر الإعلامية المتوافرة للأطراف المختلفة وحتي توحيدها، جزئياً أو كلياً، من أجل الإسهام في مزيد من التفاعل الفكري بينها.
كما يمكن الاستفادة من توصيات ذلك المؤتمر علي صعيد العمل السياسي.
وعلي الرغم من أن تطورات هامة حصلت علي مدي العقد الفاصل بيننا اليوم وبين إقرار تلك المهام، ولا سيما في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق وما يتطلبه من رفع وتيرة المقاومة، بكل أشكالها ومستوياتها، ضده، بما في ذلك رفض التعامل مع الاحتلال وكل إفرازاته ونتائجه وتداعياته، وإنجاز مصالحة تاريخية داخل المجتمع العراقي، وتكريس الديمقراطية والتعددية كمرجعية للعلاقات بين العراقيين، إلا أن هذه المهام الفكرية والسياسية ما زالت صالحة حتي الآن لتشكل برنامج العمل الفاعل لتطوير العلاقة بين هذه التيارات وتطويرها، ونقلها من القوي القيادية والنخبوية إلي مستوي القواعد الشعبية والشبابية بشكل خاص.
ہ ہ ہ
لا شك في أن الحد من حجم الخسائر التي نجمت عن إطلاق المشروع الأمريكي علي المنطقة العربية وجوارها الإسلامي، لن يكون ممكناً إلا بالارتقاء بأساليب الممانعة والرفض بين أطراف الأمة كافةً، وتركيزها في برنامج عملي مشترك. لكن هذا لا ينفي الحاجة إلي حوار عميق بين تيارات الأمة، وصولاً إلي استيلاد كتلة تاريخية، هو مما تفرضه أوضاعنا الذاتية. فإذا ما تبصرنا في تاريخنا الحديث في القرن الماضي علي الأقل، فإننا نلحظ أنه تاريخ تعاقُب نخب علي السلطة السياسية أو علي السلطة المعنوية المتعلقة بسلطة الإنتاج الفكري والثقافي للأفكار الكبري. ولقد استهلكنا في هذا التاريخ أربعة أنواع من النخب: نخبة ليبرالية خاصة في مرحلة ما بين الحربين، ونخبة قومية بدءاً من مطالع الخمسينيات، ثم نخبة يسارية ماركسية بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967، ثم نخبة إسلامية أخذت زخماً واندفاعةً كبري بعد قيام الثورة الإيرانية.
في كل حقبة من هذه الحقب، هيمنت فكرة محورية أو أساسية بالمعني الغرامشي لمفهوم الهيمنة (Hegemony). وكان لها الغلبة بوسائط السياسة أو بوسائط الفكر. في الحقبة الليبرالية كانت قضية الديمقراطية أو المشاركة أو المؤسسات أو الدستور أو الحزبية أو التعددية أو غيرها هي الفكرة المهيمنة، ولم تكن النخبة الليبرالية يومئذ معنيةً بمسائل الوحدة العربية أو العدالة الاجتماعية، وأعقبت ذلك لحظة ثانية هيمن فيها الخطاب القومي الذي سيدخل مفهوم الوحدة العربية في المجال التداولي، وأحياناً مقترناً كما في التعبير الناصري بمفهوم التنمية الوطنية المستقلة وما في جواره، كالتحرر الوطني والاستقلال القومي.. وغيرهما. استبعدت في هذه المرحلة شعارات نهضوية كبري دشنت منذ زمن الإصلاحيين الاجتهاديين، كان من أهمها قضية الديمقراطية، التي برر تغييبها بفساد الأحزاب في المرحلة الليبرالية وتشتيتها للأمة، وضرورة رص الصفوف في مواجهة العدو الصهيوني والاستعمار. ثم تكرر ذلك مع صعود اليسار بعد هزيمة حزيران/يونيو 1967، حيث أنتج قراءة عدمية لكل التراث الذي سبقه، منطلقاً من فرضية قوامها بأن المفتاح السحري للتاريخ لحل قضايا الأمة يكون بالاشتراكية، ثم جاء التيار الإسلامي فغلّب صون الهوية الحضارية للأمة في وجه المسخ والتبديد.
في كل مرحلة من هذه المراحل الأربع، كان كل تيار يحسب نفسه صاحب فكرة صحيحة ووحيدة، وكان ثمن هذه الرؤية هو إقصاء الآخرين، وترجمة ذلك سياسياً بالاحتراب ما بين هذه التيارات. أعتقد في ضوء المراجعات الكبري، والتي كان لمركز دراسات الوحدة العربية دور كبير فيها، أن الحاجة قد باتت ماسة لإعادة النظر بهذا التاريخ الثقافي-السياسي العصبوي، المنغلق والمتنابذ. لا يمكن القول إن كل نخبة من هذه النخب كانت علي خطأ، لكنها علي صواب فقط في ما إذا اجتمعت وليس إذا ما تفرقت. وهكذا لم نحقق الديمقراطية ولا التنمية ولا الوحدة القومية ولا العدالة الاجتماعية، ولم نصن شخصية الأمة من التبديد والمسخ الثقافي. مع ذلك، لا نستطيع حذف أية مرحلة من تلك المراحل، لكن ما نحتاج إليه هو خطاب تاريخي تركيبي يعيد تأليف اللحظات الفكرية التي عبرت عنها في خطابٍ واحد، تجمع عليه كل قوي الأمة. هذا الخطاب التاريخي هو ما نسميه بالخطاب النهضوي الجديد، الذي تتجاور فيه الديمقراطية والتنمية والوحدة والاستقلال الوطني والقومي والتجدد الحضاري والعدالة الاجتماعية، وغير ذلك، ولا تتنابذ.
ملاحظة:
أرجو أن يكون واضحاً أن معد هذه الورقة لا يهدف إلي أن يكون عضواً في التحالف المقترح في العراق، ولا يستطيع أن يكون كذلك. فمنذ مجيئه إلي بيروت مكرهاً في صيف عام 1974، وبعد رياضة نفسية للفترة التي مرّت منذ عام 1960 حتي عام 1974، اتخذ قراراً بالتفرغ للعمل الفكري والابتعاد عن السلطة في العراق، وأنه لا يزال مقتنعاً بصواب ذلك القرار وملتزما به. وإضافة إلي ذلك، فإن النظام الأساسي والداخلي لمركز دراسات الوحدة العربية وبيان تأسيسه يؤكد علي أن المركز ليس حزباً ولا يهدف لأن يكون حزباً وأنه ممنوع علي جميع العاملين فيه العمل الحزبي حرصاً علي استقلالية المركز، وأن مصير هذا الاقتراح متروك للعراقيين الوطنيين المستقلين حالياً.
ہ تمت الاستفادة في إعداد هذه المقالة من ورقة العمل التي سبق أن قدمتها إلي الحلقة النقاشية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية حول الحاجة إلي كتلة تاريخية للأمة العربية وبعض المناقشات التي دارت فيها، والتي نشرت في المستقبل العربي ، العدد 300، شباط (فبراير) 2004، ص ص 91 127.
الآراء الواردة في هذه المقالة تمثل وجهة نظر الكاتب، ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر مركز دراسات الوحدة العربية. وستنشر هذه الدراسة في عدد شباط (فبراير) 2007 من المستقبل العربي .
ہ ہ مدير مركز دراسات الوحدة العربية بيروت


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.