عقد أعضاء المؤتمر من أجل الجمهورية عدة اجتماعات خلال هذا الشهر، داخل تونس وخارجها، لتحليل الوضع السياسي في بلادنا ومراجعة الحصيلة وتقييم الأداء وبحث مستقبل الحزب وإقرار إستراتيجيته المستقبلية، فكان الاتفاق على ما يلي : تعيش تونس أزمة غير مسبوقة تمسّ كل القطاعات دون استثناء ، فالمجتمع في أزمة خانقة حيث يشهد انتشار حالة الإحباط وفقدان المعنى في مجتمع تتلظى غالبيته الساحقة بلهيب الديون وغلاء الأسعار والفساد والبطالة وتردي خدمات الصحة والتعليم، كل هذا في ظل جوّ خانق رأسه حكم البوليس المبني على الترويع والإذلال وعموده الفقري بيروقراطية إدارية قائمة على الوصولية والفساد وسوء الأخلاق. حقائق موضوعية، تحاول السلطة إخفاء معطياتها بمنع الدراسات الموضوعية والمستقلة ، لكن لها أكثر من مؤشرات تعمي الأبصار، منها ملاحظة الكثيرين لتزايد حالات الإجرام والانتحار ورغبة عارمة في الهجرة إلى أوروبا، حتى لدى أبناء الطبقة الميسورة، تأمينا للمستقبل من آفات الجوع والفقر والحرمان ومصادرة الأملاك، التي أصبحت الشبح المرعب لكل التونسيين. وعلى مستوى المعارضة، وبالرغم من أن أحزاب سياسية وجمعيات حقوقية وهيئات نقابية وشخصيات وطنية، قدّمت التضحيات الجسام وساهمت في إعلاء صوت الرفض، فإنه ينبغي علينا كمعارضة الاعتراف جميعا بتقصيرنا في الاضطلاع بدورنا الوطني على أكمل وجه، حيث لا نزال عاجزين عن التقدم للمجتمع كبديل جدّي، وغير قادرين على تحويل صمودنا الموحد إلى قوة تغييرية متجانسة لها من الإرادة والثقل والإمكانيات ما يخولها فرض التغيير الديمقراطي أو إصلاحات جدية على سلطة متعنتة ومستقوية على شعبها بالدعم الخارجي. والمؤتمر من أجل الجمهورية، بما هو جزء من هذه المعارضة، في أزمة حيث يبدو خطابه كأنه في قطيعة تامة مع خطاب الساحة السياسية وفي عزلة عنها ، أو سابقا لأوانه، ومن ثمة عدم تجاوب شارع ما زال مصرا على ترقبه الصامت ورصده الحذر للأحداث. إن كانت أزمة المجتمع والمعارضة وحزب المؤتمر حقيقية ، فلا يخطئ أحد في تقدير عمق أزمة نظام نزف من كل هيبة ومصداقية وشرعية ويتعامل بارتباك متزايد مع جبهات متعددة ومفتوحة في نفس الوقت. كذلك بالنسبة لدولة بصدد التحلّل البطيء بعد أن اصبحت مهمة جهاز الأمن حماية الفساد ومتابعة نخب البلاد وتأبيد الاستبداد، ومهمةجهاز القضاء التنكيل بالمعارضين والتشريع للظلم بالقانون، ومهمة مؤسسات التعليم والصحة تقديم أقل الخدمات جودة للأغلبية لضمان سكوتها. كل هذا في ظل تردي الأوضاع المادية والمعنوية لكل الذين يشتغلون في هذه المؤسسات ناهيك عن أوضاع البطالين والعاملين والعاملات في مؤسسات اقتصادية تستغلهم أبشع استغلال. ورغم سواد الصورة وعمق مختلف هذه الأزمات، تبرز هنا وهناك تباشير أمل تغذيه إرادة شعبية مصممة على ممارسة حقوقها واسترجاع كرامتها وسيادتها في وطنها. تعبّر عن هذه الروح الجديدة مظاهرات عمالية واحتجاجات طلابية واعتصامات أهلية بدأت تتصاعد وتيرتها في الأسابيع الأخيرة. كما يعبر عنه توسع ظاهرة النقد وحرية التعبير والجرأة على الإدارة لدى المواطن التونسي الذي بدأ يمزّق رداء الخوف ويدرك مساوئ السلبية ولا يكترث لقمع النظام ووعيده. كل هذا علامات تدلّ على اتضاح إفلاس النظام الذي يتحكم في رقابنا بالقوة والتزوير، وبصورة أوسع، إفلاس النظام السياسي العربي ككل. فأزمة شعبنا جزء من أزمة الأمة . وكما أن النظام التونسي بيدق في لعبة ستراتجية تتجاوز حدودنا، فإن نضال شعبنا هو أيضا جزء من نضال شعوب أمتنا المقهورة بتحالف الاستبداد والامبريالية. إنه من البديهي أن سياسات مجرمة تقترب بنا يوما بعد يوم من مناطق خطرة سيتزايد فيها إغراء اللجوء إلى حل العنف، وهذا ما يجعل تونس، بعد أحداث ديسمبر 2006 ، و كل الوطن العربي في سباق اليوم بين خيارين لا ثالث لهما : المقاومة المدنية أوالمقاومة المسلحة لمواجهة أنظمة لم يعد يربطها رابط بشعوبها. لقد بدأت تظهر بوادر هذه المقاومة المدنية في اليمن ومصر، و في بلادنا عبر الأحداث الأخيرة التي شهدها الحوض المنجمي. ليس هذا بغريب نظرا لتفاقم كل الأزمات وخاصة المعيشية منها ومن جهة أخرى نظرا لبداية تغير في الوضع الدولي الذي استغله النظام أحسن استغلال .فموجة أرهاب الدولة التي اجتاحت العالم والوطن العربي وبلادنا، بعد أحداث سبتمبر 2001 ، بدأت تنحسر بعد أن اتضح الفشل الذريع لسياسة إدارة بوش في أفغانستان والعراق أمام المقاومة المسلحة ، والفشل الذريع للآلة العسكرية الصهيوينة في تركيع شعبنا العربي في فلسطين ولبنان، والفشل الذريع للأنظمة الاستبدادية في الإصلاح والصلح مع شعوبها ناهيك عن إخفاقها المشين في تحقيق أبسط متطلبات العيش والكرامة رغم تدفق المعونات الأجنبية. كل هذا من شأنه رفع وتيرة النضال وشحنه بروح معنوية عالية وتصميم متجدد لستراتجية أكثر فعالية. إننا بما لا يدع مجالا للشك من دعاة الإصلاح وتعلقنا بالمبدأ قارّ . لكن من يرفض الإصلاح بثبات- اللهم إلا إذا كان إصلاحا تمويهيا ، فسلطة ممعنة في غلوها وتطرّفها وترفض كل حوار حقيقي مع المجتمع المدني ، وبالتالي فهذه السلطة، وأساسا رئيسها، من يتحمل مسؤولية وصول خطاب الاصلاح إلى طريق مسدود . وفي مواجهة مثل هذا النظام ، يتضح يوما بعد يوم أن الإصرارعلى ترديد نفس الاحتجاجات بنفس الصيغ من قبل المعارضة ، وداخل المنطقة الضيقة التي تحددها السلطة وفق قواعد مغشوشة ،رهان عقيم وإن الإمعان فيه يعني بقاء القوى القابلة للانفجار أي لحظة داخل المجتمع دون تأطير سياسي لغياب الرؤيا الواضحة والبدائل الواضحة . هذا ما يجعلنا نؤكد مجددا أن المشاركة الاحتجاجية في ما يسمى انتخابات ، كما أثبتت ذلك تجارب 1999 و2004، لم ترتكب فقط خطأ إسقاط القضية المركزية التي هي شرعية النظام في تنظيم هذه الانتخابات وشرعية السيد بن علي في التقدم لها، وإنما عجزت على أن تكون محطة نضالية تدفع قدما بالنضال من أجل انتخابات حقيقية . فهذه المشاركة الاحتجاجية كانت هي الأخرى مجرد طقوس فارغة من كل مضمون تنتهي بانتهاء الموسم الانتخابي وتترك الوضع السياسي يراوح نفس المكان. وبدل الإصرار على خيارات تفرّق المعارضة ولا تعزع النظام ، وبدل تحمل اضطهاده المتواصل والمتزايد خساسة من أجل فتات مطالب ، فإن المؤتمر من اجل الجمهورية يدعو لاتباع طريق آخر قوامه وضوح القطع مع الاستبداد ورفض الانخراط في الاعيبه وتكوين جبهة سياسية وليس حقوقية ، للفرض لا للمطالبة، تصبح بديلا جديا في عيون المواطنين والأطراف الخارجية . ومن هذا المنطلق فإن المؤتمر يعتبرالانتخابات الرئاسية والبرلمانية المزمع عقدها سنة 2009 لا حدثا في حد ذاتها . لكنها معركة يجب استغلالها في الأشهر المقبلة بتنظيم حملة وطنية حول حق الشعب التونسي في نظام ديمقراطي وتداول سلمي على السلطة مما يعني التصدي جماعيا لإعادة ترشيح السيد بن علي ودخول الرئاسة مدى الحياة حيز التطبيق. وإذا وصلنا موعد هذه الانتخابات المزعومة بلا تغيير جذري يذكر فإنه من واجب الجميع التجند لحملة وطنية للمقاطعة بالإضافة لحملة دولية لمطالبة كل الدول بعدم الاعتراف بالانتخابات التسعينية المعهودة. إن المؤتمر من أجل الجمهورية الذي يفرق بين النقد المشروع داخل المعارضة والتضامن غير المشروط معها عندما تتعرض لحجز جرائدها أو لاستهداف قياداتها ، يعتقد بقوة بعيدا عن كل أجندة حزبية أو شخصية ، ان المرحلة الخطرة الحالية تستوجب من كل الأطراف الوطنية الصادقة بغض النظرعن خلفياتها العقائدية وتنظيماتها الحزبية، تكوين جبهة سياسية فاعلة ونشيطة تأخرت كثيرا تبنى بصفة براجماتية وانطلاقا من تعدديتنا الفكرية ،على برنامج مقاومة مدنية وأيضا على برنامج حكم يكون واضحا في أهدافه وخطوطه العريضة ويمكن أن يكون علامة واضحة يتجمع حولها شعب إلى اليوم بلا هدف وبلا خطة تحرير وبلا قيادة وطنية جماعية يثق فيها . إن المؤتمر من أجل الجمهورية سيسعى بكل قواه للمساهمة في أي جبهة سياسية للمقاومة المدنية ، في الوقت الذي سيسعى فيه لترمم صفوفه والبحث عن كل فرص الوفاق ، لكن على قاعدة الخيارات التي تفرضها الحقبة التاريخية لا للتجميع من أجل التجميع . وقد فوض قيادته في الداخل لفتح أوسع حوار مع كل الأطراف الوطنية لبلورة هذه الجبهة من داخل أو من خارج الأطرالموجودة ، داعيا كل القوى الشابة إلى الانخراط في المشروع الوحيد الكفيل بإنقاذ ما تبقى من توجه مدني سلمي ديمقراطي قد تتجاوزه الأحداث نحو خيارات العنف بأسرع مما يتصور الكثير. إننا اليوم في خضم معركة تحرر وطني حقيقية ضد تحالف الاستبداد والاستعمار. وما تحتاجه تونس هو حركة كتلك التي قادت الشعب في كفاحه ضد الاحتلال الخارجي. إنها مسؤوليتنا جميعا أن ننبذ الخلافات الشخصية والحزبية وأن نبني معا هذه الحركة وان نقودها إلى مستقرها أي بناء دولة الهوية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية . كل هذه الأحداث المتزاحمة والمتسارعة تدلّ بوضوح على أننا نعيش منعطفا تاريخيا يتطلب من كل قوى التجدد، وأن تتلاقى على الصعيد الوطني والعربي لكي تواكب التغييرات الجبارة التي نعيشها وتلعب فيها دورها الطبيعي . إننا نعيش حقا وضعا مأساويا مشبعا بكل عوامل اليأس والإحباط ، لكنه واعد في نفس الوقت بكل عوامل الفخر والتحدي والأمل . إن القاعدة التي علمنا إياها التاريخ أن الأنظمة الاستبدادية تبدو عزيزة المنال إلى أن يكتشف المرء، عندما تنهار بين عشية وضحاها ، كم كانت مبنية على أوهام وأكاذيب وكم كنت هشة وهي تعطي عن نفسها صور القلاع التي لا تؤخذ. تحية نضالية لعمال الرديف وأم العرائس وقفصة . تحية إلى اللاّجئين الجدد الذين جرمهم نظام مجرم. تحية إلى المنفيين والمحرومين من وطنهم . تحية لسليم بوخذير والصادق شورو والدفعات الجديدة من المساجين الشبان قرابين قانون الإرهاب . تحية إلى كل الصامدين داخل السجن الكبير والعاملين على كسر قضبانه . عن المؤتمر من أجل الجمهورية د. منصف المرزوقي