السينما التونسية حاضرة بفيلمين في الدورة التأسيسية للمهرجان الدولي للفيلم القصير بمدينة تيميمون الجزائرية    بطولة انقلترا: مانشستر سيتي يكتسح ليفربول بثلاثية نظيفة    الصندوق العالمي للطبيعة بشمال إفريقيا يفتح باب التسجيل للمشاركة في النسخة الثانية من برنامج "تبنّى شاطئاً"    مدير "بي بي سي" يقدم استقالته على خلفية فضيحة تزوير خطاب ترامب    هل نقترب من كسر حاجز الزمن؟ العلم يكتشف طريقاً لإبطاء الشيخوخة    بنزرت ...مؤثرون وناشطون وروّاد أعمال .. وفد سياحي متعدّد الجنسيات... في بنزرت    صفاقس : نحو منع مرور الشاحنات الثقيلة بالمنطقة البلدية    نبض الصحافة العربية والدولية ... مخطّط خبيث لاستهداف الجزائر    "التكوين في ميكانيك السيارات الكهربائية والهجينة، التحديات والآفاق" موضوع ندوة إقليمية بمركز التكوين والتدريب المهني بالوردانين    حجز أكثر من 14 طنًا من المواد الغذائية الفاسدة خلال الأسبوع الأول من نوفمبر    ساحة العملة بالعاصمة .. بؤرة للإهمال والتلوث ... وملاذ للمهمشين    توزر: العمل الفلاحي في الواحات.. مخاطر بالجملة في ظلّ غياب وسائل الحماية ومواصلة الاعتماد على العمل اليدوي    بساحة برشلونة بالعاصمة...يوم مفتوح للتقصّي عن مرض السكري    أندا تمويل توفر قروضا فلاحية بقيمة 40 مليون دينار لتمويل مشاريع فلاحية    العاب التضامن الاسلامي (الرياض 2025): التونسية اريج عقاب تحرز برونزية منافسات الجيدو    أيام قرطاج المسرحية 2025: تنظيم منتدى مسرحي دولي لمناقشة "الفنان المسرحي: زمنه وأعماله"    قابس: حريق بمنزل يودي بحياة امرأة    الليلة: أمطار متفرقة ورعود بأقصى الشمال الغربي والسواحل الشمالية    كاس العالم لاقل من 17 سنة:المنتخب المغربي يحقق أكبر انتصار في تاريخ المسابقة    الانتدابات فى قطاع الصحة لن تمكن من تجاوز اشكالية نقص مهنيي الصحة بتونس ويجب توفر استراتيجية واضحة للقطاع (امين عام التنسيقية الوطنية لاطارات واعوان الصحة)    رئيس الجمهورية: "ستكون تونس في كل شبر منها خضراء من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب"    الجولة 14 من الرابطة الأولى: الترجي يحافظ على الصدارة والهزيمة الأولى للبقلاوة    نهاية دربي العاصمة بالتعادل السلبي    شنيا يصير كان توقفت عن ''الترميش'' لدقيقة؟    عاجل: دولة أوروبية تعلن حظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على الأطفال دون 15 عامًا    احباط تهريب مبلغ من العملة الاجنبية يعادل 3 ملايين دينار..#خبر_عاجل    عاجل : فرنسا تُعلّق منصة ''شي إن''    رحيل رائد ''الإعجاز العلمي'' في القرآن الشيخ زغلول النجار    جندوبة: الحماية المدنية تصدر بلاغا تحذيريا بسبب التقلّبات المناخية    تونس ستطلق مشروع''الحزام الأخضر..شنيا هو؟''    حريق بحافلة تقل مشجعي النادي الإفريقي قبل الدربي    احتفاءً بالعيد الوطني للشجرة: حملة وطنية للتشجير وبرمجة غراسة 8 ملايين شتلة    الديربي التونسي اليوم: البث المباشر على هذه القنوات    أعلاها 60 مم: كميات الأمطار المسجلة خلال ال24 ساعة الماضية    المنتخب التونسي تحت 23 عاما يلاقي وديا السعودية وقطر والامارات من 12 الى 18 نوفمبر الجاري    عاجل: النادي الافريقي يصدر هذا البلاغ قبل الدربي بسويعات    ظافر العابدين في الشارقة للكتاب: يجب أن نحس بالآخرين وأن نكتب حكايات قادرة على تجاوز المحلية والظرفية لتحلق عاليا في أقصى بلدان العالم    أول تعليق من القاهرة بعد اختطاف 3 مصريين في مالي    عفاف الهمامي: كبار السن الذين يحافظون بانتظام على التعلمات يكتسبون قدرات ادراكية على المدى الطويل تقيهم من أمراض الخرف والزهايمر    هام: مرض خطير يصيب القطط...ما يجب معرفته للحفاظ على صحة صغار القطط    تحذير من تسونامي في اليابان بعد زلزال بقوة 6.7 درجة    عاجل-أمريكا: رفض منح ال Visaللأشخاص الذين يعانون من هذه الأمراض    طقس اليوم: أمطار غزيرة ببعض المناطق مع تساقط البرد    الشرع في واشنطن.. أول زيارة لرئيس سوري منذ 1946    المسرح الوطني يحصد أغلب جوائز المهرجان الوطني للمسرح التونسي    رأس جدير: إحباط تهريب عملة أجنبية بقيمة تفوق 3 ملايين دينار    أولا وأخيرا .. قصة الهدهد والبقر    تقرير البنك المركزي: تطور القروض البنكية بنسق اقل من نمو النشاط الاقتصادي    منوبة: الكشف عن مسلخ عشوائي بالمرناقية وحجز أكثر من 650 كلغ من الدجاج المذبوح    هذه نسبة التضخم المتوقع بلوغها لكامل سنة 2026..    شنيا حكاية فاتورة معجنات في إزمير الي سومها تجاوز ال7 آلاف ليرة؟    بسمة الهمامي: "عاملات النظافة ينظفن منازل بعض النواب... وعيب اللي قاعد يصير"    الطقس اليوم..أمطار مؤقتا رعدية بهذه المناطق..#خبر_عاجل    تونس: ارتفاع ميزانية وزارة الثقافة...علاش؟    تعرف قدّاش عندنا من مكتبة عمومية في تونس؟    من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظّه من الخير    خطبة الجمعة ... مكانة الشجرة في الإسلام الشجرة الطيبة... كالكلمة الطيبة    مصر.. فتوى بعد اعتداء فرد أمن سعودي على معتمر مصري في المسجد الحرام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ذكرى تأسيس حركة النّهضة : الحلقة الثّانية

تمرّ هذه الأيّام الذّكرى السّابعة والعشرون لإعلان حركة النّهضة التّونسيّة، ويعتبر ذلك الحدث نقطة تحوّل كبرى وبداية منعرج خطير لمشروع الحركة الإسلاميّة التّونسيّة ترك ظلاله على مسيرتها منذ ذلك الإعلان.
ومن مبدأ المسؤوليّة والقيام بواجب النّصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولعموم المسلمين وخاصّتهم، وحرصا على وحدة عقيدة التّونسيّين ومنهجهم، وتحريرا لدينهم من التّجاذب والتّوظيف، وترسيخا لقيمة حقّ الاختلاف وقطعا مع التّعصّب والجمود والانغلاق، وإسهاما في إصلاح جذريّ، وإقامة الحجّة والاعذار حتّى تعلم الأجيال حقائق الأمور، وتستفيد الصّحوة الجديدة من سابقتها لأنّ كلّ تجربة هي من مواطن حقّ امتلاك النّاس جميعا: معرفة واستفادة.
سبب الإعلان:
لقد كان السّبب الحقيقيّ للإعلان عن حركة النّهضة في 06/06/1981 أمنيّا بحتا وسبقا انتحاريّا لمعالجة كارثة ترك محفظة ملغومة تحتوي على وثائق هامّة و خطيرة تكشف عن تنظيم إسلاميّ سرّي تركها قياديّان في سيّارة أجرة.1
إنّ الإعلان الذي اختطَف الحركة وحبسها في عالم السّياسة و يُحتفل به كأنّه إنجاز ضخم ما هو في حقيقة الأمر إلاّ تسوية مؤقّتة لورطة تنظيميّة وتعبيرة صادقة عن هروب إلى الأمام دون قدرة على الرّجوع عنه، وتجسيدا للفوضى و التّحرّك العشوائيّ وتأسيسا للمغامرة وردود الفعل المتسرّعة والمتشنّجة لمعالجة الأخطاء، ذلك أنّ الإعلان قبل حادثة الانكشاف الذي وقع في 05/12/1980 لم يكن في ذهن أحد من أبناء الحركة أبدا، ولم يقفز إلى الأذهان إلاّ بعد حصول تلك الكارثة.
فالإعلان إذن لم يتّخذ أبدا ضمن خطّة مدروسة ولا إستراتيجيّة منتظمة، لقد كان شبه ترس وقاية أو قرص"أسبيرين" مسكّن لزلزال تنظيميّ، بل جاء قفزة رياضيّة في غير محلّها كما عبّر عن ذلك رئيس الحركة " اعمل طيحة بتكربيصة "2 وهذا التّفسير وحده يكشف ودون تجنّي عن فقدان التّوازن الذّاتي للحركة و تخبّطها بالهرولة والانجرار أمام الهزائم الميدانيّة الجليّة.
إنّ الإعلان ما هو في الحقيقة إلاّ حركة إنقاذ قيادة لم تتحمّل مسؤوليّتها كاملة في هزيمة تنظيميّة ففرّت إلى الأمام وقفزت في المجهول وطالبت بالمستحيل، كما يكشف بعمق أنّ الحركة لا تختار وهي حرّة، ولا تضبط سياساتها وخياراتها من خلال أجندتها بل هي تلاحق تبعات أخطائها.
لقد كان وراء الإعلان إملاءات حادّة: نفسية وأمنيّة تطلّبت وألحّت على إيجاد حلّ مسابقة للزّمن وهروبا من الواقع العقيم، فتعطّلت إرادة الحركة وشلّت حركتها، و في غياب عن الرّؤية المستقبليّة الواضحة، فرض على القوم التّداوي بالدّاء، أو بما يعبّر عنه بكلّ دقّة
قول العربيّ المفلس: اليوم خمر وغدا أمر!
وعليه، نؤكّد أنّ الذي قرّر الإعلان هو الاستسلام لقدر الأخطاء أو قل لتبرير العجز التّنظيميّ فخرجت الحركة من كهف العمل السّرّيّ إلى دوّامات العمل السّياسيّ وهي بلا شكّ أشدّ تعقيدا وتشابكا ومخاطرة. هذا وقد يكون لهذا الإعلان القسري والانزلاق نحو العمل السّياسي عوامل ذاتيّة لبعض القيادات المسؤولة عن ذلك الانكشاف.
ولأنّ الإعلان قام في زمن ساده الارتباك والتخوّف من حملة أمنيّة نوعيّة شرسة منتظرة، فاتّخذ في ظرف خفّة وطيش لما صاحبته ظروف المشوّشات، فهو بالتّالي لم يؤسّس في ظروف طبيعيّة، ولم يولد ولادة شرعيّة، ولأنّه لم يبن على هدوء وعمق ورويّة، فقد كان فاتحة طريق إلى ما بعده من كوارث الغرور والإعجاب بالكثرة والتّسرّع والتّخلّي عن العمل التّربويّ والدّعويّ عبر الدّخول الواسع في العمل السّياسي والزّجّ بالحركة في المواجهات و المغامرات السّياسيّة والأمنيّة. كلّ ذلك في تقديري كان سببه المباشر الإعلان الذي أغرى بعض متعجّلي قيادة النّهضة إلى نزاع السّلطة في الحكم.
لقد ذقنا علقم ذلك الإعلان وما تبعه من مظالم ولا نزال، ولئن كان الاحتماء به مفهوما لدفع حرج ورفع مشقّة في ظرف ما، فهو لا يدلّ على صوابه وحجّيّته على الدّوام وفي كلّ حال، فما أبيح استثناء وترخّصا لا يصير أصلا وعزيمة، وما أبيح تقديرا للضّرورة التي لها أحكامها وآثارها يمنع أن يكون شرعا أو قانونا، وما كان قدرا تاريخيّا لا يصحّ أن يكون صيرورة حتميّة أو أن تفرض علينا الضّرورة فتصير قدرا شرعيّا.
لقد كان ذلك الإعلان منعرجا خطيرا طيّش كلّ المشروع الإسلاميّ وحطّمه، كما كان مشقّة على أفراده خاصّة وعلى الشّعب عامّة، وعلى الذين سبّبوا في هذه الكوارث أن يدركوا تلك الحقيقة، وفي الحديث "إنّ شرّ الرّعاء الحطمة"3، و«الرّعاء» جمع راع، وهو كلّ من يدبّر أمور المسلمين، و«الحطمة» الذي يشقّ عليهم فيحطمهم.
الخروج من مآزق حركة النّهضة
إنّه وإن كان يُحمد لبعض الإخوة الذين قرأنا لهم من الدّاخل وهم يدعون إلى مراجعات جادّة تقوم على المصارحة والمكاشفة، غير أنّهم مدعّوون في نفس الوقت أن يضعوا أصابعهم على الدّمامل التي استشرت في جسم الحركة ودمّرتها حتّى صارت ورما خبيثا يستحيل السّيطرة عليه، وإن أردنا مراجعة جذريّة مسؤولة وجريئة وجادّة ونوعيّة تبرئ ذمّتنا فلا بدّ من طرح مسائلنا بشكل صريح وعميق ومفصّل.
وإنّ من أكبر هذه الدّمامل وأهمّها أنّ بعض أفراد في قيادة حركة النّهضة مع الأسف الشّديد تمتّعوا بصلاحيّات عليا وبحصانات كبرى فاستهتروا بالمؤسّسات واستصحبوا حال الصّمت والرّخاوة والمساهلة وعدم المساءلة الجادّة والصّارمة لهم رغم مسؤوليّتهم القانونيّة والأخلاقيّة عن كلّ الكوارث، حتّى صار ذلك عرفا يدار به ذلك الجهاز، وتشريعا تسير به تلك المؤسّسة، لأنّها فرّطت في المحاسبة وبالغت في المجاملة وتمشية الحال.
كا يجب أن نقرّر كذلك ولا ننكر أنّ جوهر الخلل في حركة
النّهضة الأساسي هو القيادة، ومع الأسف الشّديد فلا يزال البعض يعتبرون القيادة الحاليّة هي طوق النّجاة في حين أنّها هي المشكلة الأبرز وليست هي الحلّ أبدا، وهذه الحقيقة هي التي أوجدت مرضا غريبا داخل جسم الحركة، أفرز إشكالا قاتلا و هو المجاملة وتمشية الحال، وعدم محاسبة الذين صنعوا الكوارث وتسبّبوا في الخسائر العظمى، ولا يزالون، وقد أشعلوا حروبا ثمّ خرجوا من البلاد وتركوا إخوانهم وأهاليهم يدفعون فاتورة ثقيلة من الاضطهاد، فجرى عليهم من إذلال السّجن والتّجويع والانتقام والتّشريد والإهانة، ثمّ يواصل هؤلاء القادة يحملون أثقالا على أثقالهم ويتحمّلون الأمانة الثّقيلة ويصرّون على التّشبّث بالمسؤوليّة وينازعون عنها ويحيطون أنفسهم ببطانة ضعيفة طامحة متلوّنة، إذا كانوا معه ألبسوه ألبسة الزّعماء المنقذين، وإذا خرجوا من عنده قالوا غير ذلك! و هذه هي عمق أزمة حركة النّهضة المجاملات وتلوّن الوجوه، هذه هي الكارثة الكبرى، فما عسى أن يقول هؤلاء لربّهم يوم يسأل الصّادقين المُتْقِنين المشفقين عن صدقهم، فكيف يأمن المسيء المخلّط الجريء؟
لقد أصيبت تلك الحركة بأعظم مقتل يصيب الجماعات، حين أهملت محاسبة المتسبّبين في كوارثها واستسلمت أمام كبارها واستسهلت الأخطار وأغمضت أعينها ومشّت الأحوال وآتّكلت على العفو فأمن الزّعماء وآستصحبوا الأحوال وتمرّدوا على الحركة فعسر عليها كبحهم وإفطامهم فاختطفوها وأَورَدوها والبلادَ والعبادَ إلى المآزق، ورحم الله ابن القيّم وهو يتحدّث عن إهمال المحاسبة: "أضرّ ما على المكلّف الإهمال وترك المحاسبة، والاسترسال، وتسهيل الأمور وتمشيتها؛ فإنّ هذا يؤُول به إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور: يغمض عينيه عن العواقب، ويمشّي الحال، ويتّكل على العفو، فيهمل محاسبة نفسه والنّظر في العاقبة، وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذّنوب، وأنسَ بها، وعسر عليه فطامها"4.
إنّه لا بدّ من محاسبة الذين تسبّبوا في الكوارث الكبرى للحركة: من مثل انكشاف 05 / 12/ 1980 الذي سبّب في الإعلان، و كشف أرشيف الحركة في منطقة الزّهروني سنة 1986، و مغامرة08 /11 /1987 و أحداث باب سويقة، و تجاوز مقرّرات مجلس الشّورى في انتخابات 1989 و مخطّطات 1990، وغيرها كثير؟؟؟ هؤلاء هم الذين كانوا السّبب المباشر في إنزال كوارث متعدّدة ومتكرّرة على شعبنا البريء وعلى الحركة وعلى القاعدة العريضة التي خاب أملها في قيادة أعطتها ثقتها المطلقة ومدّتها بكلّ ما تملك.
ولأنّ تلك القيادة سبّبت في أضرار عظيمة لديننا ولشعبنا، فمطلوب من الحركة إن أرادت لها شرعيّة ومصداقيّة ومستقبلا أن تحاسب أولئك، وهي مطالبة كذلك كما السّلطة تماما بردّ الحقوق إلى المتضرّرين من شعبنا، ومن لم يبادر من الطّرفين إلى ردّ الحقوق إلى أهلها في الدّنيا، بقيت عليه التّبعة والمؤاخذة يوم العرض الأكبر لقاعدة "من أقدم على اعتداء ضمن ضمان المتعدي بالجملة" ولقول المشرّع العادل:"لتؤدّنّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة"5. ولقاعدة "الاضطرار لا يبطل حقّ الغير" ذكرها عزّ الدّين بن عبد السّلام في "قواعد الأحكام" والقرافي في"الفروق" والسّيوطي في"الأشباه والنّظائر"وابن رجب الحنبلي في"القواعد".
وإن قلت لي أيّها القارئ الفطن إنّ القوم اجتهدوا وتأوّلوا، أقول لك: لقد تأوّل بعض الصّحابة واجتهدوا وهو أهل لذلك فلم يشفع لهم ذلك في شيء، لأنّ الخطأ والتّأوّل لا يسقط حقّ الغير، ولذلك دعا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على من أفتى جريحا جنبا بالغسل فمات، كما دفع دية الرّجل الذي أخطأ أسامة بن زيد في قتله، كما دفع صلّى الله عليه وسلّم ديات بني جذيمة الذين أخطأ خالد بن الوليد في قتلهم، وفيها قال النّبي ّصلّى الله عليه وسلّم:"اللّهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد".
لقد ضعف إحساس بعض النّاس مع الأسف الشّديد بثقل الأمانة وبخفّة الذّنوب حيث يأتي بعضهم بالموبقات يرونها أدقّ في أعينهم من الشّعر، ويرونه اجتهادا يؤجرون عليه ولو قذفوا بالعباد إلى البؤس والبلاد إلى البأس.
أقول هذا لتستفيد الصّحوة، حتّى لا تقبل بمسؤولين لم تتمثّل فيهم الشّروط الشّرعيّة للقيادة، ولتعلم أنّ خيبة الجماعة من أمرائها، وأن لا تثق ثقة عمياء في مسؤول، وأن لا تجامل في الحقّ، ولا تداهن في باطل، ومن أخطأ يحاسب دون نظر إلى سابقة أو صدق أو حسن نيّة. وليكن لهم في سير السّلف خير منهج في المحاسبة والمراقبة.
أقول هذا حتّى لا تقدم الصّحوة على عمل قبل أن تنظر حكم اللّه تعالى فيه، ثمّ تتبصّر في آثاره وعواقبه، ولتتجنّب المغامرات، ولتعلم أنّ النّظر في مآلات الأفعال معتبر شرعا، فما أدّى إلى فساد فهو فاسد ولو كان القصد حسنا والنّيّة صالحة، والفساد ممنوع باتّفاق الشّرائع والعقول السّليمة. ورحم الله امرءًا عرف قدر نفسه إذ" لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه! قالوا: وكيف يذلّ نفسه؟ قال: يتعرّض من البلاء لما لا يطيق"6. ورحم الله تعالى ذلك الجيل الذي كان يراجع نفسه ويحاسبها في أدقّ الأمور، حتّى حكى الغزالي في"الإحياء" أنّ أبا بكر الصّدّيق قال لعائشة رضي الله عنهما عند موته:"ما أحدٌ من النّاس أحبّ إليّ من عمر" ثمّ قال لها:"كيف قلتُ؟" فأعادت عليه ما قال، فقال:"ما أحدٌ أعزّ عليّ من عمر"!! يقول الغزالي:"فانظر كيف نظر بعد الفراغ من الكلمة فتدبّرها وأبدلها بكلمة غيرها"، قلت: فما بال الكثير منّا لا يسيء الظنّ بنفسه ولا يميّز النّعمة من الفتنة فثقلت سجلاّته بطيش الكلام وبفوضى الأعمال وهو بارد القلب مطمئنّ النّفس مستوثق خفّة الحساب ورضاء الرّبّ وكأنّه علم مقعده من الجنّة.
لقد قلّ العلم والورع والدّيانة في كثير ممّن ينتصب لقيادة الصّحوة، من أجل ذلك فهي مطالبة بتزكية النّفس من الحظوظ وتطهيرها من الأطماع وإصلاحها وإلزامها أمْر الله عزّ وجلّ.
إنّها دعوة لمن يتحمّل أمانة في الصّحوة أن يتّقوا الله عزّ وجلّ ويتّقوا الله في أنفسكم ويتقّوا الله في دينهم ويتّقوا الله في وطنهم ويتّقوا الله في شعبهم.
إنّها دعوة إلى أن نُحاسِب أنفسنا قبل أن نُحاسَب، وأن نؤطّر بعضنا
على الحقّ أطراً، "فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خفّ في القيامة حسابُه، وحَضَرَ عند السّؤال جوابُه، وحسُن منقلبُه ومآبُه. ومن لم يحاسب نفسَه قبل الحساب الأكبر دامت حسراتُه، وطالت في عرصات القيامة وقفاتُه، وقادته إلى الخزي والمقت سيّئاتُه"7. ومن أراد أن يخفّ حسابه غدا فليحاسب نفسه في الدّنيا، وإنّما شُقَّ الحسابُ يومَ القيامة على قوم لم يحاسَبوا في الدّنيا.
ليعلم الذين يعملون للإسلام أنّ المصائب التي يقعون فيها بسبب أخطائهم لا بدّ أن تدعوهم إلى التّوبة والمراجعة ولمزيد المصالحة مع المنهج الثّابت الأصيل، هذا هو منهج القرآن الكريم ولمثل يدعونا الحقّ تبارك وتعالى: "فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا" 8 وقال: "فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ"9، "إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ" 10وقال مندّدا بمن لم يفهم ذلك القانون:"وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ"11. هذا هو القرآن المحكم الواجب الإحتكام إليه، ومن قال بخلاف ذلك فليأتني بقرآن غير هذا، ومن لم يسلّم للمنهج القرآنيّ القطعي الثّبوت والدّلالة، فقد آبتدع في الدّين وكلّ بدعة ضلالة، وفي الصّحيح"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ" وفي الصّحيحين "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ"...
الجمعة 01/06/1429ه الموافق06/06/2008.
1 اقرأ مقالي "قصّة الإعلان".
2 مثل تونسي يفيد حوّل السّقطة إلى قفزة. أنظر كتاب حركة الاتّجاه الإسلامي في تونس3/140.
3 صحيح مسلم رقم 3411 ومسند الإمام أحمد رقم 19719.
4 إغاثة اللهفان ص82.
5 مسلم رقم2582.
6 سنن التّرمذي رقم 2180، و سنن ابن ماجه رقم 4006.
الإحياء 4/118. 7
8 الأنعام 43.
9 الأنعام 42
10 الأعراف94.
11 المؤمنون 76.
@@@@@@@@@@@@@


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.