أخي العزيز خالد...لن أكون أقل أدب منك ولن أرد التحية بأسوأ منها. أشكر لك نبل مشاعرك ورهافة أحاسيسك...ولكني ودون مواربة أعاتبك عتاب الصديق المشفق القلق على منحى الجدل الذي اخترته كأسلوب للرد على إهدائي...أما الجدل عند المنطقيين فهو كما تعلم أخي القياس المؤلف من مقدمات مشهورة أو مسلم بها والغرض منه إلزام الخصم و إفحامه. والجدل غالبا ما يجانب معتمدوه الصواب والإنصاف. لقد كان نصك أخي خالد أشبه ما يكون بضربة استباقية تبتسر ردود الفعل (حول طوباويتك أو عدم نزوعك للمواجهة واقتناعك بجدوى المصالحة ومصير حزبك وثمن البطاطا والحليب أو تعريفاتك المختلفة لمفاهيم الكرامة والمسؤولية والمواطنة وغير ذلك...) فصرفك الانشغال بموقف الآخرين من خطابك عن تحري الأمانة العلمية والالتزام بأخلاقيات علمتنا أن "من قال هلك الناس فهو أهلكهم". من المؤكد أن العودة ظاهرة جد معقدة تتجاذبها العديد من العناصر يستعصي أحيانا على الذهن حصرها أو تحديد أهميتها. ولكن التعقيد لا يعالج بالفكر الواحد والأحكام المسبقة واللاسقاطات المتعسفة والتعميمات الفضة التي تجعل كل شيء في سلة واحدة فيستوي الأخضر واليابس، العود وظله، الحي و الميت... أمرك عجيب يا خالد أما وجدت أفضل من الكاريكاتير (ملاصقة الحائط، امتطاء سيارة رباعية الدفع، ارتياد النزل...) للحديث عن وطن يتلهف شوقا لاحتضان أبنائه بعد طول انقطاع. لولا الحياء والاحترام والثالثة الإشفاق على من اكتووا بنار المنفى ولا يزالون لطفقت أعدد محاسن العودة ولكن سأكتفي بالتأكيد على أنني لم أشعر بعزة ولا بشموخ ولا رفعة رأس أقوى و أبلغ مما عشته وأنا بين أهلي و أحبتي...بين ظهرانيهم وفي وطن لم أعتبره يوما لا جنة ولا جحيما وإنما وطنا أحبه وأذود عنه حتى و إن جار. لن يغرني شنآنك يا خالد على ألا أعدل بدوري فأطلق العنان لأحكام مسبقة في شأن من قرروا البقاء ففيهم رجال و نساء أفاضل أتمنى على العلي القدير أن يزيدهم رفعة وحظوة بين الناس و ينفع بهم. لقد كتب أكثر المناوئين للعودة وقالوا كلاما يؤخذ بعضه ويرد بعضه و لكن أحدا لم يتجاسر ويذهب بعيدا مثلما فعلت حيث ألحقت من وراء حاسوبك غير مأسوف عليهم العائدين بسجلات الأموات. من حسن حظك يا صديقي أن أمهات العائدين لا يقرأن الأنترنت وإلا لدعون عليك بدعاء تنهد له الجبال. فكيف تدعي أن العائدين إليهن بعد طول فراق ليعيدوا إليهن أنفاسهن فبسماتهن ثم سكينتهن،أن هؤلاء قد ماتوا ورجعوا إليهن في صناديق... ما أبشع المشهد الذي اخترته لمن كان أجدر بمقامك وأقسط أن تخفض لهم جناحك وتشد على أيديهم وتنصح لهم إن زاغوا و انحرفوا...ولكنك اخترت لهم الموت الزؤام فأثثت نصك بكل ما يذكر به أو يؤدي إليه:" الحفر، البقاء لله، موميا متحركة، موت عاجل أو سريري على فترات..." أسفي على من أضناه طول السفر وأعياه السير وحيدا فجعل يقبض النفوس وينصب المآتم ويقدم التعازي ثم يمشي في الجنازات ولسان حاله يقول:"هذا الميت لا يساوي هذا البكاء"... حتى لا يلهينا السجال أخي فنستبدل الذي هو خير بالذي هو أدنى فننسى أن لنا في وطننا ما نعمل، أود أن نتأمل مليا في غيض من تذبذبنا وتخبطنا لعلنا ندرك أن ما يلمع ليس كله ذهبا وأن الأخذ بمبدإ "إن في المعارض لمندوحة عن الكذب" لم يعد مجديا و أن الحيلة في ترك الحيل: -كيف نسلم على وجه حق أن "العودة الكريمة هي أمن وأمان يطالني وأسرتي ووطني" وبعد ذلك نصور الوطن وكأنه دار حرب نبعث له بالأبناء والنساء قرابين وقد همسنا لهم "اذهبوا فقاتلوا إنا هاهنا قاعدون"...لا أظن أن أحدا يخاطر بأهله و يجازف بأمنهم...ولكنها المزايدة ما أسوأها من أسلوب في الجدال. -كيف ندعي الدفاع عن جماعة (لأجلها خرجنا و لأجلها سنعود) وبعض الأفراد صار الواحد منهم جماعة (هو الحزب فيقول حزبي، هو الجمعية فيقول جمعيتي، هو الصحيفة فيقول صحيفتي...) مسكين حقا هذا الوطن، لا شيء يغري فيه سوى كراسيه... -كيف ندعي حب وطن نعتبر أن أبناءه هم أسوأ ما فيه...لم يبق لنا سوى تغيير شعب بأكمله و استبداله بآخر يليق بمقامنا...هذه المقامة التونسية لا ندري هل هي مدعاة للضحك أم البكاء؟ -كيف يجلس البعض صباح مساء مع مخبري و استعلاميي "الوطن الجديد" (وطن اللجوء) ثم يستهجنون أن يتوجه آخرون إلى إدارة بلدهم وفيها رجال ونساء وطنيون من أبناء جلدتهم... -كيف نوقع العرائض ثم نندد بها...كيف نستنكر في الثامن من جوان ثم نستنكر الاستنكار في العاشر منه؟ -كيف نقدم مطلبا للاعتراف بحزب إلى جهة لا نعترف بها؟ -كيف نهنئ من حصل على جنسية "الوطن الجديد" وجواز سفره بعد أن قدم له عربون الولاء والموالاة معتبرين ذلك نصرا وفتحا مبينا؟ وفي المقابل نتهم وربما نعزي من استرجع جوازه التونسي... -كيف، وكيف، وكيف...مالك حركت المواجع يا خالد...دع القلوب تقر يا صديقي وانظر إلى ما يجمع لا إلى ما يفرق...نصك أثار ثلاثة مصادر للاختلاف والبقية قد تأتي: أنت تدافع عن ثقافة الموت في حين أدافع عن ثقافة الحياة، أنا بكيت لبكائك ولكنك ما سعدت لسعادتي، وأخيرا وطني بحلوه و مره ببياضه وسواده بحنوه و قسوته ليس وطنك كما صورته أنت في أقبح صورة...هذا الوطن الذي آليت على نفسي ألا أبخس من شأنه ولا من شأن أبنائه...وأن أكتب مع الصادقين منهم، مثلما ذكرت في نصك، صفحات من تاريخه... هناك. عزيزي خالد من عاد لم يمت، و من بقي لم يمت، ومن خرج من السجن لم يمت، ومن بقي وراء قضبانه إلى أن يفرج الله عنه لم يمت، ومن أخطأ لم يمت، ومن اختار طريقا آخر لم يمت...دعك من ثقافة الموت و تعال نبني وطنا ما دام في العمر بقية... وطنا نبنيه بكرامتنا و شرفنا و حبنا ووفائنا. عزيزي خالد كل ذرة من كياني تتمنى لك العودة إلى ديار الوطن..وقبلها العودة إلى ديار الأمل والحياة. شكري الحمروني