سنة 1991 عندما كانت السلطة في تونس تتعامل معي بصفتي رئيس الرابطة لحقوق الإنسان ، دعاني لمكتبه الرجل الذي كان يحتل آنذاك منصب وزير الداحلية ،سيء الذكر عبد الله القلال، ليثبت لي أن ما أعلنته الرابطة عن موت شخصين تحت التعذيب عار من الصحة. وللتدليل على موقفه مدّني بشهادتين طبيتين أمضاهما نفس الطبيب العسكري . ما نساه الرجل أنني أستاذ في الطب وأن قراءة سريعة للشهادتين أكدت قناعتي بكذب الممضي والوزير.لما ورد فيهما من تناقضات وأشياء لا يصدقها العقل . وقد علمت فيما بعد أن الرجل أدعى أنني رميت بالورقتين على وجهه . للأسف. لم يكن ذلك صحيحا وإنما رميتهما على الطاولة لا أخفي انفعالي وخاصة احتقار لا حدّ له للطبيب الذي قبل بالتستّر على جريمة ببشاعة قنل إنسان تحت التعذيب. مما أذكره ايضا أن هذا التعيس لما أوصلني لباب مكتبه حدّق في طويلا ثم قال : لا تتركنا "نشلكك". فنظرت إليه لأخطب فيه عن لا جدوى تهديد امثالي ،ثم امسكت لساني قائلا لنفسي لا يجب أن اردّ على قليل أدب يهددني وانا ضيف في مكتبه ، لكن سيرى هل بوسعه هو او سيده إرهابي أو "تشليكي " للحقيقة ، الحادثة حيرت وقتها كل أوجاعي ، أوجاع المناضل العاجز عن وقف هذه الجرائم النكراء التي يرتكبها أناس بلا إحساس ولا ضميبر، اوجاعي كطبيب لا يفهم كيف يمكن للأطباء أن يكونوا ضالعين في شيء كهذا. المؤلم أكثر أنه لا شيء أكثر ابتذالا من ضلوع الأطباء في الجريمة الكبرى. وقد كانت أطروحتي عن التجارب الطبية على الإنسان والتي نشرت في كتاب بالفرنسة وهو على موقعي في القسم الفرنسي * أول اطلاع على ما يمكن لأطباء بلا إنسانية ارتكابه في حق البشر. هناك أيضا اطباء السجون الذين يتسترون على ما يجري فيها وهناك من يحضرون حصص التعذيب وهناك أخيرا من يمضون الشهادات الطبية للتغطية على الجريمة التي لا تغتفر. من حسن الحظ لشرف المهنة والإأنسان أن هناك على الخط الآخر، أطباء نذروا أنفسهم لتأهيل المعذبين ولا أتحدث عن الجانب الحقوقي وإتما الطبي ورمزهم بالنسبة لي الدكتورة هيلين جافي. حصل لي شرف التعرف على هذه المرأة الكبيرة سنة 1994 وكنت وقتها أبحث في كيفية بعث مركز لعلاج ضحايا التعذيب في تونس - الأمر الذي اسنحال طبعا نظرا لطيبعة السلطة- وكان أول مركز زرته للغرضز مؤسسة السيدة جافي في باريس . وهناك أخذت من جهة فكرة عن التقنيات الطبية والنفسية لمعالجة الآثار الجسدية والنفسية الرهيبة للتعذيب ، ومن جهة أخرى عن بؤسنا الحضاري .على ضفة البحر الجنوبية التعذيب وعلى ضفته الشمالية علاجه. بعد أكثر من عشرين سنة تتصل بي السيدة جافي لتطاب مني خدمة : ترجمة دليل علاج ضحايا التعذيب الذي عملت عليه سنوات من الفرنسية للعربية. قلت لها هذه ليست خدمة وإنما واجب وشرف. احتفالا بصدور النسخة العربية استدعتني السيدة جافي لعشاء في باريس وتناولنا ذكرياتنا . فجأة توقفت لتحكي لي والدموع في عينيها قصة سوري فرّ من بلاده ووصل لباريس في حالة نفسية متدهورة جراء التعذيب. هذا الرجل أصرّ لشكرها على دعوتها هي وزوجها لعشاء سوري وأعدّ لهما في غرفة خادمة تحت السطوح ألذّ عشاء أكلته في حياتها. ولم تكن تعرف أنها سهرة وداع ،لأن الرجل وجد من الغد ميتا في مربض حافلة . انتحر لأن دمار التعذيب كان فوق كل علاج ومن سيقرأ هذا الكتاب فسيفهم عمّا أتحدّث هذا الكتاب الموضوع على موقع جمعيتها التي توقفت للأسف عن العمل www.avre.org وعلى موقع وزارة الصحة الفرنسية التي مولت المشروع، ،هو آخر خدمة قامت به هذه المرأة المتواضعة التي عملت اكثر من ثلاثين سنة في صمت لعلاج أبشع أصناف الأمراض التي يتسبب فيها متوحشون في خدمة متوحشين ورغم الصبغة العلمية للكتاب فإنني أرحو أن يطلع عليه الجميع ليعلموا ما تكلفة الأمر إنسانيا ،ولكي نضع كلنا صوب أعيينا الا يدخل في المستقبل ورزارات الداخلية امثال عبد الله القلال والقصور الحكومية أمثال بن علي ليصبح التعذيب كالكوليرا من علامات ماض كريه تجاوزناه .