بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    قضية منتحل صفة مسؤول حكومي.. الاحتفاظ بمسؤول بمندوبية الفلاحة بالقصرين    مخاطر الاستخدام الخاطئ لسماعات الرأس والأذن    صفاقس تُكرّم إبنها الاعلامي المُتميّز إلياس الجراية    سوريا... وجهاء الطائفة الدرزية في السويداء يصدرون بيانا يرفضون فيه التقسيم أو الانفصال أو الانسلاخ    مدنين: انطلاق نشاط شركتين أهليتين في قطاع النسيج    في انتظار تقرير مصير بيتوني... الساحلي مديرا رياضيا ومستشارا فنيّا في الافريقي    عاجل/ "براكاج" لحافلة نقل مدرسي بهذه الولاية…ما القصة..؟    الاحتفاظ بمنتحل صفة مدير ديوان رئيس الحكومة في محاضر جديدة من أجل التحيل    الطبوبي في اليوم العالمي للشغالين : المفاوضات الاجتماعية حقّ ولا بدّ من الحوار    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    انهزم امام نيجيريا 0 1 : بداية متعثّرة لمنتخب الأواسط في ال«كان»    نبض الصحافة العربية والدولية... الطائفة الدرزية .. حصان طروادة الإسرائيلي لاحتلال سوريا    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    المسرحيون يودعون انور الشعافي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    وزير الإقتصاد وكاتب الدولة البافاري للإقتصاد يستعرضان فرص تعزيز التعاون الثنائي    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    الطب الشرعي يكشف جريمة مروعة في مصر    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    البطولة العربية لالعاب القوى للاكابر والكبريات : التونسية اسلام الكثيري تحرز برونزية مسابقة رمي الرمح    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تختتم مسابقات صنفي الاصاغر والصغريات بحصيلة 15 ميدالية منها 3 ذهبيات    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    تونس العاصمة مسيرة للمطالبة بإطلاق سراح أحمد صواب    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    منذ سنة 1950: شهر مارس 2025 يصنف ثاني شهر الأشد حرارة    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    وفاة أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 116 عاما    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    معز زغدان: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستكون مقبولة    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ليبيا ودوافع الانخراط في الخيار الأميركي الجديد
نشر في الوسط التونسية يوم 08 - 09 - 2008

قامت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس بزيارة تاريخية إلى ليبيا ، تعتبر الأولى لوزير خارجية أميركي يزور ليبيا منذ العام 1953 عندما زار سلفها جون فوستر دالاس طرابلس،و إن كان ريتشارد نيكسون زارها عام 1957، عندما كان نائبا للرئيس الأميركي آنذاك.
وبصرف النظر عن أهداف زيارة وزيرة الخارجية الأميركية المعروفة لدى الجميع ، فإن ما يهمنا في هذا المقال هو تبيان التحولات العميقة التي شهدتها ليبيا منذ اندلاع ثورتها ، والتي قادتها إلىالدخول في العصر الأميركي بعد مسيرة كاملة من الإخفاقات .
وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قرّرت يوم 15 أيار / مايو 2006 ،إعادة فتح سفارتها في طرابلس الغرب ، وشطب اسم ليبيا عن لائحة الإرهاب . وهكذا كافأت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش العقيد الليبي معمر القذافي على "القرارات التاريخية" التي اتخذها على مدى السنوات الثلاث الماضية التي تلت الغزو الميركي للعراق ، وقررت، باستئنافها العلاقات الدبلوماسية شبه المقطوعة بين البلدين منذ 25 عاما،و تحويل ليبيا إلى "نموذج" على أمل أن تقتدي به كل من إيران وكوريا الشمالية.
وتأتي الخطوة الأميركية تتويجًا لمسيرة أطلقها القذافي في العام ,2003 بعد أشهر من احتلال العراق، بقراره التخلي عن برنامج ليبيا لتطوير أسلحة دمار شامل ونبذ الإرهاب، وعمله الدؤوب على حل الكثير من العقد، التي كانت تقف حجر عثرة في طريق إعادة الدفء إلى العلاقات بين البلدين، وعلى رأسها قضية لوكربي.
فماهي الخلفية السياسية و الإيديولوجية لهذا التحول الذي شهده نظام معمر القذافي من العروبة الوحدوية إلى القطرية الشوفينية تحت رايات "النظرية العالمية الثالثة"، فإلى محاكمة العروبة كدعوة عنصرية، فإلى الأفريقية بديلاً، فإلى إعادة تقسيم العالم إلى أمداء حيوية تتجاوز القوميات والوطنيات، ومن أوهام التحرر والتحرير، والاشتراكية المحققة للعدالة الاجتماعية، إلى اعتناق العولمة الرأسمالية ، ومن اعتبار القدس كلمة السر في انقلاب أيلول/ سبتمبر 1969، إلى إسقاط القداسة عن فلسطين القضية، وإسقاط صفة العدو عن إسرائيل ، لاختلاق مشروع دولة تندمج فيها القضيتان بغض النظر عن الحق والعدالة والهوية والتاريخ لتعطيا الثمرة المهجنة: إسراطين... ومن الدعوة لمجابهة أمريكا واستقبال الهنود الحمر بوصفهم أصحاب الحق الشرعي في تلك الأرض التي استعمرها الرجل الأبيض طويلاً ولا بد من أن تُعاد إليهم،ومساعدة حركات التحرر الوطني في العالم الثالث إلى التسليم المطلق بحق الإدارة الأميركية في أن تعيد تنظيم العالم وفق معاييرها؟
تتميز ليبيا تاريخيا ً بضعف جهاز الدولة و هشاشته وقصر عمره السياسي ، فليبيا من أقطار المغرب العربي التي لم تعرف تقاليد الدولة الوطنية وفق المفهوم الحديث للمصطلح ، فقط ظلت ليبيا مقسمة إلى أقاليم ثلاثة رئيسة هي برقة وفزان وطرابلس قرونا ً عدة .وجاءت السنوسية كمحاولة لتوحيد هذه الأقاليم التي كانت تتمتع بصفات إدارية مختلفة.إلا أن هذه المحاولة اصطدمت بالاستعمار الإيطالي الذي حارب بلا هوادة المقاومة الوطنية من 1911-1932، و لعل ما يفسر رفض الليبيين للحكم الإيطالي و مقاومتهم له سواء في إطار السنوسية أو في إطارالجهاد المسلح بقيادة عمر المختار يقع في إطار رفض نموذج الدولة التي فرضها المستعمر الإيطالي.
من هنا نرى أن مفهوم الدولة بالمعنى الحديث لم يشكل قيمة مركزية في أذهان الضباط الأحرار بقيادة العقيد معمر القذافي ، الذين فجروا ثورة الفاتح من سبتمبرعام 1969 ،بوصفها أحد المظاهر المعبرة عن رفض هزيمة الخامس من حزيران،و الداعمة لمسيرة المواجهة مع العدو الصهيوني.بل إن هؤلاء الثوار أرادوا أن يقيموا علاقة مباشرة مع الشعب تتجاوز العراقيل القومية و البيروقراطية.و هذه إحدى خاصيات الثورة الليبية.
فقد اندرجت "الثورة" في الخط الناصري المباشر، حيث اعتبر "الضباط الأحرار" في ليبيا أن تجربة مصر حافز لهم. و أن الرئيس جمال عبد الناصر هو القائد الملهم،الأمر الذي جذب الشارع الناصري على امتداد الوطن العربي الكبير إلى هذه التجربة الصاعدة. ولعل الالتزام "بالهوية" الناصرية جعلتها تحتل موقعها المميز في الضمير الشعبي، لاسيما أن الرئيس عبد الناصر كان من أوائل المؤيدين للحركة الانقلابية في ليبيا.وقد أعلن في أكثر من مناسبة مراهنته على التجربة الجديدة ورموزها الشابة،باعتبارهم أملا ً للأمة من جهة ، ويذكرونه بشبابه من جهة أخرى.
لقد كان العقيد القذافي أثيرا ً لدى الثوريين العرب بشعاراته الطنانه و المتطرفة ،وتفجيره "لثورة الشعبية " ، و انتقاله المباشر إلى تشييد " الديمقراطية المباشرة" بعدما تبين أن بيروقراطية الاتحاد الإشتراكي عاجزة عن الانتقال بالجماهير إلى السلطة الشعبية. ففي 15 نيسان /أبريل 1973، ألقى العقيد معمر القذافي خطابه الشهيربمدينة زواره -غرب ليبيا- معلناً الحرب على الدولة الكلاسيكية ذات النمط الرجعي، ومؤذنا ً بعصر الانعتاق و التحرر من كل القيود القانونية بل وتعطيل القوانين، و تطهير البلاد من المرضى سياسيا ًأعداء الثورة، و إعلان عصر الثورة الشعبية و الثقافية و الإدارية. و باختصار عصر انهيار كل ما كان قائما ً-من أركان الدولة- قبل هذا التاريخ.
و في هذا المسعى المنهجي من تدمير الدولةالكلاسيكية القديمة ، صاغ العقيد القذافي الكتاب الأخضر و النظرية العالمية الثالثة مع بداية عام 1977، حيث شهدت في تلك المرحلة تحولات غاية في الجذرية باتجاه إلغاء المؤسسات الحكومية بأطرها القانونية و البيروقراطية التقليدية لتحل محلها سلطة الشعب المباشرة.ولد نص إعلان سلطة الشعب على أن " السلطة الشعبية المباشرة هي أساس النظام السياسي في الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية، فالسلطة للشعب و لا سلطة لسواه، و يمارس الشعب سلطته من طريق المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية و النقابات و الاتحادات و الروابط المهنية، و مؤتمر الشعب العام و يحدد القانون نظام عملها".
و في أذار /مارس عام 1979، تم إنشاء اللجان الثورية التي شكلت مفصلا ًجديدا ً في تطور النظام السياسي الليبي نظرا ً لتأثيرها الكبير على المجتمع الليبي. و تكمن وظيفة هذه اللجان الثورية من الناحية الرسمية، في حث الجماهير على المشاركة في اجتماعات المؤتمرات الشعبية، و بقية الأنشطة الثورية ، وتوجيه انتباه المؤتمرات الشعبية الأساسية إلى كيفية تحسين نوعية قراراتها و اكتشاف الأفراد و الجماعات المضادة للثورة.
اللجان الثورية من الناحية السياسية العملية هي بمنزلة حزب شمولي يؤطر الجماهيرلخدمة أغراض النظام السياسي الليبي، فضلا ً عن أنها تقوم بوظيفة أمنية مثل باقي الأحزاب الشمولية الحاكمة.ففي شباط ،فبراير 1980، أعلن أن اللجان الثورية ستتولى مسؤوليات جديدة استعدادا ً للاقتحام النهائي لمجتمع الاستغلال و الديكتاتورية، و من هذه المسؤوليات التصفية الجسدية لأعداء الثورة في الخارج، و تصفية كل العناصر التي تعرقل عملية التحوّل الثوري، و إقحام الجماهير في تحويل المجتمع البرجوازي الاستهلاكي إلى مجتمع اشتراكي و إنتاجي، و إنشاء محكمة ثورية مكونة من أعضاء في اللجان الثورية، و يكون قانونها قانون الثورة فقط لا غير.و انطلاقا من ذلك أصبحت اللجان الثورية،و بسبب حماسها الشديد والتزامها الكامل تصورات الكتاب الأخضر و توجهاته، أهم الأدوات الأساسية لدى العقيد القذافي لتعبئة الجماهير الليبية و توحيدها.
غير أن العقيد القذافي الذي التزم بالخط الناصري ، واعتنق العروبة و الوحدة العربية مذهبًالليبيا، ثم تبنى لاحقا ً الاشتراكية ، انتقل مع بداية عقد التسعينيات من خدمة أهداف القومية العربية إلى اعتناق الفضاء الإفريقي ، و أخيرا ً إلى الدوران حول الفلك الأمريكي. وتكشف لنا هذه المراحل كلها التي قطعها العقيد معمر القذافي، عن الدوافع و الأهداف السياسية للنظام الليبي ، خاصة منها الاستسلام للضغوط الأميركية ، و محاولة استرضاء و مصالحة واشنطن وكسب ودّها عبر البوابة الصهيونية .
ولا شك أن انهيار نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسيين قد عجّل في جعل الزعيم القذافي يتخذ القرار بالاستدارة غربا ً لإنها ء طريقة الدفاع الوحيدة عن نظامه وليس اقتناعاً بالتوجه الغربي. و هذه الخطوة التي تعتبر فاتحة لتقليد جديد يفتح أبواب الاتصال والتطبيع بين ليبيا والولايات المتحدة الأمريكية و من ورائها الكيان الصهيوني ، لاسيما بعد عقد صفقة لوكربي مع الغرب قبل عام، و بعد انضوائه أيضا ً في الاستراتيجية الأمريكية لمحاربة ما يسمى الإرهاب . هكذا قال الرئيس الأمريكي جورج بوش ليلة أعلن بدء "انخراط ليبيا في الأسرة الدولية" بعد الإعلان الذي أصدرته بالتخلي عن كل برامج أسلحة الدمار الشامل.
إن الانحناء للعاصفة الأمريكية تذكرنا بالتغيرات الدراماتيكية للعقيد القذافي القديمة-الجديدة ، و تسقط عن وجه القذافي نفسه آخر الأقنعة ، بعد إعلانه الدراماتيكي الذي يعبر عن تغيير راديكالي في السياسة التي اتبعها منذ سيطرته على الحكم في ليبيا في العام 1969. و إذا كانت هذه الحركات ليست جوهرية في الصراع العربي مع الإمبريالية الأمريكية و الكيان الصهيوني بحكم الوزن المحدود لليبيا ، إلا أنها أفعال على حجم صانعيها ، إذ يهجر القذافي حلفه القديم مع الدول العربية و الإسلامية الراديكالية ليختار قيادة مصالح دول الغرب.
في أعقاب وصول معمر القذافي إلى سدة الحكم، في الفاتح من سبتمبر ،1969 اشترطت الحكومة الأمريكية قبل اعترافها بالوضع الجديد، الاحتفاظ بالقواعد الأمريكية (قاعدة هوليس) والالتزام بالاتفاقيات والمعاهدات القائمة بين البلدين، واستمرار التعاون والمحافظة على المصالح الأمريكية في ليبيا، الأمر الذي قبله نظام الحكم الجديد. غير أن قضية الجلاء كانت بداية التوتر، وبعد سلسلة مفاوضات، في 23 ديسمبر 1969 ، تم الاتفاق على جلاء القوات الأمريكية في موعد أقصاه شهر يونيو/ حزيران 1970.
وتم بالفعل في 11 من الشهر نفسه، وتحولت "هوليس" إلى قاعدة "عقبة بن نافع" وقاعدة الملاحة إلى قاعدة "جمال عبدالناصر"، ثم جاء مشروع ليبيا في فرض إشرافها على الاحتكارات الأمريكية والبريطانية في قطاع النفط، وسياستها في الأوبك، والتأميم للقطاع النفطي، والمشاركة في تسييس سلاح النفط خلال حرب ،1973 بمنزلة عوامل توتر حقيقية في العلاقات مع الولايات المتحدة، وبروز "المشروع الثوري الليبي" الرامي إلى تحطيم سيطرة الإمبريالية أو الاستعمار الجديد في العالم الثالث، وبالتالي مناصرة كل الحركات الثورية، عربية وغير عربية، المعادية للولايات المتحدة والرامية إلى كسر شوكة الهيمنة الأمريكية. ونتيجة لما حققه تزايد معدلات إنتاج النفط وارتفاع أسعاره، توافرت قدرات مالية كبيرة ساعدت على تحقيق أهداف ومهام متسعة للسياسة الخارجية الليبية، والتقارب مع المعسكر الاشتراكي.
وكانت ليبيا رفعت أهدافا ثورية خارجية منها محاولة تحقيق الوحدة العربية و مقاومة الإمبريالية الغربية عامة ، والأمريكية خاصة، و ملاحقة التغلغل الصهيوني ، ودعم و مساندة الحركات الثورية في العالم الثالث. وقد سعت إلى تحقيق هذه الأهداف وهي مستندة لعوائد نفطية ضخمة تجاوزت في بعض السنوات العشرين مليار دولار ، حيث يصل الإنتاج الليبي اليومي إلى 1،3 ملايين برميل و الاحتياط المؤكد نحو 30 مليار دولار.
ففي عام 1973 أمم الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي قطاع النفط وحظر خليج سرت على الاسطول الامريكي السادس،واتهمته واشنطن بالإرهاب، و على أثر ذلك غادر السفير الأمريكي طرابلس. و في عام 1978فرضت أول عقوبات أمريكية (حظر عسكري) على ليبيا. وفي عام1979 دعمت طرابلس الثورة الايرانية، وتم إحراق السفارة الامريكية في طرابلس.و في 15 نيسان من عام 1986 حصل العدوان الأمريكي على طرابلس وبنغازي أسفر عن سقوط 41 قتيلاً ليبياً. و في 23 كانون الأول من عام 1987 عبرت واشنطن عن "قلقها"إزاء بناء مصنع في الربطة (جنوب غرب طرابلس) الذي قديستخدم لصنع أسلحة كيميائية بينما أكدت طرابلس أنه مصنع للأدوية. و في 21كانون الأول من عام 1988 حصل : اعتداء لوكربي (270 قتيلا). و في31آذار/مارس من عام 1992 أصدر مجلس الأمن القرار 748القاضي بفرض حظر جوي عسكري على ليبيا. و في 15 كانون الأول من العام ذاته مددت واشنطن حظرها الجوي على ليبيا ثم جددت الأمم المتحدةوالولايات المتحدة عقوباتها كل سنة.
لكن السياسة الخارجية الليبية لم تحصد سوى الإخفاقات ، فلم يكتب النجاح لأي من المحاولات الوحدوية التي اجترحتها ليبيا مع الدول العربية خلال عقدي السبعينيات و الثمانينيات ، جراء الرغبة الليبية في تغليب وجهة نظرها، و عمل وحدة اندماجية فورية قبل تأسيس قاعدة للتعاون المشترك.كما خلف الدور الليبي المساند و الداعم لأحزاب وقوى حركة التحرر الوطني في العالم الثالث عامة ، و العالم العربي خاصة، التي تناضل ضد الإمبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني ، خلف هذا الدعم صورة ذهنية لدى القوى الغربية أن ليبيا تساند"الإرهاب" ، وتقوم بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول و هو ماخلفه التورط الليبي في تشاد و الذي انتهى بهزيمة قاسية للجيش الليبي في الثمانينيات.
كما أن الدعم الليبي لقوى و حركات التحرر الوطني و النظم التقدمية التي تقاوم الامبريالية الأمريكية ، جعل ليبيا توصم في مخيلة و ذهنية الغرب عامة ، و أمريكا على وجه الخصوص بأنها دولة تساند "الإرهاب". هذا فضلا عن التوترات التي عرفتها ليبيا مع العديد من الدول العربية و الإفريقية.
و مع انهيار الإتحاد السوفييتي ، و هيمنة القطب الأمريكي الأوحد على مجريات السياسة الدولية بعد الهزيمة العربية المدوية في حرب الخليج الثانية عام 1991، تعمقت أزمة السياسة الخارجية الليبية بسبب عدائها للولايات المتحدة الأمريكية ،و اتهام طرابلس بالضلوع في تفجير طائرة" بان أميركان" فوق بلدة لوكربي باسكتلندا عام 1988 ، و طائرة "يوتا" الفرنسية فوق صحراء النيجر عام 1989، الأمر الذي جعل ليبيا تتعرض لعقوبات فرضتها الأمم المتحدة في قرارين صادرين عن مجلس الأمن عامي 1992و 1993 . وكانت هذه العقوبات تم تعليقها في عام 1999، عندما سمح العقيد القذافي للمحققين الفرنسيين بزيارة طرابلس لإجراء تحقيق حول حادثة طائرة يوتا،ثم بعد تسليمه الليبيين المتهمين بتورطهما في حادثة لوكوربي. بيد أن الحظر على الأسلحة الذي يعود إلى عام 1986 ، ظل مستمرا ً.
وكانت العقوبات الدولية التي فرضت على ليبيا في عام 1992 نقطة تحول في سياسة الدولة الليبية الخارجية.إذ قطعت ليبيا علاقتها بجميع القوى و الحركات الثورية في العالم, وسعت إلى لعب دور إقليمي و دولي ذي طبيعة سلمية يزيل الصورة المأخوذة عنها كدولة "إرهابية".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.