اختتمت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس جولتها في بلدان شمال أفريقيا التي كانت زيارة ليبيا بندا مركزيا فيها. ووصفت رايس نفسها هذه الزيارة بأنها "تاريخية"، إذ لم تطأ قدم وزير خارجية أمريكي أرض ليبيا طوال 55 سنة الأخيرة. وعلاوة على ذلك التقى سياسي أمريكي بهذا المستوى الرفيع مع القائد الليبي معمر القذافي الذي لقبه الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان "بالكلب المسعور". ولكن يجدر هنا في البداية تناول المحطات الأخرى في جولة رايس باختصار تونس والجزائر والمغرب. فقد زارت هذه البلدان لأول مرة طوال فترة شغلها منصب وزيرة الخارجية. وهذا لا سيما وأن هذه البلدان حظيت باهتمام بالغ من جانب واشنطن في بداية فترة رئاسة جورج بوش. وكانت تونس، على سبيل المثال، أحد المشاركين النشطين في المبادرة الأمريكية بشأن إقامة الشراكة بين الولاياتالمتحدة وبلدان الشرق الأوسط، وكان الغرب يعتبر تونس أحد أمثلة نجاح الديمقراطية في المنطقة. ولكن اهتمام واشنطن تحول فيما بعد إلى قضايا أخرى. فالعراق وفلسطين وأفغانستان استحوذت جميعها على كل الوقت، خاصة وتجارب التحول الديمقراطي التي أجريت هناك، بغية الرهان على مواصلة مبادرتها لإشاعة الديمقراطية في منطقة "الشرق الأوسط الكبير"، تمخضت عن نتائج مريبة جدا. أما الآن فتواجه واشنطن مشكلة أخرى وهي تحول بلدان شمال أفريقيا إلى قاعدة جديدة "للقاعدة". فكيف يمكن التوفيق بين إشاعة الديمقراطية ومكافحة الفكر الإسلامي المتطرف، وكيف يمكن توحيد البلدان التي شتتها النزاعات الإقليمية، في جبهة موحدة ضد الإرهاب؟ المهمة ليست بسهلة، ومن المستبعد أن يتسنى تنفيذها في ظل الإدارة الأمريكية الحالية. ولذا، فإن جولة رايس من هذه الناحية تبدو متأخرة إلأى حد ما. أما زيارة ليبيا التي كانت إعادة العلاقات الدبلوماسية معها الإنجاز الإيجابي الوحيد لإدارة جورج بوش في الشرق الأوسط، فكان ما يبررها. يذكر أن واشنطن كانت قد بدأت استعادة العلاقات الدبلوماسية مع ليبيا في عام 2004، بعد تخلي الأخيرة عن صنع أسلحة الدمار الشامل، وإدانتها أساليب الكفاح الإرهابية. وقالت رايس إن استعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين يدل على أنه لا يوجد أعداء دائمون لدى الولاياتالمتحدة، وإذا نشأ لدى أي بلد استعداد لتغيير نهجه استراتيجيا، فإن واشنطن مستعدة للتجاوب، أي لإعادة النظر في علاقاتها مع هذا البلد. وهذا بلا ريب، إشارة إلى مجموعة كبيرة من البلدان والمنظمات، وبالمرتبة الأولى، إيران وكوريا الشمالية وكذلك "حماس" و"حزب الله". ولكن هيهات أن تتقبل هذه الجهات الإشارة، وبالمرتبة الأولى، بسبب لهجة التلقين من جانب الولاياتالمتحدة التلقينية. تلك اللهجة التي لم تمارسها إدارة بوش أبدا في الحوار مع القذافي. وفعلت طرابلس من جهتها كل ما كان ممكنا من أجل تصوير استعادة العلاقات الدبلوماسية مع الولاياتالمتحدة كوقفة طيبة من الجانب الليبي. وبدت زيارة رايس هذه وكأنها من فضائل ليبيا، وليست تنازلا أمام واشنطن. فكان استقبال وزيرة الخارجية الأمريكية متحفظا جدا، وجرى التصدي لكافة محاولاتها لنقل الحديث إلى موضوع الديمقراطية المحبب لدى واشنطن، بشكل جذري. فأشار وزير الخارجية الليبي عبد الرحمن شلقم في المؤتمر الصحفي المشترك مع رايس إلى أن بلده لا يحتاج إلى ضغط ومحاضرات بشأن موضع مراعاة حقوق الإنسان. ومن المستبعد أن يتجرأ أحد في أي بلد آخر، وخاصة في الشرق الأوسط، على مثل هذا التصريح الحاد بحضور وزيرة الخارجية الأمريكية. كما كانت دعوة رايس إلى مقر عمل القذافي الذي قصفه الأمريكان في عام 1986 ولقت كريمته بالتبني مصرعها، تبدو سخرية حاذقة من جانب القائد الليبي. وتجدر الإشارة إلى أن كافة الوفود تزور قصر القذافي هذا، من أجل تخليد ذكرى "شهداء القصف الأمريكي، وتسجيل أسمائهم في سجل التعازي. وانطلاقا من كل الشواهد فإن وسائل الإعلام العالمية لم تتجرأ على نقل صورة رايس في هذا الوضع، وقرر القذافي عدم الإجهاز على ضيفته وقلب صفحة الماضي. وهذا علما بأنه أجرى اللقاء في القصر الذي قصف، وليس في خيمته البدوية المحبوبة، حيث التقى على سبيل المثال، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في إبريل عام 2008. ومع ذلك فإن رايس لم تبد أي شعور بالإهانة، وإنما على العكس قدمتها قنوات التلفزيون خلال اللقاء مع القذافي وابتسامتها لا تفارق وجهها، كما لم ترد على تهجمات نظيرها شلقم خلال المؤتمر الصحفي. وفي ختام الزيارة اقتصرت رايس على الإشارة إلى أنه توجد لدى واشنطنوطرابلس خلافات، ومن الممكن أن تنشأ في المستقبل، ولكن هذا لا يعيق استئناف العلاقات بين البلدين. وهذا تحفظ مدهش من جانب الولاياتالمتحدة. ولكن تخلي ليبيا عن صنع أسلحة الدمار الشامل يشكل عنصرا ثمينا للغاية في احتياطي الولاياتالمتحدة السياسي (سواء للمستمعين داخليا أو خارجيا) لتكدير العلاقات التي نشأت للتو بملامات ونصائح جديدة. و"إن وقت المحاضرات لم يحل" وعلى ما يبدو هذا ما تراه الولاياتالمتحدة. ولكن طالما العقيد القذافي على قيد الحياة، فان حوار ليبيا مع واشنطن سيكون على أساس ندين، إن لم يكن بتكبر. وفي تصريح أدلى به "للجزيرة" عشية زيارة رايس، قال القذافي: "أنا أؤيد هذه المرأة العزيزة السوداء. وأنا معجب وفخور بقدرتها على إحناء القادة العرب، وتوجيه الأوامر لهم". وفي هذه الكلمات يكمن إعجاب القذاقي الصادق برايس، واستخفافه بالقادة العرب الذين يستجدون من الولاياتالمتحدة، وفي نفس الوقت إشارة إلى عدم إمكانية إركاع طرابلس. ولكن من الممكن الحصول على منافع بالتحالف معه. وليبيا لاعب كبير جدا في القارة الأفريقية، ومصدر هام علاوة على ذلك، لموارد الطاقة إلى السوق العالمية. فإن ليبيا بحجم احتياطي النفط المكتشف، تحتل الموقع الخامس في القائمة العالمية التي تضم بالإضافة إلى روسيا، دول الخليج العربي والعراق. وبما أن الوضع في منطقة الخليج غير مستقر، لا يضير الولاياتالمتحدة من أن تؤمن لها مصدر موارد طاقة آخر، وخاصة على ضوء تردي العلاقات بشكل حاد مع روسيا. وتؤكد رايس بالمناسبة، أن العلاقات الأمريكية الليبية "أوسع من حاجة الولاياتالمتحدة إلى النفط، ولا تقتصر على الطاقة". وعلى ما يبدو، فإن هذا هو الواقع، ومع ذلك تشكل الطاقة بالذات القوة المحركة لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين طرابلسوواشنطن. وستحصل الإدارة الأمريكيةالجديدة على إرث جيد.