لقد أحجمت عن الكتابة في هذا الشأن خوف أن يحمل كلامي على غير مقصده فيفسد حيث أراد الإصلاح ويهدم حيث أراد إعادة البناء. الحقيقة أنني لست أول من زهد في التعبير عن قناعاته مخافة شبهة أو درءا لمفسدة أو اتقاء لفتنة... فنحن نعيش زمنا صعبا ازدهرت فيه محاكمات النوايا والتفسيرات التآمرية كتعبير عن تصدع العلاقات و تهافت الثقة بين سائر مكونات مجتمعنا المصغر ("الميكروكوزم" حسب تعبير البعض). ولكن المقام خطير...يقتضي منا جرأة على الصدع بالحق وحلما كبيرا في قبوله والإقرار به...والحق كما جاء في الأثر يحتاج إلى رجلين: "واحد يقوله والآخر يسمعه". أملي وطيد أن تكونوا من الذين يحسنون قوله مثلما يحسنون سماعه. لقد اخترت أن أتوجه بخطابي هذا إلى الشيخ والدكتور والأستاذ (راشد الغنوشي ومنصف المرزوقي وأحمد نجيب الشابي) لما يشكلونه من ثقل في المعادلة السياسية ومن حضور رمزي واعتباري يجعل منهم على السواء إما جزءا من الحل وطرفا فاعلا في عملية تطوير الحياة السياسية أو جزءا من المشكلة وسببا في تعطيل مسارات الإصلاح والتنمية كما هو الحال اليوم. لن أتعرض إلى أشخاصكم فأخلاقي تأبى علي السقوط في مستنقع الصائدين في الماء العكر والقدح في نزاهة الشرفاء ولكني سأتعرض إلى خياراتكم السياسية وحصيلتها الكارثية طيلة العشريتين الماضيتين. لقد تحدثتم كثيرا حتى أطنبتم وبلغتم الحد عن تجاوزات السلطة فحولتم البلاد بأقلامكم و ألسنتكم إلى "هولوكوست نوفمبري" و"عصابة حكم" و "مافيا" "لا تصلح ولا تصلح" و"مجتمع حانق ثائر على وشك الانفجار" وما إلى ذلك من النعوت والأوصاف التي وصفت كل شيء إلا . لن أدافع عن السلطة حتى وإن خالفتكم الرأي في تقييم إنجازاتها وتحديد نسبة الخطإ و الصواب أو النجاح والفشل في سياساتها، فهي لا تحتاجني وأنا لست من أعوانها ...ولكني سأدافع عن وطني أولا ثم عن ضحايا بعض من خياراتكم، هذه الفئة المنسية التي دفعت ولا زالت الثمن باهظا لعنادكم و إصراركم على الهروب إلى الأمام، وسأدافع أيضا عن حقكم في الدفاع عن هذا الوطن الذي لا يمكن له أن يستغني عن خيرة أبنائه دون أن يدفع الثمن غاليا. سادتي الأفاضل إنكم حملتم السلطة مسؤولية كل شيء وفي المقابل من يتحمل مسؤولية العجز الهيكلي عن توحيد المعارضة...ومسؤولية محاكمة محمد القوماني...والحملة المسعورة ضد الدكتور عبد المجيد النجار...وانحسار دور المؤتمر من أجل الجمهورية...وإغلاق مقرات الحزب في وجه المخالفين للرأي...ومن المسؤول عن الصراع الإديولوجي العقيم بين الإسلاميين واليسار...وإضعاف لجنة 18 أكتوبر...والتنافس "اللاأخوي" بين الجمعيات الحقوقية والإنسانية...وتراجع نسبة المنخرطين في أحزاب المعارضة...وعزوف العديد من المعارضين عن الخوض في الشأن العام وخروجهم "للتقاعد السياسي المبكر"...وإعلان توبة قيادات متنفذة...والمردود الإعلامي الهزيل لبعض القيادات الأخرى...ومخالطة أجهزة الاستعلامات و المخابرات الأجنبية...والحصول على الدعم المالي والمعنوي من جهات عرفت بعدائها الشديد لقضايا الأمة...والدعوة لتنظيم انتخابات تحت إشراف أممي وبحضور القبعات الزرقاء...والحملة من أجل تغير قانون الميراث ...وعدم الترحم على رئيس سابق...و ادعاء أن أسوأ ما في شعبها...ورفض التوقيع على وثيقة أكس...والإعلان عن عدم الرغبة في إسناد الإسلاميين شهادة في الديمقراطية...و تحويل لجنة 18 أكتوبر إلى لجنة مساندة الترشح لانتخابات رئاسية عامين قبل موعدها... والتصريح بأن سبب إضراب الجوع والقدوم إلى باريس هو التمتع بالخمر وخدمات المومسات...وأن المعارضة "راطسة غريبة" إن لم تكن" مقرونية" فهي "إسلامية مسيحية"...وأن العائدين متساقطين، والباقين في منفاهم متقاعسين و"مستكرشين"، و"التائبين" مجانين، والمخالفين انفلاتيين، والواقعيين انبطاحيين... ثم كيف نفسر استنكار المعارضة الديكور ثم ابتداع الأمانة العامة الديكور والكتابة العامة الديكور ونيابة الرئاسة الديكور والمكتب السياسي الديكور...والإمضاء بأسماء مستعارة في المواقع المستقلة لا لنقد السلطة وإنما للتحرش على رفقاء الدرب من المعارضين...والانقلابات داخل الجمعيات والأحزاب وانتخابات المحامين (اسألوا الحسني و اليحياوي والخياري والشامخ والصيد والهاني والعيادي...) ومساندة أمريكا في غزوها للعراق والجلوس إلى سفرائها...وتنظيم الندوات في مجالس الشيوخ الأجنبية حول استقلال القضاء في ...والدعوة إلى العصيان المدني عبر الفضائيات الأجنبية...والتخلي عن مطلب العفو التشريعي العام وجعل إطلاق سراح المساجين وعودة المغتربين أولوية وطنية... منذ أكثر من عشرين سنة والشيخ والدكتور والأستاذ ينشطون في ساحات المعارضة ولكنهم لم يوقعوا على بيان مشترك واحد. ستون سنة من النضال مجموعة والحصيلة لست أدري هل هي مدعاة للسخرية أم للإشفاق: - أربعة أشهر سجنا لهم وآلاف السنين لأنصارهم وأتباعهم. - آلاف الساعات هي حجم مداخلاتهم في وسائل الإعلام شرقا و غربا في مقابل بعض السويعات لرفقائهم. - آلاف الصفحات تم تحبيرها أغلبها راح في السب والقذف والتنديد والاستنكار والبكاء والتظلم وتصفية الخصوم وقليلها في الدفع و البناء . وإذا علمنا أن "الناس على دين ملوكهم" فلا عجب أن سار الأنصار والأتباع على ذات النهج. فلو قمنا بجرد لما كتب خلال سنة لهالنا الأمر: سب وقذف واتهام واستعداء ونفث سموم... عندما لا يطال السلطة فإنه يطال أصدقاء وحلفاء الأمس. - ستون سنة مجموعة ولم يتخرج من" مدارسكم" قادة أو شخصيات مرموقة من الجيل الجديد في غياب أي جهد للتأهيل. لقد أحدثتم فراغا رهيبا من حولكم فلا نكاد نجد من هو أهل لخلافتكم وحمل المشعل من بعدكم. أما من يمثل بديلا جديا فهو إما خارج الأطر التي استحوذتم عليها وزهدتم المناضلين فيها أوعازفا عن السياسة عاكفا على الشأن الخاص بعد أن رأى منكم الويلات. - عدد المناضلين والمقتنعين بخياراتكم في تراجع، والنزيف مازال مستمرا...ولكنكم لا تبالون وكأن شيئا لم يكن. - هبوط مستوى النقاش وتدني أخلاقيات النضال بعد أن اكتسحت الساحة سلوكيات كانت بالأمس مستهجنة كتأليب البعض على البعض الآخر وإيغار الصدور والتخفي وراء الأسماء المستعارة وترويج الأكاذيب والإشاعات حتى صار كل شيء مباحا... هذا وقد تجنبت سادتي الدخول في تفاصيل خاصة بكل إطار تشرفون عليه فليس الغرض المحاسبة، فلا أحد بمنأى عنها، ولا نشر الغسيل فشرفكم وشرف رفقائكم من شرفي، ولكني أردت لفت الانتباه والحض على إعمال المسؤولية وتحكيم العقل وتغليب مصلحة الوطن. إنها حصيلتكم سادتي، لن أدعي أنكم السبب الأول والأخير في هذا الحصاد الهزيل. فلكم حسناتكم التي يسجلها الوطن لكم. ولكنكم حتى و إن لم تمارسوا أو تتسببوا فإنكم لم تمنعوا ولم تتصدوا إلى حالة الرداءة غير المسبوقة التي تقرون بها في مجالسكم الخاصة. هذه حصيلتكم لا يمكنكم بعد اليوم لفظها و التملص من مسؤوليتها والمفاخرة بالإنجازات فحسب. أنتم سادتي لا تملكون تغيير هذا الماضي ولكنكم تملكون القدرة عل توسيع دائرة الممكن ونحت معالم مستقبل أفضل لكم ول. أنتم تملكون تحويل هذه الجموع من الحاقدين التي تعج بها أطركم إلى طاقات إيجابية هائلة في خدمة الوطن. أنتم تملكون المساهمة في رفع المعاناة عن المساجين والمغتربين والعاطلين والمهمشين سياسيا و اجتماعيا وإدخال السعادة إلى قلوب الملايين... أوليس هذا لب السياسة؟ فكروا في أجندة البلاد والمحرومين قبل أن تفكروا في أجنداتكم الخاصة...فكروا في قبل أن تفكروا في قرطاج...زودونا وزودوا البلاد بأفضل ما عندكم: معرفتكم\تجربتكم\ذكاؤكم...ولا تخصوها وتخصونا بغيض قلوبكم وسوء مزاجكم و أذى نرجسياتكم وحدة خطابكم...فالصبر على الكلمة الطيبة أفضل من الصبر على الغلظة والفظاظة، وحب ورفع رايتها أفضل من احتقارها والإساءة إليها. أملي أن يجد ندائي هذا صدى في قلوبكم وأن تعقدوا العزم على إحياء الأمل من جديد والالتقاء حول مشروع وطني طموح ومسؤول يضع مصلحة البلاد فوق كل اعتبار فلا يغامر بها مغامرات وخيمة العواقب ولا يعود بها إلى الوراء فتتبدد مكاسبها... تعالوا سادتي نبني معا وطنا يسعنا جميعا. تعالوا ننزع الأحقاد من قلوبنا فلقد أضنانا جميعا ظلم ذوي القربى...تعالوا نتواد ساعة ونتناصح ساعة ونتعاون ساعة... فقد أنهكنا الحرث في البحر والسير في الظلام. أما إن غلبت فيكم نزعات الشيخ الذي يرى الناس عصاة ضالين، والطبيب الذي يراهم مرضى مجانين، والأستاذ الذي يراهم جهلا حمقى...وبعثتم إلينا بجنود وأعوان يهتكون أعراضنا ويكيلون إلينا السب والشتيمة فتلك والله خيبة المسعى...عندها نكون قد أعذرناكم... فنعود إليكم وقد صنفناكم هذه المرة خصوما لا أصدقاء. المصدر : الوسط الية بتاريخ 26 سبتمبر 2008