لم يكف المعارضة التونسية ما تتعرض له من قمع يومي ومن مضايقات بوليسية وإدارية لا تخفت حدتها البتة، ومن حملات إعلامية مسعورة من طرف صحفيين امتهنوا الكذب والثلب، حتى صارت تتلقى الطعنات الغادرة والمسمومة في الظهر من طرف أبناء لها كانوا حتى الأمس القريب من رافعي لوائها وصاروا اليوم من ألد خصومها المتحاملين عليها. فما الذي حدث لهؤلاء الذين كانوا، لوقت قريب، لا يشق لهم غبار في المعركة ضد الدكتاتورية وفي مساعي ترشيد الخيارات وتنضيج البدائل ونشر الوعي، حتى ينقلبوا إلى هذا المنقلب وينخرطوا في هذا المسار البائس ويحولوا أقلامهم التي كانت مشرعة على أعداء الحرية نحو الضحايا من أصدقاء الأمس؟ سؤال محير إزدادت وطأته كلما صدمنا بمقال جديد ينسينا صدمة المقالات السابقة في حدته وتوتره وتجاوزه لأخلاقيات النقد النزيه وتعسفه في استعمال حق الاختلاف والتعبير وجنوحه إلى التجريح والتضليل والتزييف. وإزدادت في كل مرة رغبتنا في الرد تحملا للمسؤولية وتوضيحا للأمور وممارسة لحق الدفاع وواجب الذود عن شرفنا وشرف رفاقنا المناضلين في هذه الحقبة العصيبة والملتبسة من تاريخ النضال ضد الظلم والاستبداد في بلادنا. غير أننا أمسكنا عن الرد ترفعا وإحسانا للظن وحرصا على صداقات ضاربة في عمق سنوات الغربة الطويلة. بل كتبنا ثم مارسنا على أنفسنا رقابة ذاتية أملا في توقف الأذى وتصحيح المسار. ولكننا عزمنا اليوم على الرد والتوضيح، تقودنا في ذلك إرادة وطنية صادقة ومصممة على الصدع بالحق ومتعالية، في الآن نفسه، على الأحقاد والضغائن وتصفية الحسابات الشخصية. دعونا نذكر أولا بأبرز معالم خطاب أصدقائنا أصحاب المبادرات "التصحيحية" في الساحة قبل أن نحاول شرح الملابسات التي ولدت فيها تلك المبادرات/المناورات واستقراء أهدافها المعلنة والخفية ثم نختم بتقديرنا للموقف وتصورنا لمستقبل هذه "الظاهرة" في ظل التطور الطبيعي "السنني" لأوضاع المنطقة والبلاد نحو تصفية وشيكة للدكتاتوريات المتخلفة وفرض متسارع للديموقراطية والحريات. تحامل وتراجعات لا نقد ومراجعات قد لا يكون من القسط وضع كل من تقدم بمراجعات جذرية وأمطر المعارضة بوابل كتاباته النقدية في نفس السلة، إذ تختلف الكثير من تصوراتهم ومناهجهم وطموحاتهم. غير أننا لمسنا معالم مشتركة في خطابهم الجديد أبرزها: تحميل المعارضة التونسية مسؤولية الانسداد السياسي الحاصل في البلاد باعتبار نزوعاتها الصدامية وخطابها العدمي. تحميل قادة المعارضة مسؤولية ما تعرض له أنصارهم وأتباعهم من سجن وتنكيل وتعذيب ومضايقات طيلة العشريتين السابقتين (دون تعرض من قريب أو بعيد للجهة التي مارست عليهم هذه الفظاعات مباشرة!!) إتهام تلك القيادات وأحزابها بتقديم طموحاتها الشخصية وأجنداتها الخاصة ومصالحها الحزبية الضيقة على مصلحة الوطن العليا "وبالتفكير في قرطاج قبل التفكير في تونس". إعتبار أن تلك الأطر " التي تعج بجموع من الحاقدين" انتهجت منهج الهدم لا البناء بانغماسها في "السب والقذف والاتهام والاستعداء ونفث السموم .." وبتأسيسها لثقافة "تحبط البناء وإرادة البناء". تحميل تلك القيادات وأحزابها مسؤولية "هبوط مستوى النقاش وتدني أخلاقيات النضال" ونشر سلوكيات مستهجنة "كتأليب البعض على البعض وايغار الصدور والتخفي وراء الأسماء المستعارة وترويج الأكاذيب والاشاعات ..". الحكم على تجربة تلك الأطر بالفشل الذريع وبعدم تحقيق أي إنجاز يذكر طيلة تاريخها وبعدم إعداد بدائل جدية وبعدم تخريج قادة وكوادر جديدة قادرة على حمل المشعل ومواصلة بقية المشوار. نقطة التمايز الرئيسية في حديث هؤلاء كان الموقف من السلطة وموقعها من كل ما تقدم ... حيث شركها أقربهم إلى القسط مناصفة في مسؤولية الانسداد السياسي الحاصل، وسكت عنها أكثرهم حسابا حتى يكاد يخيل للقارئ أن المعارضة التونسية تعارض حائطا لا يتنفس ولا يفعل ولا حتى يرد الفعل ، ونزع عنها أشدهم إسفافا مسؤولية ما حصل ويحصل في البلاد معتبرا أن ما قامت به كان في أسوء الحالات مجرد أخطاء وتجاوزات لا تقارن بحجم الانجازات الرائدة التي قامت بها ولا بجرائم المعارضة الفظيعة. كلمة حق أريد بها غير ذلك كثيرة هي عيوب المعارضة ونقائصها بالتأكيد، وأن تأتي الشهادة متواترة من طرف قياديين سابقين لعبوا فيها أدوارا متقدمة ذات يوم دليل على أن في الأمر بعض الصحة. بل نؤكد، نحن المتشبثون بمركب المعارضة "المتهالك" وجود الكثير من النواقص التي تشل الفعل وتضعف الفعالية. ولكن الإنطلاق من هذه القناعة إلى الجزم بمسؤولية المعارضة عن مصائب البلاد وكوارث العباد فيه حيف وظلم وافتئات ونوايا مبيتة، خصوصا عندما يقترن الأمر بتبرئة السلطة من تلك المسؤولية أو تهوين "أخطائها" في مقابل "جرائم المعارضة الشنيعة" أو حتى سكوت محسوب على دور مفترض للنظام في أزمات البلاد المستفحلة، فإن ذلك الأمر يفترض، بدون شك، خروجا من دائرة الموضوعية والنصح وإرادة الخير والدفع إلى البناء، إلى دائرة تصفية الحسابات والتشفي والانتقام وإرادة الهدم. هذا إذا لم يتعلق الأمر باستعمال محسوب لتلك الأحكام كمدخل، وربما كشرط، لتحقيق أهداف شخصية وطموحات فردية لا علاقة لها بالهم العام وبمصلحة البلاد من مثل مبتغى العودة الآمنة وتسوية الوضعية القانونية وضمان السلامة. ولا نفشي سرا إذا قلنا أن كل من كتب في المعارضة وأوفى لها الكيل في الفترة الأخيرة هو إما بصدد "الإعداد للعودة" بعد قرابة العقدين من التهجير القسري خارج الحدود أو أنه عاد أخيرا إلى البلاد بعد موافقة الأجهزة الأمنية طبعا. ولا شك أن للعودة في ظل تواصل حكم الدكتاتورية ثمن لا بد للمعارض أن يدفعه، معجلا أو مؤجلا. وللدكتاتورية قائمة في الأسعار تتناسب مع القدرة الشخصية أو بالأحرى الشرائية للمعارض والتي عادة ما يحددها موقعه التفاوضي في العملية التبادلية. وتتراوح هذه الأسعار بين الاستقالة من السياسة والتخلي عن الشأن العام، إلى إعلان التوبة وطلب الغفران، أو مهاجمة رفاق الأمس وبث الفتنة والوهن في صفوف المناضلين، أو التزلف والتطبيل للسلطان.. أو غيرها من الأثمان. ويبقى القرار الأول والأخير في أيدي البوليس السياسي الذي يمنح حق العودة لمن يشاء ويمنعه عمن يشاء (بعد أن يدفعه الثمن!). لا نريد أن يفهم من كلامنا هذا تجريم لكل من سلك درب الخلاص الفردي، بل نحترم تقديرات الكثير من الإخوة ونتفهم ظروف بعضهم الإستثنائية، وسبق أن كتبنا أن "المناضلين المتقاعدين هم شرفاء وإن ثبطوا". غير أننا نعتقد أنه من غير اللائق ادعاء الشرف في الخضوع للمساومات والانخراط في المناورات وإخراجها بلباس البطولة والشطارة لأن في ذلك استخفافا بذكاء الآخرين واحتقارا للشهداء والمساجين والمحاصرين من مناضلي الحرية والكرامة. مشروعهم : تبرير وتيئيس إن تسارع نسق الكتابات المهاجمة للمعارضة الوطنية من أبنائها السابقين وتزايد حدتها وتزامنها مؤشرات متعددة على وجود أهداف موحدة لما يمكن لنا أن نعتبره من هنا فصاعدا حملة عدائية تجاه من بقي في ميدان المقاومة ضد الظلم والطغيان في بلادنا. بعض هذه الأهداف بشرية إنسانية يمكن أن نتفهمها ونغض الطرف عنها والبعض الآخر خطيرة وتتجاوز دائرة المهاجمين لذلك لن نتردد في أن نقف لها بالمرصاد فنفضح خلفياتها ونحذر من آثارها. الهدف الأول هو تبرير دائم متجدد لانتهاج مسلك الخلاص الفردي ومحاولة تحويله من سلوك انعزالي فردي، فيه ذل وإنكسار، إلى خيار ذكي ومسؤول. ولعل أغلب ما كتبه "العائدون" أو "المستعدون للعودة المشروطة" في الفترة الأخيرة يدخل في هذا الباب، من حديث حب الأهل والأوطان وفرحة الأقارب والخلان وترحيب البوليس وابتسامة الأعوان وأولوية المصالحة وبطلان المناطحة وإنفتاح الأعين المغلقة وولوج الأبواب المقفلة وكثرة الحجاب وتوبة الشباب والثورة المعمارية والانجازات الرياضية .. وغيرها من الأحاديث التي تثير حفيظة الأصدقاء وسخرية الغرماء. الهدف الثاني هو الهجوم الاستباقي على أصدقاء الأمس، الذين ترفع أكثرهم للحقيقة والتاريخ عن مهاجمتهم ملتمسين لهم أعذار الضعف البشري، لدفعهم إلى وضع الدفاع عن النفس عوضا عن مهاجمة من غادر المركب و"باع العهود وخان المسؤولية".. ويتجلى الأمر بوضوح في التهديد الصريح الذي أطلقه بعضهم لإعلان الحرب إن مارس أصدقاؤه القدامى حقهم في الرد على ما بادر به من هجوم بدون مقدمات. هدف آخر لم يحاول بعضهم مجرد إخفائه ويتمثل في السعي الى توهين الأطر القائمة في ساحة المعارضة المبدئية وإذكاء الخلافات الداخلية (بين قيادات متسلطة تستأثر بالقرار والتمثيل والاعلام وكوادر وقواعد مقهورة تتحمل المغرم ولا تشارك في المغنم) والبينية (بين قيادات تتبادل الكره والمناورات الخسيسة وتعجز عن الالتقاء والتنسيق). وطبعا في إضعاف تلك الأطر هدم لخيارها المبني على مبدأ المقاومة. الهدف الأكبر حسب شكوكنا وتصورنا هو ضرب خيار "المبدئية"، المسمى تجنيا راديكالية، وإحداث حالة فراغ في الساحة الوطنية المعارضة ربما تسمح للبعض بتأسيس شرعية جديدة أو بعث إطار سياسي بديل يلتقي فيه المحبطون من أحزابهم والمختلفون مع قياداتهم والمقتنعون بعدم جدوى منهج المقاومة والساعون الى طي صفحة المواجهة والراغبون في ممارسة العمل السياسي دون دفع ثمن. ولاشك أن الفراغ الكبير الحاصل في وسط الساحة التونسية (الايديولوجي والسياسي) يسيل لعاب الكثيرين. ولكننا نعتقد جازمين أن هذا "الوسط" هو غير قابل للملء في ظل تواصل الدكتاتورية. حيث علمنا تاريخ البلاد والمنطقة والعالم أنه لا مكان للحياد في حكم الإستبداد، وأنه من لا يكون "صديقا" يأتمر بالأوامر وينتهي بالنواهي ويزكي ويدعم ويصفق، فهو يصنف حتما في خانة الخونة والمتطرفين والأعداء ، ويناله ما نال سابقيه من بلاء... غير أننا نحترم أي تقدير مخالف ونتمنى لأي إطار جديد النجاح والتوفيق مادام القائمون عليه يحترمون الأصول ويتوخون الوسائل النبيلة لخدمة الأهداف الشريفة. كما سنمد لهم أيدينا إذا ما تحولوا من منطق السب والشتم والتوهين وتحقير المعروف ومن اللغة الخشبية التي تدعي احتكار الوطنية وحب البلاد إلى منطق التواضع والدفاع عن الحق والقضايا العادلة والمطالبة بالمصالحة الحقيقية التي تبدأ باعلان العفو التشريعي العام وإزالة المظالم وإعادة الحقوق المسلوبة. كما سنصدقهم أكثر ونحترم شطارتهم متى جاؤونا بمؤشرات حقيقية، ليست من صنع الخيال، على وجود رغبة صادقة للسلطة وأعلى هرمها لإيقاف المظالم وإعادة الحقوق. عندئذ سنترك "أحقادنا" جانبا و"نأتيهم" لبناء المستقبل المشرق (مثلما دعانا لذلك أحدهم دون أن يعطينا العنوان أو أن يوضح لنا هوية "نحن" المخاطب!). وإلى أن يتحقق ذلك، ندعوهم بكل ود إلى عدم الاندفاع وراء السراب والحذر من الانزلاق في مستنقع التطبيع الآسن وإلى عدم نسيان التاريخ الذي لا تغفل ذاكرته عن الفاصل والنقطة. أما إن تمادت السلطة في قمعها للوطنيين من كل الإتجاهات وفي إحتجازها لمساجين الرأي وفي تعطيل الحريات ومنع المهجرين، ظلما وعدوانا، من العودة الكريمة للبلاد، وإن واصلت تبديد ثروات الدولة والتحكم في حاضر الشعب ومستقبله دون إعتبار للعباد فسيظل حقد التونسيين ضدها يتغذى ويكبر، كما علمهم ناظم "إرادة الحياة" أبو القاسم الشابي أن يفعلوا ضد "الظالم المستبد حبيب الظلام عدو الحياة". واستطرادا نقول بأنه لو قدر لشاعرنا الكبير أن يعيش معنا محنتنا الوطنية لكان حتما إما سجينا أو مهجرا أو في إقامة جبرية ولربما وصمه أصدقاؤنا بالحقد والتعنت. مشروعنا : ثبات وأمل ... إرادة وعمل أما نحن فسنظل نفضح التجاوزات ونناضل من أجل إستعادة الحقوق،وعلى رأسها حق عودة المئات من المهجرين الرافضين للابتزاز والمساومة، وسندفع بكل ما أوتينا من قوة مع الصادقين من بني وطننا من أجل تكتيل جهود المعارضة الوطنية الجدية القومية والإسلامية واليسارية في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ بلادنا. ونعتقد أنه آن الأوان لقيام مبادرة وطنية مشتركة تعيد المعارضة الى قلب الفعل خصوصا وأن الاستبداد قد وفر لها كل شروط النجاح بعد أن وحدها موضوعيا، حيث أراد إدانتها وإقصاءها، وقرب بينها ذاتيا، حيث ابتغى تفريقها وإحباطها. ولا شك عندنا في كون صولة الاستبداد بلغت في بلادنا حدا لا يطاق، قتلا وتعذيبا وتهجيرا وهتكا للأعراض وتضييقا في الأرزاق وتكميما للأفواه، غير أن ذلك لا يبرر القعود مع القاعدين أو الخوض مع الخائضين أو النزول عند إرادة المستبدين بل ينبغي أن يزيد الشرفاء من أهل الحق ثباتا وإصرارا ويقينا بقرب الخلاص. إن البحث عن سبل أخرى للخلاص من الاستبداد، غير الصمود في وجهه ومقاومته بكل الوسائل المشروعة، لا يعدو أن يكون خبط عشواء. بل إننا نجزم بانخراط هذه الرؤية العدمية في إستراتيجية الكيد والتمويه وصناعة الفوضى والإحباط التي تشكل كلها عناصر تغذية الاستبداد ودعائم حكمه الجائر. لقد اختاروا تجارة الإحباط واخترنا صناعة الأمل ويبقى التاريخ هو الفيصل والبقاء للأصلح.