هناك الكثير من التحاليل والقراءات والمراجعات التى تجرى على قدم وساق لفهم الأسباب الحقيقية للأزمة المالية العالمية، وبينما ينزع البعض إلى قراءة أيديولوجية شامتة تبشّر بنهاية الرأسمالية والعودة الحالمة إلى الأممية الاشتراكية، وتكتفى باستنتاجات شعورية، خاصة أن الدول الحاضنة لهذا الحلم أصبحت رأسمالية أكثر من دول غربية "روسيا، الصين.."، فإن القراءة الأقرب إلى المنطق هى التى تشير إلى أن الرأسمالية الأمريكية التى فجّرت الأزمة قد خرقت قواعد الرأسمالية ذاتها وأهمها أن تكون المخاطرة محسوبة وأن يكون الربح نتيجة عمل، ما جعلها تُغرق المؤسسات المالية بالمضاربات والمغامرات المنلفتة من أى عُقال. ولعل أبرز المراجعات والاستنتاجات التى خرج بها الكثير من الخبراء الاقتصاديين هى أن الرأسمالية تحتاج إلى أن تعيد تفعيل دور الرقابة على اقتصاد السوق، وهم يشيرون بوضوح إلى دور أكبر للدولة التى اكتفت خلال العقود الماضية بدور المساعد والداعم لهذا الجنوح الجنونى للرأسمالية نحو تجميع الثروات وتكديسها دون مراعاة الوضع الاجتماعى وواقع اليد العاملة.. لقد ضغطت الشركات الدولية الكبرى من أجل التخفيض إلى درجات دنيا فى حجم الضرائب على المشاريع ورؤوس المال رغم الأرقام الخرافية للأرباح بزعم أن ذلك يتنافى مع طبيعة ومفهوم اقتصاد السوق، وبالنتيجة فإن الدولة فقدت تأثيرها فى أهم عناصر التوازن الاجتماعي، وهو جهد تمويل والحفاظ على التكافل الاجتماعي، بمعنى آخر معالجة مخلفات التطبيقات الجشعة للرأسمالية. فضلا عن دورها فى حماية الاقتصاديات التونسية. وباعتقادنا هنا يكمن مربط الفرس.. وهنا نفهم سر خروج تونس من الأزمة المالية العالمية دون أضرار تُذكر على اقتصادها، فضلا عن تتالى الشهادات الدولية من جهات وهياكل مختصة لا يرقى إلى رأيها شك. لقد عبّر المدير العام لصندوق النقد الدولى عن إعجابه بالسياسة الاقتصادية لتونس وتمنى أن تكون نموذجا للاقتصاديات النامية، فما هى هذه السياسات، وكيف نجحت فى لجم غول الركود الذى تسرب إلى مفاصل أغلب الاقتصاديات المحلية. السبب الرئيسى الذى أنتج توازن الاقتصاد التونسى هو أن الدولة لم تترك دواليب العملية الاقتصادية بيد القطاع الخاص باسم حرية اقتصاد السوق، وكانت حريصة من خلال تدخلها على أن توجه العملية الاقتصادية من خلال إجراءات وتشريعات حمائية، ويمكننا أن نذكر هنا، على سبيل الحصر، الإجراءات التى أذن الرئيس زين العابدين بن على باتخاذها لدى اجتماعه الأسبوع الماضى بالوزير الأول، وخاصة الرفع من قسمة التسبقات على الصفقات العمومية من 10 إلى 20 بالمئة لفائدة المؤسسات الصغرى والمتوسطة بما يجعلها قادرة على اكتساب السيولة اللازمة لتصريف أعمالها. وهذه الروح الحمائية هى التى نجحت فى أن تُبعد الاقتصاد التونسى عن المضاربات وحافظت عليه كاقتصاد يقوم على قطاعات حقيقية منتجة تتطور اعتمادا على الخطط والبرامج وفى تناسق مع التطور الشامل للبلاد، وحتى الاستثمارات الخارجية التى كانت طرفا فعليا فى أزمة العقار الدولية أصبحت فى تونس نقطة قوة ودعم، ويكفى الإشارة إلى أن تونس مقدمة على إنجاز سلسلة من المشاريع الكبرى بمليارات الدولارات ستمكن من تحقيق آلاف مواطن الشغل الفعلية. ونذكر هنا أهم هذه المشاريع التى ترشح بلادنا لأن تكون قطبا اقتصاديا واستثماريا وماليا إقليميا ودوليا: مشروع "بوابة المتوسط" الذى تبلغ تكاليفه 25 مليار دولار، مشروع مدينة تونس الرياضية "14 مليار دولار"، مشروع بلاد الورد "10 مليارات دولار"، مرفأ تونس الدولى "3 مليارات دولار". ويتوقع خبراء اقتصاديون أن يستفيد الاقتصاد التونسى من "هروب" رؤوس الأموال التى كانت موظفة فى سوق العقارات الدولية، وخاصة الأمريكية، وهى رؤوس أموال تبحث عن الاستقرار، وهذا ما تحقق فى الاقتصاد التونسي. وعلى خلاف الدولة فى بعض الاقتصاديات الكبرى التى اكتفت بمتابعة فيلم المضاربات والمغامرات المالية واللهث وراء الأرباح الهائلة السريعة على حساب كل شيء، فإن السياسة الاقتصادية التونسية التى كانت محكومة بتلازم وثيق مع البعد الاجتماعي، وبالتوازى مع التشجيعات والتسهيلات التى أعطتها للمؤسسات عملت على أن يكون تطور وربحيتها فى تواز مع تطوير واقع الأجور لفائدة اليد العاملة. ونسجل هنا أن تونس هى الدولة الوحيدة التى تفضى فيها المفاوضات الاجتماعية إلى ضمان زيادة سنوية فى الأجور، وفيما تُسرّح المؤسسات الاقتصادية العالمية الكبرى مئات الآلاف من عمالها توفر تونس سنويا آلاف مواطن العمل الجديدة وتساعد آلاف الخريجين الجدد فى الحصول على تكوين وتأهيل يجعل من شهاداتهم قادرة على الاندماج مع سوق الشغل. وهناك أرقام تؤكد لأى مراقب أو خبير حجم التطور فى أى بلد من عدمه، ولعل الرقم الذى تحققه تونس فى خصوص اتساع حجم الطبقة الوسطى أبلغ رسالة على مستوى التقدم الذى تحققه وعلى أفق "تونس الغد". إذ تتسع هذه الطبقة لتصل إلى نسبة 81 بالمائة، وهو ما يعنى أن الغالبية المطلقة للتونسيين تعيش فى مستوى العيش الكريم بالمواصفات الدولية، فمعدل الدخل الفردى السنوى 5 آلاف دينار، وقد تضاعف 4 مرات خلال ال 20 سنة الماضية، كما أن نسبة التغطية الاجتماعية فى حدود 93 بالمائة. وهذه الأرقام مسنودة بالكثير من المشاريع والخطط التى غيّرت وجه تونس، ونشير، هنا، إلى ما جاء فى أرقام الميزانية التى عرضها منذ أيام الوزير الأول من أن تونس نجحت فى إحداث 80 ألف موطن شغل خلال هذه السنة، وستتدعم هذه الجهود خلال السنة المقبلة بتحقيق 43 ألف موطن شغل جديد لفائدة الخريجين، كما سيتم توفير 258 م.د من الاعتمادات المرصودة فى ميزانية 2009 لقطاع التشغيل. وأخذنا أرقام التشغيل كعينة على اتجاهات النمو الذى تحققه تونس فى مقابل انكماش الكثير من الاقتصاديات، ونزول أرقام نموها إلى درجات دنيا، لنشير إلى أن بلادنا التى تميزت بحذر إيجابى منع تسرب أزمة العقارات والمصارف، نجت فى أن تترك مواطنيها بعيدا عن التأثيرات السلبية ليس فقط للازمة المالية، بل وخاصة أزمة ارتفاع أسعار مشتقات المحروقات، وارتفاع أسعار المواد الأساسية. ويكفى أن نشير هنا إلى حجم الاعتمادات التى تُضخ إلى صندوق الدعم كما جاء فى أرقام الميزانية الجديدة، حيث تم رصد 1650 م.د منها 800 م.د لدعم المواد الأساسية و650 م.د لدهم المحروقات والكهرباء، و200 م.د لدعم النقل، وهى أرقام كبيرة قياسا إلى حجم الميزانية ذاتها. والفضل هنا يعود إلى سياسية حمائية من نوع آخر هى سياسة التضامن التى حققت للفئات الضعيفة ومحدودة الدخل، ولذوى الحاجات الخصوصية، الحماية الفعلية بتوفير نسق مستقر من المنح والإعانات والمشاريع لتنحسر نسبة الفقر فى حدود 3.8 وتنخفض نسبة المساكن البدائية إلى أدنى مستوياتها، أى 0.8 وتبلغ نسبة التزود بالماء الصالح للشراب والكهرباء إلى نسبة تقارب المائة بالمائة فى الوسط الحضري، و95 بالمائة فى الوسط الريفي. وخلاصة القول أن هذه الأرقام والمعطيات، وإنْ حققت توازنا فعليا للاقتصاد التونسى وأشركت مختلف الفئات فى التمتع بمكاسب التجربة التنموية، فقد جلبت شهادات الاعتراف والإعجاب، والتى كانت آخرها شهادة أمين عام صندوق النقد الدولى "ستراوس كان" التى جاءت لتعطى مدلولا إضافيا لتقرير منتدى دافوس الأخير وتعلن أن الاقتصاد التونسى أصبح يحوز ثقة الأوساط الاقتصادية الدولية. لكن هذا لا يعنى أن الأزمة، التى تفتح فمها لابتلاع مؤسسات عالمية ذات صيت وإمكانيات عالية، مثل أشهر شركات السيارات، لا تحتاج إلى المزيد من الحيطة والحذر وتوقع المزيد من التحديات التى تعودت تونس على رفعها. صحيفة العرب اللندنية 19/12/2008