كانت الكابة تخيم علي حين تجولت اخر مرة مطلع السنة في محيط شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة تونس , حين تزامنت زيارتي مع العدوان الهمجي على غزة المحاصرة , وكانت السلطات انذاك تستنفر أجهزتها لتكون رقيبا صارما على أنفاس رجل الشارع ... بين محطة قطار برشلونة الكئيبة والتي لم تواكب مايشهده العالم من نمو سريع في شبكة سككه الحديدية ..وبين الشوارع الخلفية لأضخم شارع رئيس يشق حداثة وجه العاصمة ..تجولت برفقة زميلة اعلامية ...وكان الحديث ممتشقا هضاب وهموم وشعاب مكابدات الحرية وتطلعات المثقفين ... شعرت يومها بضائقة نفسية غير مسبوقة بعد أن فوجئت يوم الخميس الثامن من جانفي 2009 بما لايسر أو يطمئن الأنفاس ... حاولنا أن نتحدث يومها عن قضايانا الوطنية بحرية , ولكنني جلست بالمقهى متأملا حالة كبت حواري ورقابة ذاتية لم ترغبني في خوض مشوار العودة من بابه الكبير .. عليك أن تحاذر الفنجان والطاولة التي تجلس عليها أو حتى جلاس الكراسي من حولك ونظراتهم المريبة أحيانا اليك ... سرعان ماشعرت بالبرد القاسي في ركن نائي بمقهى مجاور لمحطة الميترو .., ثم قررت ومرافقتي التجوال بعد أن أتممت ترشف قهوة لم أتذوق أو أستعذب حلاوتها بعد أن شدني الحنين الى حرية التعبير كما حرية الضمير تحت سماء ألمانيا ... هناك في ذاك البلد الطيب تونس , ترى الجميع يعج في حركة صارمة وسريعة تحت ضغط من سلطان مكابدات الحياة ... لم نستطع أن نتحدث بحرية مطلقة عن قناة الجزيرة ولا عن واقع الحياة السياسية ولا عن واقع المجتمع المدني .., فأينما تلتفت فعليك بالحذر والمحاذرة ...! أصبحت أطوع كلامي وأخفض صوتي تأقلما مع مشهد ديمقراطي على الطريقة التونسية ..., ديمقراطية -الروموت كونترول- وتحكم الأجهزة الخفية ... لم تحدثني نفسي بكثير من المغامرة وقد أرهقتني هواتف ابني وحنينه المستمر الي ثم الى الهدية التي وعدته بها بعد أن قدمت له صورة وردية عاشقة عن وطن أبيه ... البلد جميل حتما في شريطه الساحلي وكثير من بناه العمرانية المنتشرة على شمال وسواحل البلاد , لولا غياب العدالة الاجتماعية في توزيع الثروة وتخلف بعض المدن عن مواكبة الحراك الذي تشهده العاصمة تونس وبعض ضواحيها ... كنت يومها أرصد واقعا جديدا غبت عنه 17 سنة , فالناس باتوا غير الناس الذين عرفتهم .., والكل يتحدث عن غلاء المعيشة وتدهور القدرة الشرائية , وبالمقابل ترصد بالبلد أحدث الماركات المسجلة وأحدث المباني وأحدث السيارات وأجمل الفيلات ..., وعلى عيون الناس تلمس حالة من الحزن واعراضا عن كثرة الكلام المباح ... في القطار جالسني رجل جريء كان يتحدث في كل شيء الا السياسة فقد كانت حدود الحمى التي يخشى الجميع مواقعتها على مرأى ومسمع من الناس ... اكتشف في محدثي رجلا لبقا ومثقفا يتقن الفقه السياسي والاقتصادي والاجتماعي المقارن , فأصر على مجالستي شوقا الى اخر برهة ..., كان يتحسر على مغادرتي البلاد وعدم توظيفي لخبرات ومعارف ومواهب داخل حدودها ... حيثما جلست وحيثما تحدثت وحيثما حللت كان الترحاب يرافقني وكان الشوق يشدني الى وطن أصبحت تفصلني عنه مسافة عقدين تقريبا ... كدت أن أتيه أمام تقهقر قيمة عملة وطنية التهمها واقع التضخم المالي ..., فالعشرون دينارا أصبحت أكذوبة وهمية ليس لها معنى ...! , والكل بات يحدثك عن أرقام أثارت شفقتي على مواطن بسيط ليس له أن يواجه بمرتبه الضعيف تحديات واقع اجتماعي مجحف ... الأسواق تتوفر قطعا على أطيب وأحلى مذاق .., ولكن سواق التاكسي يحدثونك عن واقع الأزمة قبيل أيام العيد حين غدى البعض عازفا عن دفع مصاريف سيارة الأجرة ... تونس بلد طيب وأهله طيبون والكل كان يعرض علي زيارته في أيام قصيرة لم تكفني حتما لمعايشة تجربة جديدة غبت عنها وغابت عني كل هذا الامتداد الزمني القهري ! ... رواسب الظلم الذي عاشه الناس مازالت تخيم على واقع يطمح التونسيون الى تجاوزه للأبد ..., ففي تونس يعود الناس بقوة الى أقوى مظاهر الأصالة دون أن يتجرؤوا على مقام مواجهة الشوكة بالاسفين ... أدركت أن مطامحي الى الحرية وأشواقها مازالت على مسافة بعيدة مما أصبو اليه ..., وقد المني أن أمر على مناضلين سابقين عرفت تونس اثار شرف أقدامهم مطلع التسعينات فأرى بعضهم متوجسا خيفة من أجهزة وهياكل مازالت تحكم الخناق على أنفاس المواطن ... تجاوز اخرون الرهبة وداسوها بأقدامهم في شموخ وتجاسروا على معانقة الحرية ببسالة فافتكوا مقاعد لي من اللقاء معهم والحديث الممتع ... كانت الدعوات تصلني من هنا وهناك وبينهما كنت أمني النفس بلقاء الجميع ..حتى بمن كان مسؤولا عن خيارات سياسية خاطئة طيلة عقدين مضيا من الزمان ... كنت متشوفا الى المضي قدما في تجربة سياسية جديدة أؤسسها على الثقة والتعاون في الخيرات من أجل الصالح الوطني العام ..., لكن أحداث غزة وماواجهه التونسيون اثنائها من ردود فعل سلطوية قوية ..ذهبت على مايبدو بكثير من الامال والتطلعات ... كانت محاكمات المنتفضين في أحداث الحوض المنجمي بقفصة واعادة الدكتور صادق شورو الى السجن وردة الفعل الأمنية المبالغ فيها تجاه الرأي العام المتضامن بقوة مع أشقاء غزة المنكوبة , كان كل ذلك مقدمة عسيرة لمراجعة حسابات وتطلعات وأماني بأن أرى تونس على سكة التصالح بين حكامها ومحكوميها ... لم أكن عاطفيا لحظة اتخاذ القرار , وكانت كل المعطيات تفيد لدي بأن جناحا ما قد اتخذ قرارا بتقويض كل مشاريع وامال مصالحة وطنية طالما تشوفت اليها منذ مطلع الألفية الجديدة , ثم مالبثت أن تحولت الى سبب رئيس في صراع علني بيني وبين أصدقاء ورفاق تتجاذبني معهم أهواء الوطن الحر والمواطنة الحرة ... *كاتب واعلامي تونسي- رئيس تحرير صحيفة الوسط التونسية : [email protected] ?XML:NAMESPACE PREFIX = SKYPE / الهاتف 00491785466311 حرر بتاريخ 22 مارس 2009