بواقعية وموضوعية قام فولكر بيرتيس، الخبير بشئون الشرق الأوسط ومدير مؤسسة العلوم والسياسة في برلين، في كتابه "إيران – تحديات سياسية" بتحليل طبيعة الجدل والإشكاليات المحيطة بالسياسة الإيرانية خارجيا وداخليا. كما نجح، على وجه الخصوص، في تحليل المجتمع الإيراني وعرض الاختلافات والتباينات داخله بصورة رائعة. سباستيان سونس يعرفنا بهذا الكتاب. تعد إيران أكبر دولة إشكالية وأكثر دولة تدور حولها معظم الحوارات وأصعب دولة فهما في التغطية الإعلامية السياسية الحالية. وعادة لا يُلتفت إلى تنوع الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية في الجدل الدائر حول هذا البلد. أما الحوارات العامة فتتسم بالأوصاف البغيضة والأدلة الوضيعة التي لا تظهر الجانب "الجيد" ولا الجانب "السيئ" لإيران، ذلك أن التحليلات الواقعية تعتبر من الندرة بمكان. لكن فولكر بيرتيس يُعد في هذه المسألة استثناءً بالمعنى الإيجابي. هذا الرجل، الذي يدير مؤسسة العلوم والثقافة في برلين يتميز – إلى جانب عِلمه التخصصي – استطاع بكفاءته العالية وبواقعية وهدوء وتمييز معتدل أن يحلل المسائل الجدلية المحيطة بإيران، التي تعتبر ساحة مشاكل مترامية الأطراف، حيث وجد ذلك تعبيرا له في دراسته التي ظهرت حديثا بعنوان "إيران – تحديات سياسية". الاختلافات داخل المجتمع الإيراني : لقد استطاع بيرتيس في هذا الكتاب، الذي يحتوي على 156 صفحة، أن يشرح معالم إيران ويكسر الأنماط المألوفة. وبينما يُساء فهم أقوال الرئيس محمود أحمدي نجاد في الغالب على أنها تعكس الرأي السائد في إيران، استطاع بيترس بكلمات بسيطة، ولكنها بليغة في التعبير، أن يعرض التباين الموجود داخل المجتمع الإيراني. وبيّن في هذه الدراسة أيضا، بأسلوب مقنع، أن النقد داخل إيران ضد الرئيس يعتبر أحد بنود الأعمال اليومية في الحياة السياسية. وتعتبر السياسة الاقتصادية الخاطئة التي يتبناها أحمدي نجاد وهجومه العنيف في سياسته الخارجية أهم نقطتين مختلفتين جعلتا أحمدي نجاد في موقف الدفاع طيلة حكمه. إن لبيرتيس الحق في أن يصف إيران على واقعها، فهي دولة بها أكثر الاتجاهات والتيارات السياسية اختلافا. وفي هذه الاتجاهات والتيارات توجد اختلافات اجتماعية وحزبية سياسية وخطوط صراع يجب على المرء أن يضعها في الاعتبار عند النظرة الشاملة للمسرح السياسي إذا أراد المرء أن يقيم في المستقبل حوارا دائما مع إيران. سياسة معرقلة واقتصاد معرقل : ثم يلقي بيرتيس الضوء على الموقف الاقتصادي، ويقول إن إيران – على الرغم من مخزونها الهائل من البترول والغاز الطبيعي – إلا أنها لا تزال دولة مصنّعة جديدة. إن كلا من الدعم المالي ومعامل تكرير البترول المستهلكة ونفوذ الأوقاف الدينية (بُنياد)، الذي لا يزال قويا، وأيضا التوجيه الاقتصادي الحكومي غير المرن أدى إلى عرقلة النمو والتطور في البلاد. هناك قطاع من النخبة يطالب بالانفتاح والخصخصة والليبرالية وينتقد "سياسة الاقتصاد الشعوبية" للرئيس، التي أثبتت حتى الآن أنها غير فعّالة على الإطلاق. بيد أن الجناح البرلماني القوي التابع للقوى المحافظة يساند سياسة العزلة وسياسة حماية الإنتاج الوطني. تصرف بحكمة: إن السياسة الإيرانية ليست متهورة على الإطلاق، كما يصفها الغرب في كثير من الأحيان. بل على العكس من ذلك، فحسبما تقول نظرية بيرتيس "إن جمهورية إيران الإسلامية تتصرف بحكمة ومنطق وتُوازِن بين الفرص والمخاطر وتحاول مضاعفة منافعها الخاصة". بناءً على ذلك فإن إيران تطمح إلى قيادة الشرق الأوسط والأدنى، خاصة بعد ما حل في العراق والحضور المتناهي للولايات المتحدة في المنطقة. فإيران لا تثق في أحد، على حد قول بيرتيس. وهناك ما يؤكد ذلك تاريخيا، مثل ما فعلت 'سي أي ايه' والمخابرات البريطانية في خلع أول رئيس وزراء إيراني منتخب بصورة حرة وديمقراطية فريدة، محمد مصدق، عام 1953. ومع ذلك فإنه من الاستنتاج الخاطئ القول بأن إيران لا تحرص على العلاقات مع الولاياتالمتحدة، كما يفترض بيرتيس. فحتى أحمدي نجاد مهتم بذلك على الرغم من الاتهامات التي يوجهها لأمريكا. وعد بحذر : وفيما يتعلق بالبرنامج النووي يحتفظ بيرتيس بنظرته التفصيلية ويتجلى بمظهر الواقعية والتحليل. ويرى أن الغرب عندما يفترض أن إيران تسعى لامتلاك "القنبلة النووية" فإنه ليس من المؤكد ماذا يريد البلد بالفعل، ويعلق قائلا: "من الممكن أن نقول بأن جزءا مهما من المسئولين يرون أن الصراع حول البرنامج النووي يتعلق بمسألة المساواة في العالم وإيران تريد لنفسها ما هو مسموح للآخرين". لكن بيرتيس ينبه بحزم أن تأكيد إيران على استخدام الطاقة النووية في أغراض سِلمية فقط يجب التعامل معه بحذر بالغ، ولا ينفي وجود أخطار، وينصح بوضع استرتيجية للتعامل مع إيران في المستقبل. ويرى أيضا أنه من الأفضل تطبيع العلاقات الإيرانيةالأمريكية لأنها ستدعم تطبيق الليبرالية في البلد. ويقترح أن تلعب جمهورية جنوب إفريقيا دور الوسيط ولأنها ليست تابعة لأي كتلة وتملك برنامجا نوويا فإنها تحظى بالمصداقية كشريك في المفاوضات. برجماتية وواقعية : ويصف بيرتيس إيران ببلد الصراعات الداخلية، فهناك مشاحنات بين المتشددين والمصلحين البراجماتيين، وبين التقليديين والمجددين، وبين المتدينين والنخبة العلمانية، وبين الدولة والمجتمع، وبين الطاقة الشبابية والعناد المتجاوز للثورة. يعتبر كتاب بيرتيس مناسبا للمهتمين غير المتخصصين وأيضا للخبراء لأنه يبين كيف يمكن للمرء أن يعالج موضوعا ببرجماتية وواقعية دون أخطار تهدد إهمال بعض الحقائق. "إيران – تحديات سياسية" لفولكر بيرتيس، دار النشر Suhrkamp، فرانكفورت 2008. Volker Perthes: "Iran – eine politische Herausforderung"