تونس / السعودية: توقيع اتفاقية اطارية جديدة مع المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة    شركة النقل بتونس تطلق خطا جديدا يربط تونس البحرية بمطار تونس قرطاج    معز السوسي: "تونس ضمن القائمة السوداء لصندوق النقد الدولي.."    قرار جديد من العاهل السعودي يخص زي الموظفين الحكوميين    ثمن نهائي بطولة مدريد : أنس جابر تلعب اليوم ...مع من و متى ؟    بطولة ايطاليا : رأسية أبراهام تمنح روما التعادل 2-2 مع نابولي    غوارديولا : سيتي لا يزال أمامه الكثير في سباق اللقب    سان جيرمان يحرز لقب البطولة للمرة 12 بعد هزيمة موناكو في ليون    طقس اليوم: أمطار متفرقة ورياح قوية والحرارة تصل إلى 34 درجة    عاجل/ تفكيك شبكة مُختصة في الإتجار بالبشر واصدار 9 بطاقات إيداع بالسجن في حق أعضائها    العثور على شخص مشنوقا بمنزل والدته: وهذه التفاصيل..    حزب الله يرد على القصف الإسرائيلي ويطلق 35 صاروخا تجاه المستوطنات..#خبر_عاجل    غدا نزول كميات هامة من الأمطار بهذه الجهات    عملية تجميل تنتهي بكارثة.. وتتسبب بإصابة 3 سيدات بالإيدز    دولة الاحتلال تلوح بإمكانية الانسحاب من الأمم المتحدة    السعودية: تحذير من طقس اليوم    السعودية: انحراف طائرة عن المدرج الرئيسي ولا وجود لإصابات    سينعقد بالرياض: وزيرة الأسرة تشارك في أشغال الدورة 24 لمجلس أمناء مركز'كوثر'    عملية تجميل تنتهي بكارثة.. وتتسبب بإصابة 3 سيدات بالإيدز    قبل نهائي رابطة الأبطال..«كولر» يُحذّر من الترجي والأهلي يحشد الجمهور    الرابطة الثانية (ج 7 ايابا)    أسير الفلسطيني يفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية    حادث مرور مروع ينهي حياة شاب وفتاة..    أولا وأخيرا: لا تقرأ لا تكتب    افتتاح الدورة السابعة للأيام الرومانية بالجم تيسدروس    إيران تحظر بث مسلسل 'الحشاشين' المصري.. السبب    بين قصر هلال وبنّان: براكاج ورشق سيارات بالحجارة والحرس يُحدّد هوية المنحرفين    البنك التونسي للتضامن يحدث خط تمويل بقيمة 10 مليون دينار لفائدة مربي الماشية [فيديو]    نابل: إقبال هام على خدمات قافلة صحية متعددة الاختصاصات بمركز الصحة الأساسية بالشريفات[فيديو]    2024 اريانة: الدورة الرابعة لمهرجان المناهل التراثية بالمنيهلة من 1 إلى 4 ماي    عميد المحامين يدعو وزارة العدل إلى تفعيل إجراءات التقاضي الإلكتروني    بودربالة يجدد التأكيد على موقف تونس الثابث من القضية الفلسطينية    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    بطولة مدريد للتنس : الكشف عن موعد مباراة أنس جابر و أوستابينكو    جمعية "ياسين" تنظم برنامجا ترفيهيا خلال العطلة الصيفية لفائدة 20 شابا من المصابين بطيف التوحد    الدورة الثانية من "معرض بنزرت للفلاحة" تستقطب اكثر من 5 الاف زائر    تسجيل طلب كبير على الوجهة التونسية من السائح الأوروبي    استغلال منظومة المواعيد عن بعد بين مستشفى قبلي ومستشفى الهادي شاكر بصفاقس    تونس تحتل المرتبة الثانية عالميا في إنتاج زيت الزيتون    الأهلي يتقدم بطلب إلى السلطات المصرية بخصوص مباراة الترجي    اليوم.. انقطاع الكهرباء بهذه المناطق من البلاد    وزير السياحة: 80 رحلة بحرية نحو الوجهة التونسية ووفود 220 ألف سائح..    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف لقوات الاحتلال على النصيرات    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    السيناتورة الإيطالية ستيفانيا كراكسي تزور تونس الأسبوع القادم    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    منوبة: تفكيك شبكة دعارة والإحتفاظ ب5 فتيات    مقتل 13 شخصا وإصابة 354 آخرين في حوادث مختلفة خلال ال 24 ساعة الأخيرة    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تونس على أبواب انتخابات رئاسية وبرلمانية: تنظيم الديمقراطية الشكلية
نشر في الوسط التونسية يوم 23 - 09 - 2009

ستتسم الانتخابات الرئاسية المقررة في 25 تشرين الاول/أكتوبر بخمس سمات رئيسية هي:
• فوز ساحق لمرشح الحزب الحاكم الذي عُبئت جميع أجهزة الدولة لحملته قبل الانتخابات بأكثر من سنة، إن بالصور العملاقة في الشوارع والساحات وعلى المباني العمومية والخاصة، أم في وسائل الإعلام المختلفة.
• حصول "التجمع الدستوري"، حزب الرئيس بن علي، على 75 في المائة من المقاعد في مجلس النواب (259 مقعدا) في مقابل 25 في المائة للأقلية (53 مقعدا)، مع إبقاء "الديمقراطي التقدمي"، الذي صنفه المراقبون على أنه أهم حزب معارض، خارج البرلمان.
• بقاء الحركة الإسلامية خارج المعركتين الرئاسية والبرلمانية بسبب انكفائها على علاج وضعها الذاتي في أعقاب تفكيك جهازها التنظيمي مطلع التسعينات، ووجود غالبية قيادتها في المنفى وإخضاع قيادييها وكوادرها في الداخل لرقابتين، إدارية وأمنية.
• تزايد نسبة العزوف عن المشاركة في الاقتراع لقلة الثقة بالنتائج وبصدقية المسار الانتخابي. وقُدرت نسبة المشاركة في عمليات التصويت خلال الانتخابات السابقة ب20 في المائة في المتوسط، إلا أن الأرقام المعلنة وضعتها في مستوى 80 في المائة.
• استمرار التدافع بين الحكم والمعارضة في شأن استقدام مراقبين أجانب.
هذه السمات الخمس هي نتيجة للمسار الذي قطعه النظام السياسي في تونس منذ 1987، تاريخ تنحية رئيس الجمهورية الأول الحبيب بورقيبة (1903 – 2000). ففي أواخر عهده، لم تعد تُقام انتخابات رئاسية بعدما سماه البرلمان رئيسا مدى الحياة (1975). وتعهد خليفته زين العابدين بن علي بإعادة السيادة إلى الشعب وإنهاء الرئاسة مدى الحياة. لكن الانتخابات الرئاسية التي جرت في 1989 و1994 لم تختلف عن العهد البورقيبي، إذ كان فيها مرشح وحيد هو مرشح "التجمع الدستوري الديمقراطي" الحاكم. وعمليا لم تكن التعددية ممكنة لأن القانون يشترط من المتطلعين للصعود إلى سدة الرئاسة الحصول على ترشيح من ثلاثين نائبا أو رئيس بلدية، فيما البرلمان من لون واحد وكذلك البلديات. ومن أجل الانتقال إلى تعدد الترشيحات، كان لا بد من تعديل القانون أو في الأقل الالتفاف على الشرط السابق، فتم اللجوء في 1999 و2004 و2009 إلى قوانين خاصة تنتهي صلاحيتها مع نهاية الانتخابات، أتاحت لرموز من أحزاب الموالاة منافسة مرشح الحكم نظريا. واستطاعت "حركة التجديد" (الحزب الشيوعي سابقا) في الوقت نفسه ترشيح أحد قيادييها محمد علي الحلواني في 2004 وأمينها العام أحمد ابراهيم في 2009، لكن في كل مرة يُعطى أكثر من 95 في المائة من الأصوات إلى المرشح الرسمي، وتُمنح وزارة الداخلية الصلاحية المطلقة لتنظيم الانتخابات من الألف إلى الياء، إذ لم توجد في تونس أبدا لجنة عليا تُشرف على إدارة الاستحقاقات الانتخابية.
ومع إدخال "تعديل جوهري"على الدستور في استفتاء أجري في 2002 ، ألغي سقف الولايتين الرئاسيتين وصار في وسع الرئيس الترشيح لعدد غير محدود من الولايات، ما شكل عودة للرئاسة مدى الحياة في شكل جديد. وعكست تلك الترقيعات رغبة الفئة الحاكمة باستمرار احتكارها للسلطة وفرض نموذجها على المجتمع، لمواجهة القوى الصاعدة التي طرحت مطالب الإصلاح والتداول السلمي على الحكم، لكنها لم تستطع إسماع صوتها. وتُعزى هذه الغلبة إلى السيطرة المطلقة لأجهزة الحزب الحاكم على الدولة، وإخضاع تسمية المسئولين في جميع المستويات لمعيار التحزب، بالإضافة لتوسعة آلة القمع التي حصدت آلاف النشطاء، وخاصة من الإسلاميين، وأنهكت أيضا المعارضات الأخرى وأضعفت المجتمع المدني.
وتزامنت تلك التطورات مع تواري فئات اجتماعية كانت مسيطرة خلال الحقبة البورقيبية، وصعود مجموعات من الدائرة الأسرية للحاكم أمسكت تدريجا بالقرار الاقتصادي، وصارت تتصدى لأي تغيير لأنه قد يُجردها من مكاسبها. واستُخدم الخطاب السياسي "الحداثي" والمناهض في شكل صريح للحركات الأصولية، غطاء لتبرير المحافظة على بنية سياسية احتكارية ونظام إعلامي مغلق لا مكان فيه لتعدد الخيارات أو لصراع الآراء. كذلك أغدق الحكم الجديد أنواعا مختلفة من التسهيلات والامتيازات على الفئات الوسطى، من خلال مرونة الحصول على قروض مصرفية لبناء بيت أو شراء سيارة، ما أدى إلى ارتفاع غير مسبوق للمديونية الأسرية، وجعل غالبية أرباب الأسر يتوجسون من الانخراط في العمل السياسي أو حتى في المنظمات الأهلية المستقلة، خشية التعرض لمضايقات وملاحقات جبائية أو قضائية.
لذلك ظل الحكم يُمسك بالسلك الكهربائي في مجال الترشيحات للرئاسة كي لا يُفتح باب التغيير، مُعتمدا على آليات لا تختلف في الجوهر عن تلك التي استخدمها بورقيبة، لكنها متأقلمة مع انتشار الديمقراطيات في العالم بعد نهاية الحرب الباردة. ففي أعقاب عزل بورقيبة، بادر الحكام الجدد إلى تنظيم انتخابات عامة مبكرة لإضفاء شرعية على نفسه من دون أن يكون أحد طلب منه ذلك. وسارع الرئيس الجديد الذي تسلم رئاسة الحزب الحاكم إلى تنظيم مؤتمر عام للحزب، وغيّر اسمه إلى "التجمع الدستوري الديمقراطي" سنة 1988، مُستوعبا غالبية الكوادر وقيادات الصفين الثاني والثالث أيام سلفه.
استجابة جزئية
تتزامن في تونس الانتخابات الرئاسة والبرلمانية. واستعدادا للانتخابات المبكرة عام 1989، أدخلت تعديلات على القانون الانتخابي شكلت استجابة جزئية لمطالب المعارضة. غير أن النظام الانتخابي حافظ على علته الرئيسية، وهي الاعتماد على نظام اللوائح بطريقة تعطي جميع المقاعد في الدائرة لمرشحي اللائحة الفائزة بأكبر عدد من الأصوات. وطبقا لهذا النظام، تفوز اللائحة الأولى بجميع المقاعد المخصصة للمحافظة، ويُراوح عددها بين مقعدين وأربعة عشر مقعدا بحسب حجم السكان. ولا يمكن للمرء أن يتصور أن يُسلم الحزب الحاكم بخسارة جميع مقاعد محافظة من المحافظات، أيا كان حجمها، واعتبارها منطقة متمردة على السلطة. لذا، فبقدر ما كانت اللعبة الانتخابية مُشوقة بسبب مشاركة جميع أطياف الساحة السياسية فيها، ظلت النتائج متوقعة سلفا طالما لم يتم إدخال جرعة من النسبية، تكون البوابة التي تدلف منها المعارضة، للمرة الأولى، إلى مجلس النواب.
شاركت في الانتخابات ستة أحزاب بأسمائها الصريحة، وهي "التجمع الدستوري الديمقراطي" و"حركة الديمقراطيين الاشتراكيين و"الحزب الشيوعي" و"حزب الوحدة الشعبية" و"التجمع الاشتراكي التقدمي" و"الحزب الاجتماعي التحرري"، بالإضافة الى لاعب جديد هو "حركة الاتجاه الإسلامي"، التي غيرت اسمها إلى "حركة النهضة" استجابة لبنود قانون الأحزاب الجديد الصادر سنة 1988، والتي خاضت الانتخابات تحت عنوان "القائمات المستقلة". جرت الحملة الانتخابية في مناخ جديد، إذ سُمح للجميع، بمن فيهم الإسلاميين، بحرية العمل، مع تضييقات محدودة. لكن، وفي ضوء القانون الانتخابي القائم، كان الخيار محصورا بين أن تفوز لائحة من لوائح المعارضة بكامل المقاعد في إحدى الدوائر، ما يعني فشل جميع مرشحي "التجمع الدستوري" في تلك الدائرة باعتبار الاقتراع يتم على اللوائح وليس على الأفراد، وبين أن يحصد الحزب الحاكم جميع مقاعد المجلس. وطبعا أعلن عن فوز ساحق لبن علي، المرشح الوحيد للانتخابات الرئاسية، بنسبة تجاوزت 90 في المائة من الأصوات، فيما أعطيت جميع مقاعد البرلمان لحزبه، وأسندت 17 في المائة من الأصوات ل"اللوائح المستقلة" (حركة النهضة)، وتُرك فُتات للأحزاب الأخرى. وشكلت تلك النتائج رسالة قوية أثبتت أن الحكم الجديد ليس لديه مشروع ديمقراطي، وأنه أعاد ترتيب أوضاع البيت للاستمرار في إدارة الدولة والمجتمع بالقبضة نفسها، ولكن في ظل خطاب تعددي. كما أظهرت أيضا غياب أي مشروع بديل لدى المعارضة، إذ بدا "بيان 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987" الذي أتى بن علي على أساسه إلى الحكم، هو السقف السياسي لجميع الأحزاب، وهو ما يفسر أن لا أحد اقترب من الانتخابات الرئاسية التي بدت محسومة سلفا، وبدا أن الجميع مُقرون مجاهرة أو مداورة بأن بن علي هو رئيسهم، مع أنه يقود حزبا منافسا.
ضربة ل"النهضة"
ما أن طُويت تلك الصفحة بما خلفته من مرارة لدى الأحزاب، وإحباط لدى المواطن الذي نفض يديه من أمل التغيير، بسبب قوة الصدمة التي لم يكن يتوقع أن تحدث بعد رحيل بورقيبة من الحكم، حتى بدأت المناوشات بين الحكم وحركة "النهضة" تمهيدا لضربة شاملة بلغت ذروتها في 1991 –1992. وعندما فُتحت صفحة انتخابات جديدة في1994 ، كان بن علي المرشح الوحيد فيها للرئاسة، فيما حاول الحكم امتصاص الغضب بإهداء مقاعد في مجلس النواب للمعارضة. واستند هذا الانتقال من برلمان وحيد اللون إلى برلمان تعددي على تعديل تم إدخاله على القانون الانتخابي حافظ على نظام القوائم، الذي يؤدي إلى الاحتكار، مع إيجاد حصة من 19 مقعدا خارج المنافسة تُوزع على أحزاب الأقلية. وبموجب ذلك التعديل دخلت أربعة أحزاب، بما فيها الحزب الشيوعي، إلى البرلمان للمرة الأولى فيما لم يتسن للحركة الإسلامية المشاركة بوصفها باتت حركة محظورة وقياداتها في السجون، ولم تُعط ل"التجمع الاشتراكي التقدمي" مقاعد على رغم مشاركته في الانتخابات بسبب انتقاداته لسياسة الحكومة ورفضه اعتماد الخيار الأمني في مواجهة الحركة الإسلامية. ومرة أخرى ظهر أن القانون الانتخابي هو أساس السيطرة على الهيئات المنتخبة. ولا مكان في هذا النظام للدوائر الفردية مثلا، لأنها ستُفرز زعامات من المعارضة قد تصل إلى البرلمان بجهدها وليس بموافقة وزارة الداخلية التي تتحكم في جميع حلقات الانتخابات. واستمر المشهد بنفس الملامح الجوهرية، في الانتخابات البرلمانية التالية سنة 1999، والتي زادت معها إلى 34 مقعداً الحصة الممنوحة ل"المعارضة الأليفة" مثلما باتت تُسمى. لكن ظل "التجمع الاشتراكي التقدمي" الحزب القانوني الوحيد المُبعد من البرلمان بسبب خطه النقدي.. وأفرزت تلك التجربة مع ذلك تبلور فريق معارض في مجلس النواب مارس ضغوطا على الحكومة في ملفات عدة، وسبب احتكاكات وصلت إلى حد رفع الحصانة البرلمانية عن النائب خميس الشماري وإدخاله السجن، إضافة لتوعد نواب آخرين. وأتاحت الانتخابات اللاحقة الانتقام منهم بعدم التجديد لهم، فيما أعيد زملاء لهم من الأحزاب نفسها إلى مجلس النواب.
أما على صعيد الرئاسية، فأتت انتخابات 1999 بجديد على صعيد الترشيحات، إذ أجيز لاثنين من زعماء الأحزاب الأكثر قربا من الحكم الترشيح للرئاسة إلى جانب بن علي. وأتى القانون الاستثنائي الذي تم على أساسه ترشيح محمد بلحاج عمر، أمين عام حزب الوحدة الشعبية" وعبد الرحمن التليلي أمين عام "الإتحاد الديمقراطي الوحدوي"، التفافا على شرط التذكية الكتابية من ثلاثين نائبا أو رئيس مجلس بلدي. وبدل تغيير القانون لتعبيد الطريق أمام تعدد الترشيحات للرئاسة، سن مجلس النواب قانونا لا يصلح للاستخدام سوى مرة واحدة. فقد أجيز لزعماء الأحزاب الممثلة في البرلمان منافسة مرشح الحزب الحاكم، إلا أن القانون الاستثنائي وضع شروطا إضافية كانت مفصلة حرفيا على مقاس بلحاج عمر والتليلي ليصبحا الوحيدين المؤهلين للترشيح. وأعطي "المنافسان" سيئي الحظ أقل من 2 في المائة من الأصوات، وكان أحدهما حض الناخبين في اجتماع انتخابي يتيم عقده أثناء الحملة على التصويت لبن علي! وبعد أقل من سنة فُرضت على بلحاج عمر الاستقالة من رئاسة الحزب ثم أتى الدور على التليلي، الذي كان يشغل منصب رئيس مؤسسة المطارات، ليوضع في السجن بتهمة الفساد.
أربعة مرشحين
تكرر سيناريو 1999 في الانتخابات التالية التي جرت في 2004، إذ سن البرلمان بطلب من بن علي قانونا استثنائيا آخر أتاح توسيع دائرة المرشحين للرئاسة إلى أربعة هم: محمد علي حلواني عن "حركة التجديد" (الحزب الشيوعي سابقا) ومحمد بوشيحة عن "حزب الوحدة الشعبية" ومنير الباجي عن "الحزب الإجتماعي التحرر" واحمد الإينوبلي عن "الإتحاد الديمقراطي الوحدوي". لكنهم أعطوا أقل من 5 في المائة من الأصوات مجتمعين، فيما حرم القانون أمين عام "الحزب الديمقراطي التقدمي" (التجمع الاشتراكي سابقا) من الترشيح بدعوى أن الحزب غير ممثل في البرلمان. لكن اللافت هو تعديل الدستور للإفساح في المجال أمام بن علي للترشيح لولاية رابعة. فالدستور كان يضع سقفا للولايات الرئاسية بولايتين يمكن تمديدها إلى ثلاث، أي أن الرئيس الفائز في انتخابات 1989 و1994 و1999 لا يحق له الترشيح في 2004، غير أن الحزب الحاكم المسيطر على البرلمان سن قانونا يُجيز إجراء استفتاء في مثل هذه المسائل، وأجري لاحقا استفتاء في 2002 أتاح تعديل الدستور وترك الولايات الرئاسية مفتوحة من دون سقف، ما جعل المعارضة تعتبرها تمهيدا لعودة الرئاسة مدى الحياة في أيام بورقيبة.
وتجلت تلك النزعة بوضوح في الحملات الإعلامية التي سبقت الحملة الانتخابية الرئاسية في 2004 ورافقتها، والتي لم تتسم فقط باختلال كبير بين حملة مرشح الحزب الحاكم وحملات منافسيه الافتراضيين، وإنما خاصة بطغيان عبادة الفرد ووضعه فوق المؤسسات، أي في منزلة لا تخضع للمنافسة. وكانت تلك الأجواء تمهيدا سياسيا وترويضا نفسيا على النتائج المُعلنة، التي أعطت لبن علي 95 في المائة من الأصوات ولمنافسيه مجتمعين 5 في المائة.
أما في الانتخابات البرلمانية التي تزامنت معها، فمُنح "التجمع الدستوري" 80 في المائة من المقاعد وتُرك الباقي لخمسة أحزاب (37 مقعدا)، سرعان ما صارت ستة بعد انشقاق عنصر عن "الإجتماعي التحرري" في 2007 ليؤسس "حزب الخُضر للتقدم"، الذي حصل على الترخيص القانوني من وزارة الداخلية يوم التأسيس. وفي آخر تعديل للقانون الانتخابي الذي مهد للانتخابات العامة المقبلة، رفع مجلس النواب من عدد أعضاء البرلمان من 189 نائبا منهم 37 مقعدا للمعارضة، إلى 212 مقعدا منهم 53 للمعارضة. وهذا يعني وضع سقف لا يتجاوز 80 في المائة من المقاعد (وحاليا 75 في المائة) للوائح الحزب الفائز بأعلى الأصوات في الاقتراع، في مقابل كوتا حددها القانون الانتخابي للمعارضة.
وتُشكل هذه المعارضة أقلية في البرلمان لا تأثير لها في صنع القرارات أو سن القوانين، على رغم زيادة الكوتا المخصصة للمعارضة من 20 في المائة إلى 25 في المائة، وهي طريقة أثبتت نجاعتها في استقطاب عناصر كثيرة من المعارضين السابقين وبعض القيادات النقابية بواسطة إغداق الامتيازات عليهم، لقاء إعلان الولاء للحكم. ويمكن القول إن وضع سقف لعدد المقاعد التي يمكن أن يحصل عليها الحزب الفائز بالأكثرية، أتى بوصفه صيغة مثلى لضمان تعدد الألوان في البرلمان نزولا عند ضغوط المعارضة، لكن من دون تكريس انتخابات حرة وشفافة ومنافسة متكافئة بين الفرقاء. فاستمرار سيطرة وزارة الداخلية على العملية الانتخابية في جميع مراحلها، واستبعاد خيار تشكيل لجنة انتخابية عليا محايدة، جعلا التعدد شكليا والانتخاب صوريا، لأن الحزب الحاكم هو الذي ينتقي عمليا "الفائزين". ولم يجد الحكم غضاضة في الإعلان عن تشكيل مرصد للانتخابات مؤلف من شخصيات قريبة من الحكم، من دون استشارة المعارضة أو أخذ رأيها في اختيار أعضاء المرصد. لكن عندما طرح الديمقراطي التقدمي فكرة استقدام مراقبين دوليين لمتابعة المسار الانتخابي، أسوة بما حدث في المغرب وموريتانيا واليمن وفلسطين ولبنان وسواها، سارعت الحكومة إلى إعلان رفضها بقوة لما اعتبرته "نيلا من السيادة الوطنية".
وبالنظر إلى تشابه الظروف التي جرت فيها الانتخابات الأخيرة، وتلك التي تجري فيها انتخابات هذا العام، لا يُتوقع أن تتغير بنية البرلمان. فالجميع يعلم النتائج سلفا، وكل ما هناك هو مراجعة كوتا كل حزب من أحزاب الموالاة تبعا لتباعد أو تقارب المسافة بينها وبين رأس الحكم. أما الانتخابات الرئاسية فجديدها الأبرز هو محاولة الديمقراطي التقدمي كسر إطار اللعبة بترشيح أمينه العام السابق المحامي أحمد نجيب الشابي من خارج اللعبة المرسومة، وكان أول حزب يُعلن عن اسم مرشحه للرئاسة منذ مطلع 2008. لكن الحكم رد على المبادرة بمناورة تمثلت بإحالة مشروع قانون استثنائي على مجلس النواب يُجيز لجميع الأحزاب المرخص لها ترشيح زعمائها المنتخبين للرئاسة، ما يعني إعفاؤهم من شرط الحصول على ترشيح ثلاثين نائبا أو رئيس بلدية. لكن القانون، الذي صدق عليه البرلمان سريعا بغرفتيه، رمى لكسر قرار اللجنة المركزية ل"الديمقراطي" بترشيح الشابي، مع إفساح المجال في الوقت نفسه أمام الأمينة العامة للحزب، مية الجريبي، لتكون هي المرشحة. إلا أن الهيئات الحزبية بما فيها أمينته العامة، رفضت الغواية وتمسكت بمطلب حرية الترشيح للرئاسة، مُعتبرة أنه ليس من حق مرشح الحكم "استخدام قوانين على المقاس لانتقاء منافسيه". وباشر الشابي حملة انتخابية استمرت نحو عشرين شهرا، قبل أن يُعلن في أواخر آب/ أغسطس 2009 انسحابه من العملية برمتها، قبل يوم واحد من انطلاق تقديم الترشيحات للمجلس الدستوري، مُحملا الحكم مسؤولية "هدر فرصة جديدة لإجراء انتخابات حرة وشفافة تعكس إرادة الشعب". واعتبرت وكالات الأنباء العالمية بعد تلك الحركة أن "أهم منافس لبن علي انسحب من الانتخابات". لكن الحملة الانتخابية جرت في إطار مربع صغير حدد الحكم تخومه على نحو كرس سيطرة إعلامية مطلقة للمرشح – الرئيس، فيما همش منافسيه المفترضين بمن فيهم مرشحيّ الحزبين المواليين. انتقال الى التعددية؟
من هذا العرض لتطور النظام السياسي في تونس عبر أربع محطات انتخابية، يتضح أن البلد انتقل من برلمان الحزب الواحد إلى التعدد بعد 38 سنة من الاستقلال. لكنها تعددية شكلية لأن مفتاح البرلمان ظل بأيدي الحزب الحاكم وأجهزته الإدارية والأمنية التي تتحكم بسير العمليات الانتخابية. وحذت تونس في هذا المجال حذو بعض البلاد العربية التي لجأت للتعددية الشكلية لإخفاء قبضة الحزب الواحد على الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية. وعلى صعيد الرئاسة، ارتدَت تونس بموجب استفتاء 2002 إلى مرحلة الرئاسة مدى الحياة، التي بدا أنها تخلصت منها في أعقاب تنحية "المجاهد الأكبر" في 1987. وأتت هذه الواجهة التعددية لامتصاص الضغوط الخارجية (الأميركية والأوروبية) التي اشترطت تطوير النظام السياسي لاستمرار الدعم الاقتصادي. وفي هذا الإطار، تعهدت تونس بموجب اتفاق الشراكة المُوقع مع الإتحاد الأوروبي في 1995 التزام التعددية واحترام حقوق الإنسان. إلا أن البرلمان الأوروبي شكك في بياناته المتكررة بالتزام الحكومة التونسية بتلك التعهدات.
قصارى القول أن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية أعادت إنتاج النظام السياسي السابق بما حافظ على مصالح الفئات الاجتماعية المستفيدة منه، وهي في الغالب من أفراد الأسرة الحاكمة أو التي تربطها علاقات مصاهرة معها، والتي استثمرت سياسة الانفتاح الاقتصادي لشراء العديد من المؤسسات العمومية المعروضة للخصخصة، والفوز بصفقات تجارية بطرق بعيدة عن الشفافية. والأرجح أن الفراغ السياسي الذي يسعى الحكم لتكريسه افساحاً أمام هذه الفئات، سيكون حافزا لظهور جماعات صغيرة متشددة تتجاوز القوى السياسية التقليدية وتسعى للقيام بأعمال فردية عنيفة لمحاولة خلخلة الوضع، أسوة بالجماعة المسلحة التي اشتبكت مع قوات الجيش في الضواحي الجنوبية للعاصمة في مطلع سنة 2007، وبخاصة مع استمرار الصراع في الجزائر المجاورة مع "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.