: عمدت على مدار 3 أسابيع الى التوقف الجزئي عن الكتابة .., الا أن اهتمامات الوطن والاقليم والحدث العالمي لم تغب عني .. كان أحد الأصدقاء المخضرمين في الحقل السياسي يهاتفني بين الفينة والأخرى متسائلا عن معنى الكتابة في الشأن الوطني خاصة بعد نشر مقالي الشهيرين عن تونس والذان حملا عناوين قطعت فيها الشك باليقين : - تونس : سجناء سياسيون , منفيون ورئاسة مدى الحياة...! - تونس : بيعة قروسطية أم انتخابات !؟ في الحقيقة يعلم الجميع أنني كنت ومنذ سنة 2005 من أكثر السياسيين والاعلاميين المستقلين دعوة الى طي صفحة الماضي بين السلطة والمعارضة ومن ثمة الانخراط في مسار عادل وشامل للمصالحة الوطنية .. زيارتي لتونس نهاية سنة 2008 كنت قد مهدت لها بخطاب ايجابي جدا تجاه السلطة حتى خالني البعض قد غادرت صفوف المعارضة .. , ولكن تطورات الوضع الميداني على ضوء زياراتي الثلاث للوطن أكدت لي أن السلطة أرادت التخلص مني كصوت حر في البرية أكثر من رغبتها في البحث عن حلول منصفة وعادلة لملف المبعدين السياسيين الذي مرت عليه الان فترة تناهز العقدين... قابلت السلطة دعوتي الى المصالحة الوطنية على مدار سنوات خمس ودعوتي الى مراجعة طروحات الفكر الاسلامي الوسطي باتجاه مزيد من الانفتاح والاعتدال والتجديد والمشاركة باستصدار حكم في شأني بسنتين سجنا مع تأجيل التنفيذ ووضعي على ذمة قضية ثانية هي من مخلفات حقبة ولت وانتهت .. لازلت أذكر مرارة يوم الثامن من جانفي 2009 حين حللت بالوطن مادا يد الصفح والمصالحة , فاذا بعناصر أمنية تأخذني الى الزنزانة مدة ساعتين تقريبا ..مع اخراجي وادخالي الى الزنزانة موثق المرفق بكلبشات في يد متهمين في قضايا حق عام ... فهمت الرسالة يومها وجددت العهد مع الله ومع النفس بأن أحيى رجلا وأموت رجلا حتى يرفع الله هذه البأساء والضراء عن وطننا تونس .. قابلوا رسائلي الايجابية وخطابي المعتدل ودعوتي الى المصالحة ومراجعاتي الفكرية والسياسية بضحك على الذقون وغدر لايليق بأنظمة ترفع شعار التحديث والقانون والمؤسسات ... لم أواجه محاولات اذلالي بذل وخنوع بل عدت بفضل الله الى الميدان فارسا من بين فرسان يعدون بالعشرات والمئات في وطن أرادوا تحويله الى مزرعة يروض فيها الشعب بنظام التسخير والولاء الناجم عن القهر والخوف والكذب الدعائي الممول من الضريبة العمومية .. حدثونا قبل عشرين سنة عن ربيع الديمقراطية القادم ..., وعن الغاء الخلافة الالية وعن انهاء حقبة الحكم الرئاسي الأبدي وعن وضع حد نهائي للظلم ..وجعلوا بيننا وبينهم المصحف الشريف حكما وفيصلا وبأغلض الأيمان ...! . واليوم لاندري ماذا نقول !!!؟ انتهى الحكم الجمهوري على مايبدو وهاهو الرئيس بن علي يجدد للمرة الخامسة على التوالي في سن الثالثة والسبعين ..ولاأمل في الأفق بالتنحي عن السلطة سنة 2014 ... انها العودة بتونس الى مربع الثمانينات والصراع غير السلمي على السلطة ..وهو مافتح الوضع العام على أبواب الانقلابات والاضطرابات وافلاس الخزينة العمومية والانتهاكات العظيمة لحقوق الانسان... نفس المربع نعود له اليوم من جديد ..وقد تبخرت وعود بيان السابع من نوفمبر الذي بشر بعهد جديد .., ومازال البعض يتحدث عنه في وسائل الاعلام وبنفس الكلمات "جديد" ! , برغم عدد المعتقلين السياسيين الذي بلغ مالايقل عن ثلاثين ألفا ..وبرغم عدد المنفيين من المعارضين الذين يعدون هم الاخرين بالالاف ..وبرغم المئات من ضحايا التعذيب الذين شلتهم الأمراض العضوية أو جعلتهم يفارقون الحياة أشهر أو اسابيع قليلة بعيد مغادرتهم للسجن... أحزاب محظورة من اليسار والوسط واليمين وجمعيات ممنوعة ومؤتمرات لجمعيات ونقابات تم وقف تنفيذها بفعل "استقلال القضاء"...! اعتقالات خارج اطار القانون ..وبوليس سياسي يفعل بالمعارضين والمطالبين بتصحيح الأوضاع مايشاء .. تحقيق مع البسطاء والفقراء في المكتب التنفيذي الشرعي لنقابة الصحفيين , وغض للبصر عن العشرات والمئات من المقربين ممن يتصرفون في المال العام بحرية مطلقة كي يصبحوا المالك المحتكر لكل مؤسسات الدولة وأكبر شركاتها ووحداتها المنتجة ..ومن ثمة يصبحوا الواجهة الأخرى لدولة أصبحت سيرورتها خارج اطار القانون والدستور بمعناه الموضوعي والمجرد... انتخابات مهزلة تفصل على مقاس أعلى هرم السلطة ومصالح أقليات امتهنت المباركة لكل من هو قاهر ومتغلب حتى يأتي مايخالف ذلك ..! - الله ينصر من صبح !!!... ضاعت الجمهورية وانتهت وأصبحنا أمام نظام جملوكي من طراز عجيب ...! مرشحون للرئاسيات ممنوعون من المشاركة بفعل مجلس وصف ظلما بالدستوري .., فالدستور حين ينقح من أجل تأبيد السلطة ومنع زيد أو عمرو من الترشح لانسمع صوتا لهؤلاء ...! , أما حين يراد للانتخابات نتائج الملك العضوض والحكم القاهر والمتغلب فحينها تجد المجلس الدستوري حريصا على اعلاء صوت الدستور والقانون ...! مبارك عليك أيها الشعب التونسي ماسيعلن عنه من نتائج الانتصار الباهر لعظمته ,,, وأبشر من الان بنسبة تسعينية هي نفسها التي حولت بورقيبة الى حاكم أبدي لم تخرجه من القصر الا محاولة انقلابية نحمد الله على نجاحها وبشكل ابيض... من يحكم تونس اليوم ؟ , ومن يعتقل شبابها ويحاكمهم بشكل شبه يومي وبقانون لادستوري ؟ , ومن يصر على التشفي من المعارضين بابقائهم في المعتقلات والمنافي وخارج اطار المشاركة السياسية الفاعلة والايجابية والسليمة ؟, ومن يعتدي على معارضين بارزين بمجرد حلولهم بمطار تونسقرطاج الدولي بعد مشاركتهم في حصص تلفزية أو ندوات سياسية بأوربا أو بالدوحة ؟ ... من يمنع الشابي والمرزوقي وبن جعفر من المشاركة في الاستحقاق الرئاسي ؟ ومن يسقط قوائم أحزاب المعارضة الحقيقية من المساهمة في الاستحقاق التشريعي؟ , من يضع الدكتور صادق شورو مدة عشرين سنة في السجن ؟ .., ومن يصادر حق التونسيين في الاعلام الحر ويشجع أو يحرض على قرصنة المواقع الاعلامية الجادة والمستقلة - كما فعل يوم أمس مع موقع صحيفة الوسط التونسية وموقع المؤتمر من اجل الجمهورية ومواقع أخرى ...؟ من ومن يفعل بنا كل هذا ...؟ ...هل هي مجرد اخطاء بسيطة يرتكبها موظفون عاديون وساسة مغمورون أم ان هناك خيطا رفيعا يجمع بين كل هذه السلوكيات المتخلفة...؟ لست سفيها ولست بالخب ولاالخب يخدعني ! ...والجواب لم يعد يحتاج اليوم الى كبار المحللين السياسيين وعمالقتهم... اننا أمام نظام سياسي منغلق ومتخلف يعامل التونسيين بعقلية أنهم سفهاء وقصر ومتخلفون ذهنيا ...! ليس هناك مواطنة في تونس تحترم ولاحقوق انسان تراعى ولاتقاليد تراعي أسس دولة القانون والمؤسسات .. ليس ثمة فصل بين السلطات الثلاث الا على الورق , أما الواقع فهو يقول بأننا أمام دولة تتراجع يوما بعد يوما عن تقاليد الاستقلال في مجالات التنمية السياسية برغم محدودية هذه التقاليد وعدم تلبيتها لطموح التونسيين ..و هو مايحتم علينا اليوم النضال السلمي والمدني المثابر من أجل استرجاع الحدود الدنيا للكرامة والمواطنة والحرية وبما يضعنا من جديد على سكة الاستقلال بمعانيه الحقيقية وليس المزورة ... والى أن ألقاكم في مصافحة قادمة أقول لكم دمتم في رعاية الله.. *حرره مرسل الكسيبي بتاريخ 2 أكتوبر 2009 للاتصال بالكاتب : [email protected]